الثلاثاء، 24 مارس 2020

أوغستو بينوشيه والحُكم العسكري في الشيلي

أوغستو بينوشيه والحُكم العسكري في الشيلي

كودري محمد رفيق
24 مارس، 2020
في أغسطس 1973، تم تعيين الضابط أوغستو بينوشيه أوغارتي في منصب القائد الأعلى للجيش الشيلي من قبل الرئيس سلفادور أليندي، وبعد ثمانية عشر يومًا فقط، قاد أوغستو بينوشيه، بتواطؤٍ إن لم يكن بمساعدةٍ من الولايات المتحدة الأمريكية، انقلابًا عسكريًّا ضد الرئيس.

إن حُكم بينوشيه لم يكن الدكتاتورية الأولى، الأخيرة أو الأسوء في تاريخ أمريكا اللاتينية، ولكنها جذبت أنظار الغرب نظرًا لماضي الشيلي الديمقراطي نسبيًّا؛ ففيها انتُخِبت بنزاهةٍ أول حكومة ماركسيّةٍ اشتراكية في الغرب، وكذلك مؤسساتها المستقلة التي جعلتها تبدو أقرب إلى بريطانيا منها إلى إسبانيا، كما لا يُمكن إغفال الدور المشبوه لوكالة المخابرات المركزية (CIA) في الإطاحة بحكومة سلفادور أليندي الاشتراكية.
 

مالذي حدث؟

عند سماعه لخبر الانقلاب، اندفع سلفادور أليندي إلى مقر الحكومة في العاصمة، أين قدّم آخر خطابٍ له في الراديو، ثم أطلق النار على نفسه، اختار الموت مُنتحرا على أن يُزَجّ به في السجن.

أعلن بينوشيه نفسه رئيسًا للمجلس العسكري الذي أعقب الانقلاب.

على الرغم من أن الخطة الأولية نصّت على أن بينوشيه سيحكم لمدة عامٍ فقط، ليخلفه بعد ذلك قادة القوات البحرية والشرطة والقوات الجوية، إلا أن حُكمه استمر حتى عام 1988. وبعد التزامٍ دستوريٍّ كان قد وُقِّع قبل ثماني سنوات، تم إجراء استفتاءٍ وطني، وبشكلٍ غير متوقعٍ له ولأتباعه، صوّت 55% من سكان البلاد ضده.

تقاعد بينوشيه بعد فترةٍ وجيزة في عام 1990، آملًا في أن يقضي ما تبقى من عمره كسيناتورٍ ينعم بحياةٍ هادئة، لكن في عام 1998، احتُجز في بريطانيا للرد على تُهَمٍ تتعلق باختطاف وتعذيب مواطنين إسبان في شيلي أثناء حُكمه، وبعد 18 شهرًا من الاحتجاز سُمِح له بالعودة إلى الشيلي للرد على تُهَمٍ أخرى في المحكمة هناك. كانت هذه المرة الأولى التي يتم فيها اعتقال رئيس دولةٍ سابقٍ بناءً على مبدأ الولاية القضائية العامة.

عاد للشيلي لمواجهة 59 تُهمة جنائية تتعلق بالخطف والقتل والتعذيب، ولكن هذه التهم لم يتم إثباتها أبدا بسبب مجموعة من التعقيدات القانونية، وذلك لأن المحكمة الشيلية حكمت على بينوشيه بأنه غير قادرٍ عقليًّا وبدنيًّا على الإجابة.

توفي في عام 2006 دون الإجابة على هذه التُهم. 
وُضع جسده تحت التُراب، وفوق الثرى كانت سمعته قد تضررت، حتى بين مؤيديه. كان هذا بسبب ما توصلت إليه لجنتين وطنيتين من نتائج تخص الاعتقالات التعسفية، التعذيب، الاختفاء القسري والتصفيات السياسية التي حدثت في ظل دكتاتوريته. أثناء حُكمه، وجّه قواته أولا ضد الحركة الثورية المسلحة والاشتراكيين، الذين اعتبرهما الطرف الأكثر تطرّفًا من بين الأحزاب اليسارية. لكن فيما بعد، لم يكد ينجو أحدٌ منتمٍ لأي حزبٍ يساري.

كثيرٌ من مُسانديه، الذين أيّدوا محاولة بينوشيه لتخليص البلاد مما أسماه “السرطان الشيوعي”، سحبوا دعمهم له بعدما كشَف القضاء عن مزاعم تتعلق بالإدارة السيئة للمال العام، واستغلال ثروات البلاد لصالحه. وعلى الرغم من كل الاتهامات الموجهة ضده، لم يعترف بينوشيه بشيء، بدلا من ذلك، ألقى باللوم على كبار مُساعديه مثل مانويل كونتريراس، رئيس الشرطة السرية سيئة السمعة، على الانتهاكات الفظيعة التي أذِنَ بها هو نفسه.

أثر صعود الليبرالية الجديدة

أحد أبرز الآثار التي خلّفها انقلاب بينوشيه هو مساهمته في تطور نظرية اقتصادية تُعرف بـــ “الليبرالية الجديدة”، والتي يُمكن القول إنها شكّلت اقتصاديات العديد من الدول الغربية الحديثة حتى يومنا هذا. تعني الليبرالية الجديدة في جوهرها تراجع الدولة عن الإدارة الكلية للاقتصاد، وبمعنى أوضح، هي أن تنسحب الدولة تاركةً مكانها للشركات الحرة وللمنافَسَة، كما تترك السوق يحدد قيمة المنتوجات. وعلى النقيض من ذلك، تسعى اقتصادات القيادات الاشتراكية إلى أن تكون هي الجهة المُنَظِّمة للعرض والطلب والأجور.

السنة الأخيرة في رئاسة سلفادور أليندي كانت فوضوية بشكلٍ كبير؛ اتسمت بالمُصادرة الفوضوية للأراضي، الإضرابات، نقص الغذاء والتضخم الهائل، كل هذه المشاكل جعلت من النُشطاء السياسيين يُطالبون بإصلاحات، كما وفّرت الأساس للبدء في عملٍ إصلاحيٍّ اقتصاديٍّ ناقشته مجموعة من الاقتصاديين المحافظين وخططوا له لعقدٍ من الزمن، وتم تطبيقه بعد عام 1973.

قام هؤلاء الاقتصاديون بتجديد التجارة الدولية، كما استطاعوا خفض التضخم، ولكن الوقت أثبت أن بعض الإجراءات التي اتخذوها لم تكن حكيمة، من بينها بيع بعض المرافق الوطنية لشركاتٍ إسبانية، والتي لم تُدِرْها لصالح الشيلي.

لا يزال الجدل مستمرًّا حول إنجازات بينوشيه الاقتصادية، خاصة في الفترة التي تلت عام 1982، عندما تعثّرت خطة اللليبرالية الجديدة. لا يزال البعض يؤكّد أن مشروع بينوشي نجح، بل ويصفه بالمعجزة الشيلية، ولكن الواقع الذي لا يمكن إغفاله هو أن الوضع كان يجري كليا في صالحه في وقت أُعدِمت فيه المُعارضة، وأُضعِف دور النقابات العمالية، وانخفضت فيه أجور البروليتاريا (طبقة العمال) التي حددتها الدكتاتورية العسكرية، كما شهِد الوضع انتهاكاتٍ جسيمةٍ لحقوق الإنسان.

أثر الحُكم العسكري في الشيلي اليوم

لقد اكتشف أولئك الذين نالوا اللجوء السياسي في ألمانيا الشرقية أو الاتحاد السوفياتي خلال حكومة بينوشيه أن الحياة في ظل دولةٍ يسارية لم تكن اليوتوبيا التي بَنَوْها في خيالهم. بعد عام 1990، عاد بعضهم من المنفى بخيبة أملٍ إلى حدٍّ ما، ليصبحوا مسؤولين رفيعي المستوى في مؤسسات وإداراتٍ أكثر اعتدالًا من التي خططوا لها في ظل الحكم الشيوعي. لقد تعلموا أمرًا مهما، وهو أن التغيير السياسي لا يتحقق في لحظة.

ولا تزال تداعيات الحكم العسكري تُكلّف الشيلي إلى اليوم؛ كثيرٌ ممن ناضل بتفاؤلٍ وعانى بشدة تحت حكم بينوشيه، يتساءل اليوم عن قيمة نضاله وهو يرى تدني الأجور وانتشار البطالة وتفشي البؤس وخيبة الأمل في أرباع البلاد.

واليوم، لا أحد يذكر بينوشيه على أنه الرجل الذي أنقذ بلاده، أو طهّرها لاختبار نظرية اقتصادية جديدة، بل يُذكر على أنه الدكتاتور الذي احتُجز دوليا لينال جزاء ما اقترف من جرائم، وهذه نتيجة مهمة قد تجعل كل دكتاتور يُفكر مرتين قبل المغامرة بوطنه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق