هدايا مجانية للسيسي وشركاه
وكأننا "محلك سر"، لم نتعلم أبدًا من تجربةٍ تمتد ست سنوات مارست فيها "مؤسسة عبد الفتاح السيسي وشركاه" لعبة الاستدراج إلى الخطأ المهني والسياسي، بطرود مفخّخةٍ من الأخبار الزائفة والشائعات، تلقيها في طريقنا كما كانت تفعل طائرات العدو الصهيوني في حرب 1973 بإلقاء ألغام في شكل أقلام ولعب أطفال، تنفجر فينا بمجرّد لمسها.
هكذا تسلك دوائر السيسي، تلقي في طريقنا بألغام إعلامية أنيقة، تنفجر في وجوهنا عند استعمالها، فتنطلق أبواق الإعلام الفاشي تتحدّث عن الأمانة والنزاهة والمصداقية والأخلاقية، وتلعب دور الضحية، وتؤسس على الكذبة التي تم ابتلاعها أن كل ما يصدر عن مناهضي سلطة الانقلاب كاذب وملفق.
فعلوا ذلك مبكرًا للغاية، بترويج حواديت من نوعية ديانة أم الجنرال المتصهين بالفعل والأداء، من دون حاجةٍ إلى اختراع قصة التصهين بالدم والانتماء العرقي. وكما وقعوا في فخ شائعة إن السيسي انتهى، ومن يظهر الآن هو شبيه له، وكانت الواقعة الأفدح في العام 2015 حين أطلقوا فتاة عبر الهاتف على ما تسمى "قنوات الشرعية" تتحدّث مباشرة من موقع اغتصابها على يد رجال الأمن في أحد مراكز الشرطة.
موضوع الفتاة المغتصبة كان قصة فقيرة دراميا، إلى آخر مدى، إذ اعتمدت الرواية على اتصال هاتفي من فتاةٍ تحكي أشياء لا يصدقها عقل عن اغتصاب الضابط ومساعديه لها. وفور إذاعتها، كانت مساحات عدم التصديق أكبر بكثير من التسليم بصحة ما قالته، بل إن كثيرين حذّروا من فخ تنصبه السلطة لمعارضيها باستخدام الفتاة، وهو ما ثبتت صحته.
في ذلك الوقت، قلت إن واقعة هذه الفتاة تعيد فتح ملفٍّ شديد الأهمية، يختص بالإعلام المناهض للانقلاب الذي كان يبدو لي، في أحيان كثيرة، غير مكترثٍ بالمسألة المهنية، قدر اهتمامه بالحشد والتعبئة والشحن، بأية وسيلة، غير منتبهٍ إلى أنه كثيراً ما ينتج خطابا زاعقا، ومبالغا في الصراخ، بما يبعده عن الموضوعية أحيانا.
الوقوع في كمين "فتاة الاغتصاب" ما كان ليحدث، لو أنه تم الاهتمام بالحد الأدنى من الضوابط والمعايير المهنية، في معالجة القصة الخبرية، بحيث يتم تدقيق الرواية واختبار صدقيتها من وجوه وزوايا مختلفة، قبل عرضها على الجمهور، تلافياً لمصيرٍ كالذي نحن بصدده الآن، وهي طريقةٌ قديمةٌ وتقليدية، تتبعها السلطات القمعية المستبدّة، على مر العصور لتوريط معارضيها في أخطاء وخطايا مهنية من هذا النوع.
خمس سنوات تفصلنا عن هذه الواقعة، ولا تزال قابليتنا للاستدراج والوقوع في فخ التلفيق قائمة ومستمرة، وآخرها مأساة انتحار طالب في كلية الهندسة من أعلى برج القاهرة، إذ استبدّت الرغبة في استثمار الفاجعة سياسيًا ضد النظام ببعض المعارضين، فزلّت الأقدام والأقلام إلى مساحاتٍ من الخطأ المهني والإنساني، يتوجب الاعتذار عنها، حتى لا يترك المجال مفتوحًا لإعلامٍ يتعيش على صناعة الكذب، ويتغذّى على البذاءة والإسفاف، لكي يظهر في مسوح كهنة المهنة وقدّيسيها وحرّاس الفضيلة والموضوعية.
وأكرّر ما أحذر منه دائمًا من أن هذا الأمر يوجِد الفرصة لمن انقلبوا على كل قيمة أخلاقية، وعلى كل مبدأ حضاري، وعلى كل نزعةٍ إنسانية، أن يتحدّثوا عن الأخلاق والتعايش والحداثة والتقدّم، وذلك كله مردّه أن بعضاً من منافحي الانقلاب قد ابتلعوا الطعم، وهبطوا إلى أرضية الملعب الذي يجيد الانقلابيون الأداء فوقه.
وبوضوح أكثر، يمكن القول إن معارضي الانقلاب كلما سجّلوا هدفاً في مرمى السلطة، يقعون في أخطاء استراتيجية قاتلة، تجعلهم يسجلون هدفين، وربما ثلاثة، في مرماهم، بنيران صديقة، أو غير صديقة أحياناً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق