سلمان العودة.. لم تنته الحكاية
أبو إسحاق الدويري
كاتب وباحث موريتاني
يعرف المهتمون بفكر ومنهج الشيخ العودة أن إسهاماته العلمية والفكرية والأدبية في مؤلفاته ومقالاته ومحاضراته وبرامجه التلفزيونية أكثر وأعمق من أن يحيط بمجرد إحصائها ببليوجرافيًا مجلد ضخم فضلًا عن مقال، فالعودة ممن بارك الله في أوقاتهم العلمية والدعوية.
في عام 1430ه- 2009م وصلت دروسه العلمية في التفسير والحديث والعقيدة حوالي 273 درسًا، وبلغت محاضراته العامة الأخرى في الفكر والسياسة والتربية والوعظ والنقد الاجتماعي أكثر من 600 محاضرة، وتجاوزت برامجه المرئية عتبة 550 برنامجًا.
قدم الشيخ بعد عام 2009 وقبل أن يُغيَّب قسرًا نهاية 2017 كثيرا من الدروس والمحاضرات، بل إن عطاءه تضاعف في سنوات الربيع العربي لانفتاحه على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا ننس مقالاته التي قاربت الألف، وغالبًا ما تتحول إلى كتب مفيدة.
والشيخ العودة صاحب فكر متجدد ومعالجات غير تقليدية، ففي كل محاضرة أو مقالة يفاجئك بالجديد المفيد، فالإحاطة إذن بما بإسهاماته من المستحيل في مقالة، لذا سنتوقف مع أربعة معالم من خطابه الدعوي والفكري تدحض التهم الموجهة له.
في البدء ناهضَ التشدد
في منتصف الثمانينيات عرف الشيخ سلمان العودة في مدينته بريدة بإلقاء الدروس العلمية والوعظية في المساجد والمراكز الصيفية، والتطرق لموضوعات نقدية غير مطروقة في بلده، وكانت محاضرته “المسلمون بين التشديد والتيسير” التي اشتهر بها أول أمره وقد طبعت في كتيب فيما بعد، ذات دلالة عميقة على ملامح مسار الرجل الإصلاحي والدعوي الحافل فيما بعدُ.
في تلك المحاضرة قدم العودة رؤية معتدلة “متأثرة بهموم محلية كانت لمواجهة تشدد تقليدي عند إخوان بريدة وطبيعة اهتماماتهم الفقهية”1، ولم يطل انتظار الشيخ حينها حتى جاءته الردود من مشايخ بريده ولم يفتَّ ذلك في عضده فقد واصل الدعوة للوسطية والاعتدال، ومنابذة الغلو والتطرف حتى صار رمز الاعتدال والوسطية في السعودية والعالم الإسلامي.
قدم الدكتور العودة كثيرًا من التنظير للوسطية التي يرى أنها “طريقة في التفكير والتعامل والنظر، فهي ترسم معالم الاعتدال في القراءة والطرح والتناول فهي تدخل حتى في الأخلاق”، كما يرى أن “فكرها ومنهجها يتطلبان نوعًا من المناخ المعتدل والأجواء الهادئة والتناول الموضوعي وتعويد المجتمع والناس على ذلك، والمناخ المفتوح في المجتمعات الإسلامية يسهم في صناعة الوسطية”.
وفي مقال آخر رأى أن “من الوَسَطِيَّة مراعاة العدل والاعتدال في الحكم على الناس والأعمال والأقوال، وفي تحديد المسؤوليات، وفي حفظ الحقوق؛ عدل الحاكم، وعدل العالِم، وعدل الإعلامي، وعدل المعلّق”، ومنها عنده “اعتدال الطموحات والأحلام والتطلُّعات والتوقعات والحكمة والبصيرة، واستبطان التجربة الإنسانية، والنظر للمستقبل بتوازن باعتباره جزءًا من السياق البشري المتصل”.
ولم يقتصر العودة على تبيان فضائل الوسطية والاعتدال فقد ذكر مخاطر “الانغلاق والانعزال وسد الأبواب والمنع” مبينًا –فك الله أسره- أن “كل ذلك يشحن النفوس ويدفعها للتطرف ويساعدها على ذلك.. فالنفوس المتوترة مستعدة لكل أشكال الغلو والتطرف”، وفي مناهضته للانغلاق والتكميم جعل الشيخ العودة الحياة كلمة فلم يقبل أن يسد عليها باب.
الحياة كلمة لا يسد بابها
أيقن الشيخ العودة مبكرًا بأن “الحياة كلمة” فاستثمر مختلف الوسائل لبثها في الناس نشرًا للوعي الديني الصحيح واستنهاضًا لهمم المسلمين؛ فكان في زمن الكاسيت الإسلامي نجمه السنيّ بلا منازع، واستطاع في بضع سنوات قليلة أن تتجاوز تسجيلاته المئات “من خلال المحاضرات المتتالية ودرسه الأسبوعي كل أحد في الجامع الكبير ببريدة”2.
مع انتشار تسجيلات الشيخ وإخوانه المصلحين وقوة تأثيرها في الأوساط الخليجية والإسلامية، انبرت بعض الصحف لمواجهة ذلك المدّ الصحوي الجارف الذي “كان مفاجأة وضربة موجعة في توقيتها وطريقته، حيث آلمت القصيبي فجعلته يخرج عن طوره، ويقدم ردًا عشوائيًا وغير مركز ضد رموز الصحوة”3.
هجوم القصيبي الكاسح على “الكاسيت” ورموزه لم يمنع العودة من تقديم قراءة نقدية لـ”لشريط الإسلامي ما له وما عليه”، وبسبب تلك المحاضرة المحكمة أسلوبًا وتنظيرًا ونكاية بالخصم “تعرف على الشيخ جمهور جديد من خارج التيار الديني مثقفون ونخب أكاديمية وتكنوقراط ورجال أعمال وجمهور من العامة.. وبهذا الشريط أعطى الشيخ خطاب الصحوة زخمًا جديدًا وإرباكًا لخصومه”4.
لن نتوقف مع سجال الشيخ العودة والمرحوم القصيبي لأنهما شربا بعدُ كأس الصفاء ورحيق المودة بنبل وإنصاف، وعرف الوزير قيمة الشيخ التنويرية، سيما بعد برامجه التلفزيونية التي اكتسحت الساحة الإسلامية فكان سيد الإعلام المرئي في زمن الفضائيات، فـ”برنامج حجر الزاوية تفوق على كل البرامج والمسلسلات وبزّ معظمها لجهة إحصاءات المشاهدة، هذا فضلًا عن الشعبية الجارفة والممتدة التي يتمتع بها صاحب البرنامج”5.
ولم تكن البرامج العلمية والفكرية الأخرى التي قدمها العودة بأقل ألقًا من برنامج “حجر الزاوية”، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي كان الشيخ العودة نجمها المصلح الأبرز، ولم تنس الجماهير برامج “وسم” و”آدم” و”موسى”، وإطلالاته اليومية على متابعيه من مختلف وسائل التواصل.
حاول النظام السعودي في سنوات الملك عبدالله الأخيرة وتحكم خالد التويجري واللوبي الظبياني محاصرة الشيخ العودة في “زنزانة الوطن الكبير”، فمنعوه من السفر لكن العُودة استطاع حشرهم في الزاوية بفضل مهارته الإعلامية ووعيه بقيمة وسائل التواصل، فجعل من منصات تويتر وفيسبوك ومقاطع اليوتيوب القصيرة وغيرها منارات علم ونور يطلّ منها على الجماهير الإسلامية ينشر الوعي والأمل والإيجابية وقيم العدل والحرية ويناصر الشعوب وقضاياها.
أسئلة الثورة وإجابات النهوض العربي
رغم حضوره الإعلامي المؤثر في سنوات منعه من السفر لم يستسلم الشيخ العُودة لسطوة الإعلام، بل أخذ من وقت تفاعله القوي مع أحداث الربيع العربي، فكتب في أعقابه كتابه البديع “أسئلة الثورة” الذي ركّز فيه على ضرورة اهتمام الحكام وأصحاب القرار برغبات الشعوب، ورصد هواجسهم ثم تلبيات مطالبهم المشروعة حتى لا يحل ما لا يحمد عقباه، منتقدّا ما تسعى له الأنظمة عادة من تهدئة صورية للأوضاع البائسة، منبهّا إلى أن الأجدر اقتلاع المشكلة من جذورها حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة.
يقول الدكتور سلمان العودة ملمحّا إلى الحلول الترقيعية التي اجترحها النظام السعودي اتقاء للثورة: “الخيار الأفضل هو استثمار الوقت الضائع أحيانّا ليس من أجل تقديم بعض الرشى للناس لتخفيف حدة معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية؛ بزيادة الأجور، وإعطاء المنح والقروض الميسرة، وتخفيض أسعار المواد الأساسية، والإعلان عن محاربة بعض وجوه الفساد للصوص الصغار”.
ويقول إن الحلول الجذرية تكمن في “المسارعة نحو مهمة مركزية هي إجراء إصلاحات جدية وجريئة تزع صواعق التفجير الداخلي، بدءًا من تخفيف حضور القبضة القمعية، والتخلي عن الاستئثار بالثورة والأنشطة السياسية والاقتصادية”6.
من الأسئلة المهمة التي طرح الشيخ العُودة في كتابه هل: “الفقه السياسي هل يحتاج إلى مراجعة؟” وقد ذكر الشيخ أن طبيعة الفقه السياسي الاجتهادية توجب مراعاته لتغير الزمان والمكان، وأن الجمود على ما جاء في تلك الكتب التي تصف واقعا معينا في زمن سالف يعرض الفقه السياسي للتناقض، ومن ثم يتأكد وجوب مراجعته دومًا ليوائم متغيرات العصر، ثم ذكر إشكالية الأمير المتغلب في الفقه السلطاني وانتقد الدفاع عنها من لدن بعض منظري السياسة الشرعية.لم يقتصر العودة على أسئلة الثورة والاحتجاج على الظلم وعسف الحكام بل تجاوز تلك الأسئلة إلى إجابات النهوض العربي، ففي سؤال وجهه له الإعلامي عبد الله المديفر عما يسميه الشيخ بـ”المشروع العربي النهضوي” أجاب الشيخ العودة بأن العرب أمة من أمم الإسلام، نزل القرآن بلسانهم فهم المخاطبون الأولون به، منوهًا بتجربتهم التاريخية وبالأرض العربية ذات المساحة الشاسعة والاستراتيجية المهمة لاحتوائها على أهم المضايق الاستراتيجية في العالم.
يقول الدكتور العودة في إجابته إن لكل أمة من الأمم مشروعها الخاص بها، فهناك “مشروع أمريكي، عندنا مشروع أوروبي، عندنا مشروع روسي، عندنا مشروع أسترالي، عندنا أيضًا مشروع تركي، عندنا مشروع إيراني، عندنا مشروع ماليزي”.
ويتحسر الشيخ على حال “العرب كمجموعة من المسلمين، ومن ينتمي إليهم حتى من غير المسلمين ممن هم داخل البلاد العربية، أين المشروع الذي يحتويهم؟ هل يوجد في المنطقة العربية اليوم مشروع يحتوي شعبه، بمعنى: أن هناك انسجامًا ووحدة في التوجه ما بين الحكومات والشعوب واتفاق على أحلام معينة، الجيل الجيد ينشأ في ظلها وينتمي إليها ويتحمس لها؟ أزعم أن هذا الشيء غير موجود، مع أن فرصه موجودة، وبالذات عندنا في المملكة”.
يتأسف الشيخ في إجاباته على تيه النظام السعودي وعلى تضييعه للفرص الهائلة المتاحة له بالنهوض محليًا وإقليميًا وعالميًا، كما عرض لملامح المشروع النهضوي الذي يدعو له، ولمعوقاته وآليات تحققه، والكليات الجامعة للناس عليه، وموقع البلدان العربية المؤثرة كمصر منه، كانت إجابات الشيخ عن مشروع العرب النهضوي تكشف عن منظر استراتيجي لا شيخ بدأ حياته واعظًا ومربيًا لكن الطغاة يضيقون بأرباب العقول الكبيرة المتمردين على زنازين العادات ومواضعات السقوف الواطئة.
تغريد خارج سرب العادات
أدمن الشيخ العودة التغريد خارج السرب التقليدي ومواضعات المجتمعات المحافظة التي تجعل العادات دينًا لا تجوز مخالفته، لكن العادات عند الشيخ العودة مثل “الزنزانة” وتلك “كلمة لم تتسع لها المعاجم واتسعت لها الحياة”، والحياة عند الشيخ رقي عبر “سلالم” التزكية واستمرار التعلم، وحذر من “فخ” العادات التي توهم بعض الناس أنهم تجاوزوا مراحل التعلم أو تغيير العادات.
في كتابه “زنزانة: عادة مدى الحياة” جمع الشيخ مقالاته النثرية التي كتبت بروح الشعر عن فلسفة العادات وتحكمها في البشر، وضرورة المحافظة على الصالح منها، وتغيير الضار منها حتى ولو كان الشخص ذا شأن فثمة “أنبياء وصالحون غيروا بعدما كبروا، شيوخ الصحابة وبعضهم ممن أسلموا يوم الفتح بدلوا قيم الوثنية وعبوديتها بالتوحيد في المناسك والصلوات وعادات البيوت”7.
في تلك المقالات تأسرك شاعرية العناوين وجمال الأسلوب وشمولية التناول وقوة الشخصية؛ ففي وسط مجتمع محافظ حد الفضول يكون تغيير أي نمط من أنماط الحياة مأكلًا أو ملبسًا أو طَرْق مواضيع غير دارجة من المحرمات التي يعنف عليها الشخص ويحاكم، من الأمور الصعبة بل والمستحيلة، وكان جواب العودة لكل تلك الأسئلة المستغربة والمحرجة جوابًا واحدًا “نعم أتغير” لكنه تغير بالترقي في مدارج السالكين، ولذا قال لمن انتقدوه “شكرًا أيها الأعداء”.
من لا يعرف طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل أمًا وبنتًا وأخوات وزوجة في بعض مجتمعات جزيرة العرب لن يقدر قول رجل بمنزلة العودة حق قدره حين كتب: “رزقني ربي بغادة وآسية ونورة، وهن يمنحنني الوجه الجميل للحياة، الحب والعطف والحنان، ولا حياة للمرء من غير قلب يحن ويفرح ويحس”8.
عتبر العودة بناته امتدادًا لأمه ذلك الأصل الدافئ الذي احتضنه، ورباه بعد الله بالفضل والعرفان، ومنحه من حياته وروحه ولغته الشيء الكثير، ومن أمه نورة الْمَدْرسة العظيمة وجد طعم الأمل والرضى والجمال.
يتساءل العودة “إذا كنا نعرف أسماء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته وأمه وحاضنته وقابلته ومرضعته، فلم نستحي من ذكر أسماء أمهاتنا وزوجاتنا وبناتنا…؟” لهذا كتب الشيخ كتابه الجميل وعنونه بـ”بناتي”، معريًا بذلك دعوى الجاهلية العربية الحديثة في تغييب المرأة وحجب اسمها، وكان غلاف الكتاب وتصميمه تجليًا من تجليات إبداع الشيخ مع طرقه لمثل هذا الموضوع.
رغم إسهامات الشيخ العودة العلمية والفكرية القيمة الوفيرة، فإنه منذ عام يواجه تهمة الحكم بالإعدام بسبب ألفي تغريدة في تويتر عكرت أمزجة أنظمة إقليمية تضيق ذرعًا بكل داع للعدل والحرية والخير والجمال، ولن يخيب الله رجاء الأمة في عودة الشيخ العُودة إلى سباق عهده مناهضًا للتشدد، مرسخًا قيم العدل، ومبشرًا بالنهوض العربي، ومغردًا خارج سرب العادات البالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق