الثلاثاء، 3 ديسمبر 2019

تقاعس المصريين عن توقع الحرب الإثيوبية القادمة لن يمنع اندلاعها


تقاعس المصريين عن توقع الحرب الإثيوبية القادمة لن يمنع اندلاعها

د. محمد الجوادي

منذ عشرين عاماً صادفتُ في إحدى المستشفيات الخاصة زميلين زوجين من أساتذة الطب وفهمتُ أن الزميلة على وشك الوضع بعملية قيصرية بناء على تطورات الحمل، وأن الجرّاح وأستاذ التخدير موجودان بالفعل في المستشفى، وسألاني هل أقبل أن أناظر الحالة طبياً تمهيداً للتخدير فرحبْت، وبحكم الزمالة بقيت معهما بعض الوقت، ثم عُدت إليهما بعد أن انتهيت من عمل في المستشفى، فوجدت الولادة تمّت بسلام لكن زميلنا مشغول بترتيب كثير من الأمور الطبية المتعلقة بالعقاقير، فاستأذنني أن أتصل بوالدي الزوجة لأطمئنهما أولاً، وليعتذرا عن ترتيبات السفر التي كانوا قد بدأوا فيها حيث كان من المقرر تبعاً للصرعة التي سادت في تلك الأيام أن تضع الوالدة وليدها في الولايات المتحدة الأمريكية، ومع أن شركات الطيران كانت تتخذ إجراءات صارمة لمنع سفر من وصلن إلى الشهر السابع في الحمل، فإن التيسيرات المصرية المُعتادة حلّت المشكلة، وهكذا فقد أعدت الحقائب والتذاكر والفنادق وكان كلُّ ذلك جاهزاً للسفر في صباح الغد إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

كنت أتوقّع أن والدي الزوجة سيكونان سعيدين بأن الله سبحانه وتعالى نجا ابنتهما من متاعب السفر ومشاق الرحلة، لكني فوجئت بحالة شبيهة بما يُسمّى في علم النفس الإنكار أو عدم التصديق، فهما مُصمّمان على أن الولادة ستتم في الولايات المتحدة الأمريكية خلال شهر، وأن كلّ شيىء قد تجهز لهذا وأنه لا يُمكن بحال من الأحوال أن يُفركش كل ما تم تنفيذه، وأن يسمح بالولادة المبتسرة كما نُسميها في الشهر السابع من الحمل، كنت ودوداً بما فيه الكفاية مع الأبوين الأكاديميين، مُعبراً عن سعادتي بأن اتصالي بهما كان في مناسبة مُبهجة، وحاولت أن أغير الحديث إلى الاسم الذي يختارونه للوليد فإذا بي أفاجأ مفاجأة أخرى وهي أن معلوماتهما بناء على فحص مُبكر بالموجات فوق الصوتية تقول بأن الوليد سيكون بنتا لا ولداً، وهذا وارد ولكن في ندرة الندرة بسبب تقدم ودقة التصوير بالموجات فوق الصوتية لكن هامش الزيغ التصويري موجود لا يُنكره أحد كما أن هامش الخطأ البشري في قراءة ما هو موجود وارد أيضاً.
  
لا أستطيع أن اتجاوز عن تنبيه كلّ مصري (في السلطة أو في غيرها أو في السجون او في المنافي) إلى حقيقة أن خطوات الحرب الوجودية المتصاعدة تتوالى، وعجلتها تسير بانتظام، ونارها تقترب
أصبحت القضية على نحو ما لخّصها مدير المستشفى الذكي المُحب للمعابثة: أيُّهما أفضل بنت أمريكية أو ولد مصري؟ وحاولت معه أن أفهمه أن الولد قد يُصبح أمريكيا، فقال لي بحسم إنني أصبحت خارج التاريخ، ولا أعرف ما يحكم عقل الشارع المصري في ذلك الوقت، ولن أشغل القارئ بما يُمكن له أن يتوقعه من الإشكالات التي واجهت أستاذ التوليد وأستاذ الفحص بالموجات فوق الصوتية وأستاذ المعمل.. الخ، لكن يكفيني أنني أذكر انني كنت الطبيب الوحيد الذي شارك في الولادة من بعيد، ومن دون أن يكون له حظ من مشكلاتها وإن كان هو الذي تولى تبليغ الجدين. لكني مع هذا لا أستطيع أن أمنع عن القارئ معلومة مهمة علمتها فيما بعد، وهي أن حجز الطيران إلى أمريكا لم يتم الغاؤه إلا بعد أكثر من أسبوع من الولادة.. وكأنه كان هناك أمل في إعادة الوليد إلى بطن أمه، ثم إخراجه من هذا البطن في أمريكا وليس في مصر.

أنتقل من هذه القصة نقلة خفيفة إلى ثورة يناير 2011 حين كنت أقول لجميع الأطراف (بما فيها الإخوان والسلفيون والقوات المسلحة والحزب الوطني والفلول) إنهم يتعاملون مع الأمور وكأنهم ينتظرون مولد الثورة في موعد محدد، بينما الثورة وُلدت قبل موعدها على نحو ما يحدث في الأطفال المبتسرين، وكنت أقول للجميع إنه لا بد من منظومات علاجات مشكلات الابتسار (بدءا من الحضانات وانتهاء بالمتابعة الدءوبة)، ومع أن الجميع اقتنعوا بصواب الحكم على الأمور وبدقة التشبيه فإن أحداً، على الإطلاق، لم يفد منه الفائدة الجوهرية. بعد هذه النقلة الخفيفة أصل إلى موضوع الحرب الأثيوبية التي أعلنت منذ تمَ الإعلان عن إقامة السد، وتصاعدت وتيرة إعلاناتها في اليوم نفسه مع الإعلان عن التوسع في السد على خلاف الخطة، ومع محاولة الإسراع في التنفيذ والملء وإعلان العداء أيضاً، ومع هذا كلّه فإن جموع المصريين بمن فيهم كبار رجال القرار من مستوياته المختلفة في الحكومة وغير الحكومة مُصمّمون تصميماً لا أصل له ولا مرجعية له على أن الحرب لن تحدث، وهم يظنون أن تواكلهم ورفضهم للحرب، وتهاونهم يكفل للحرب ألاّ تقع بينما الحرب بدأت بالفعل، وآخذة في التصاعد.

وباختصار شديد فإن سد أثيوبيا من وجهتي النظر الهندسية والاستراتيجية ليس إلا عملا عدائيا ضد مصر ووادي النيل سواء تم بناء السد أم لم يتم، وسواء عاش أم انهار، فهو في كلّ الأحوال مصدر لمتاعب لا حدود لها لمصر، وفي المقابل فإنه لا يُحقق فائدة ذات قيمة استراتيجية لأثيوبيا، وأقصى ما يُمكن أن يُحققه هو 5 آلاف ميجاوات من الطاقة تُناظر الطاقة التي تُولّدها محطة "الشعيبة" في المملكة العربية السعودية، وهي محطة لم تستدع كل هذه الحروب التي بدأت إثيوبيا تتجه إليها بكل قوة من دون أن يعلم أحد على وجه دقيق حدود ما تريده إثيوبيا ومن وراء إثيوبيا بهذه الحرب المؤكدة، ومن هذه الحرب المجهزة، نحن نفهم أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يريد أن يبني سداً أو جداراً في جنوب دولته أمريكا يفصلها عن المكسيك، ونفهم من هذا أنه يظن هذا الجدار كفيلاً بحماية أمريكا من المهاجرين، لكننا لم نفهم حتى الآن من الساسة الإثيوبيين جدوى إقامة سد بهذه التكاليف، والمخاطر، على نهاية حدود دولتهم ليهدد وادي النيل وليمنع أصول الحياة من الذهاب إلى هذا الوادي في صورة ماء أو طمي.

يتعلق الأمر بالطبع بحروب واسعة النطاق يظن المصريون من ظاهر الأمور أن مصر ليست طرفاً فيها، وهذا من سوء الحظ المعرفي، ذلك أن كلّ شيىء يتم الآن من دون أن تدري مصر شيئا، وسيستمر هذا التعتيم إلى أن تفاجأ الجماهير المصرية بعمل عسكري مضاد لمصر لا يكون بوسع من لم يتجهّز له أن يواجهه باطمئنان أو قدرة، ليست كمية الكهرباء التي سيُولّدها هذا السد لإثيوبيا أولغير إثيوبيا كافية لإقناع أيّ إنسان على وجه الأرض بأنها المُبرر لترتيبات هذه الحرب العدائية الكامنة أو المتجهزة ضد مصر، بينما مصر حتى الآن تظن أن إعلانها عن عدم رغبتها في الحرب لن يُكلّفها إلا خسران نقطة من نقاط حضور مباراة كرة قدم وكأنها بدلا من أن تنال نقطة الحضور وتهزم وتحصل على نقطة الحضور فإنها لن تحضر من الأصل.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق