بين رثائين..
د.أحمد موفق زيدان
كما سجل التاريخ الإسلامي رثاء الشاعر الإسلامي العريق مالك بن الريب التميمي على أنه أول من رثى ذاته بشكل فريد وماتع، شدّ من خلاله الشعراء ومحبي الشعر منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام وحتى الآن، سجل التاريخ الراهن أيضاً كيف رثى نفسه الضابط الطائفي المقدم إيفان ديوب نفسه قبل مقتله بريف إدلب الجنوبي حين كتب آخر منشور له على صفحته على الفيس بوك، وهو يوجه اللوم لنفسه، وقادته والمهمة التي ينفذها على مدى سنوات بقتل المدنيين وتدمير ما يفترض أن يكون بلده يقول في رثائه لنفسه: "أحقر شيء بالدنيا أنو اللي متدافع عنن بيتخلو عنك، باعونا الضباط الكبار للأسف، وتركونا نوقع بين أنياب الإرهاب، هايا آخر منشور إلي وبدي وصيكن وصية، لا تبيعو حالكن برخيص، خلو الضباط الكبار هي توقف على الجبهات، أنا هلق ناطر الموت، انبسطي يا أمي وانبسطي يا مرتي... إيفان راح رخيص".
هكذا رثى من تمكن من أن يكتب رثاءه قبل هلاكه من ضباط وأتباع العصابة الطائفية الأسدية، وهكذا رثى نفسه من تجرأ أن يبوح بما في داخلها قبل أن يرحل، وهو من ضمن أكثر من ربع مليون شاب طائفي قتلوا حتى الآن في محرقة آل الأسد منذ انطلاقة الثورة السورية، ولو هُيء لهم جميعاً أن يرثوا أنفسهم لكان رثاؤهم ربما لا يقل عن رثاء أيوب وربما أسوأ من رثائه، ولا تزال طاحونة القتل الأسدية مستمرة بحق أبناء طائفتها التي تسوقهم لقتل أبناء الشعب السوري وتدمير قدراته وممتلكاته وتشريده واعتقاله وتعذيبه حتى الآن، فلم تكتف بجهودها فقط وإنما استدعت عصابات طائفية واحتلالات أجنبية.
فما قصة مالك بن الريب الذي خرج في جيش سعيد بن عثمان بن عفان مجاهداً لقتال فارس، بينما يقاتل اليوم ديوب وأمثاله وأقرانه وسادته في جيوش فارس والروم ذاتها ضد من يفترض أن يكون شعبهم، ومن حفدة عثمان ومالك بن الريب، خرج الأخير في جيش سعيد مجاهداً ناشراً لدينه حتى إذا أناخ الركب للاستراحة، خلع خفه، ولما همّ بلبسه صباح اليوم التالي كانت أفعى قد اندّست داخله فلدغته، ولمّا أوشك على الموت بدأ يرثي نفسه، فكانت بحق أول مرثاة ذاتية لشخص في التاريخ العربي والإسلامي، فسجلها التاريخ لنا، وردّدتها الأجيال متباهية بألفاظها ومعانيها البطولية، ولا تزال، فخلّدت تلك المشاعر الرائعة التي تسبق موت الفرسان والرجال..
يقول مالك في قصيدته الرائعة:
ألا ترني أني بعت الضلالة بالهدى
وأصبحت في جيش بن عفان غازيا
فقارنوا الآن بين مدح مالك بن الريب لمن شجعه وحثه وحرضه على الجهاد والقتال وبين ما قاله ديوب قبل قليل عن قادة وضباط العصابة الطائفية الأسدية، إلى أن يصل مالك في مرثيته بمدح كل من شجعه ودفعه للجهاد ضد فارس:
أقول وقد حالت قرى الكرد بيننا
جزى الله عمراً خير ما كان جازياً
ولنقارن بين قول ابن الريب كيف ذهب ميتاً، راضياً مستبشراً بما عند الله، وكيف ذهب ديوب رخيصاً، لا يستبشر بشيء سوى تبشيره من وراءه بالحال الذي يصلونها إن سلكوا مسلكه:
فلله دري يوم أترك طائعاً
بنيّ بأعلى الرقمتين وما لي
ثم بدا مالك بن الريب وهو حريص على مدح نفسه، كحرصه على أن يكون عفيف اللسان على أصحابه وأقرانه، بينما رأيت كيف شتم ديوب جماعته وأسياده، ونال من كل شيء حتى ذاته التي خُدعت لسنين:
وقد كنت محموداً لدى الزاد والقرى
وعن شتم ابن العم والجار وانيا
إذن هي المشاعر التي تسبق رحيل الفارس أو رحيل القاتل، لكن شتان بين مشاعر ومشاعر، وأحسايس وأخرى، ولعلّ علماء النفس والاجتماع يزيدون ويحللون ويفسرون مشاعر طائفتين من الجيوش، جيوش الدعوة والجهاد والقتال، جيوش الفرسان، ومشاعر طائفة القتلة المأجورين.. مشاعر جيوش للإيجار...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق