هل أخطأ وائل حلّاق في حق إدوارد سعيد؟
"سأوضح أهم الأسباب التي أدّت إلى فشل سعيد ومعه حقل الخطاب الواسع الذي أنتجته كتاباته، في إجراء بحث أعمق كان سيصطدم مع مواقفه (أي إدوارد سعيد) كناقد ومفكر ليبرالي". (وائل حلاق من كتابه "قصور الاستشراق").
هناك مراجعة تدقيق صعبة يحتاجها الباحث، للنظر في جدل فلسفي متقدّم بين شخصيتين ذات عمق ومكانة فلسفية كبيرة، غير أن هذا النص لوائل حلّاق، ومعه بعض العبارات التي تتسم بالقسوة، يمكن أن تفتح الباب إلى أهم نقد في "قصور الاستشراق"، أشار إليه كاتب هذه السطور في المقالين السابقين لأهميته، وأكد فيهما على المشترك المركزي بين حلّاق وسعيد. وهو ما يمكن تسميته الفارق بين النقد الموضوعي والثأر النقدي، الذي يظهر في عباراتٍ متعدّدة لحلّاق، وهي عبارات قاسية أو معمّمة أو مؤولة يختطّها المؤلف ضد قرينه الفكري، لا يلزم منها أن تكون مفرّغة من المادة العلمية المشروعة، وإنما حالة غضب ثقافي لخطأ حقيقي أو تقديري رآه، ولكن قسوة الحكم هنا تضعنا أمام منظور معرفي أخلاقي، هل فشل سعيد وأين فشل؟
وهنا مدار بحث مطوّل عن ماهية خطاب حلّاق الذي يفرز سعيد، وسبب فشله كونه منظّراً
ضمن الليبرالية العلمانية الإنسانوية الحديثة، (وأصولها المشتركة مع التنوير الغربي المعاصر) وأن ذلك كان دافعاً بأن لا يُجسّد سعيد في "الاستشراق"، ما يكفي من استدلالٍ أعمق للمسؤولية الأساسية، عن الروح المنحازة للمستشرقين، حيث تشكلت ثقافة سعيد من ذات هذه (الإنسانوية العلمانية).
وعليه (بحسب حلاق) فإن عرض سعيد سطحيٌّ، وليس جذرياً، خصوصا عند اعتماد سعيد على البعد الخطابي الذي يجمع المستشرق في زمن الاستعمار الغربي، مع الأديب والمسرحي القديم جداً، وهي قضيةٌ لها دلالتها الفرعية، كما أن قدرة حلّاق المتفوقة قطعاً، على سعيد في رصد التراث الإسلامي، وقراءة مقاربته عبر رد الاعتبار للشرق الخصم للمستشرقين، كروح حضارية أكثر من مساحة جغرافيا بشرية، يُفهم من خلالها نص سعيد، وهذا فارقٌ واضح.
ولسنا هنا نفرض أنفسنا حكما بين الجدل الذي يثيره حلّاق، لانتماء سعيد للمنظومة الليبرالية العلمانية التي صنعت إنسانوية منحازة، وبين نزعته التي تأخذ بعداّ يسارياً أوضح في نقد المنظومة. وعليه، يطرح حلاق رؤيته الجديدة، الأكثر تدليلاً، والتي تقف أيضاً بإنصاف مع الجانب الإيجابي لمستشرقين، أهملهم سعيد. ولكن في النهاية المحصلة واحدة، في آثار الرحلة الثقافية الكولونيالية للغرب، وهي تحديد معالم الشرق، بناءً على منظومة مصالح عميقة التوحش، تلطخت بها المؤسسة الثقافية الغربية الحديثة، بكل أبعادها الفنية والأدبية ودراساتها الفكرية.
وكأنك تقول إن هناك دراستين لمنظومة الفن السينمائي الهوليوودي، تنتهي بفداحة انحياز هذه
الصناعة ضد العالم الجنوبي، خصوصاً الشرق المسلم، غير أن إحدى الدراستين أجرت مسحاً أوسع وأكثر مصادر من الدراسة الأخرى، مع أن الدراسة الأولى أتت في وضع غيبةٍ كبرى لمعايير النقد لمآلات التحريض الهوليوودي، وكانت تخوض معركتها بشجاعةٍ بالغة، وإصرار يواجه فيها الباحث، قوية وعقيدة فكرية صعبة، لا تعترف بأي مدارات نقدٍ خارج منظومتها.
هذا بالضبط أفضل تصوير لخلاف حلاق مع سعيد، فهنا سعيد واجه تلك الحملة الشرسة من المؤلفات والمواقف، بعد أن أحدث كتابه هزةً عالمية، جعلت من مجرّد نقده ومقاربة مؤلفه مادة مستحقة النظر في عالم التداول الغربي المعرفي، ولذلك اختار حلّاق أن يربط كتابه وتحقيقاته وخبرته الفلسفية بكتاب "الاستشراق"، وهذا، وكما جاء سابقاً، لا يعني قصوراً في شخصه ولا فكره.
ولا يمكن لهذا المقال أن يستعرض كل جوانب النقد الصحيحة أو الخاطئة التي وجهها حلّاق
لسعيد، وإنما يعرض نماذج محدودة، بعد أن حرّر كاتبه المفصل الرئيس كوجهة نظر لباحث له سياق مختلف، مع الجدل الفلسفي الغربي الحديث. ومن ذلك إغراق حلاق في نقد دمج سعيد الأديب اليوناني، أسخيليوس، مع حركة الاستشراق في جغرافيا الغرب، مع أن اليونان في الشرق، وهنا غفل حلّاق عن الجغرافيا البشرية والثقافية المتحدة للغرب، والتي تعتبر اليونان وتاريخها الثقافي الفلسفي جزءًا من تاريخها الفكري، استقلالاً أو في مواجهة الشرق، وسعيد
ذاته ناقش دوافعه في الاستدلال بالنص الخطابي، من دون أن يهمل مسألة الدراسات الأكاديمية، محاولاً ربط الصورة النمطية للشرق التي سخرتها الكولونيالية، لصالح شركة الهند الشرقية ومجمل المشروع الاستعماري الغربي.
أما المسألة الثانية كدليل للمبالغة في التعقب، فهو ادّعاء حلاق إسقاط سعيد من سبقه، من نقاد عرب وقفوا على مفهوم هذا الانحياز وأعطوا إشارة البدء، وخصص أنور عبد المالك (الملك) المفكر المصري الماركسي، وهذا غير صحيح، فأنور حاضر في كتاب الاستشراق، وشخصياً تعرفت عليه من خلال طرح سعيد نظريته في الكتاب.
وهنا نعود إلى مدار الخلاف في تحديد معالم التيار الفلسفي الذي ينتمي له سعيد، ونزعته الليبرالية وما يبني عليه حلّاق بعض أخطاء سعيد، خصوصا في إغفال الطرف الشرقي وعرض جوانب حضارته، فهل كان هذا الإغفال بسبب موقف مناهض من سعيد أو محتقر للشرق، إذاً هذا يخدم لب الكولونيالية! ويتناقض مع خلاصات كتابه، أما ما يبرز للقارئ بأن جهل سعيد بالأفق الحضاري لفكر الشرق، خصوصا الإسلامي، الذي يعتني به حلّاق اليوم، كان قصوراً معرفياً، فلم يمنعه من تعرية الانحياز الغربي.
وكون سعيد محسوباً على النطاق الثقافي للمنظومة الغربية لا يلغي تقدير موقفه وكتابه الذي وجّه صفعة لذلك التاريخ الأكاديمي، ليس لإسقاط منجزات هذا التاريخ، ولكن لفضح انحيازه المسرف ضد إنسان الشرق وحضارته، وتحويله إلى نسق مادّة لا حركة إنسان، ونهضة روح وعمران، وهو المدخل الذي جعل لكتاب حلّاق هذا الحضور الجديد، والذي يمثّل إضافةً تعني بالتأكيد نجاح إدوارد سعيد لا فشله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق