الاثنين، 30 مارس 2020

أمريكا والإبادات بأنواعها!



رفع الوعي العام مسؤولية كبرى في عنق القادرين عليه، وهو أولى في حق مثقفي الأمة ووسائل إعلامها. وإن إجادة لغة أجنبية، مع الجلد في البحث والتقصي لمما يسهم في رفع مستوى الإنتاج العلمي والثقافي؛ وتزينه النية الصادقة، والغايات النبيلة، ثم حسن تقديمه للناس وعرضه عليهم كي يستوعبوا عبره، وتستبين لهم السبل؛ والسبل مظلمة ما لم يحمل أهل العلم مشاعل الإنارة، ومصابيح التنوير.
وقد بذل الباحث الدكتور منير العكش أستاذ اللسانيات واللغات الحديثة، ومدير البرنامج العربي في جامعة سَفُك ببوسطن - وهو سوري المولد فلسطيني الاختيار -، بذل جهوداً مضنية، وصرف أوقاتاً طويلة في البحث والتنقيب عن تاريخ الهنود الحمر في البقعة التي تعرف الآن بأمريكا؛ حتى وضع ثلاثة كتب أشبه بالشهادات التاريخية الموثقة. وإنّ نهمه وإصراره لموضع شكر؛ حيث أفاد أبناء أمته التي يُكرر معها السيناريو ذاته الذي قضى على أمم وشعوب تقدر بمئات الملايين.
وفيه استقرأ المؤلف خمسة ثوابت رافقت التاريخ الأمريكي منذ النشأة حتى اليوم، وحددها كما يلي:
- المعنى «الإسرائيلي» لأمريكا.
- عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي.
- الدور الخلاصي للعالم.
- قدرية التوسع اللانهائي.
- حق التضحية بالآخر.
وأورد الباحث قصة وصول البيض للعالم الجديد في القرن السادس عشر وإبادة 112 مليون إنسان على الأقل ينتمون لأربعمئة شعب؛ لم يتبقَ منهم في إحصاء عام 1900م سوى ربع مليون نسمة! وتنوعت وسائل الإبادة ما بين قتل، وسلخ فروات الرؤوس، وصلم الآذان، وبقر بطون الحوامل، وهشم رؤوس الرضع، ونشر الأوبئة والجراثيم، وإحراق المحاصيل، وتدمير المنازل والقرى، ويكفي من شر سماعه!
ومع قبح هذه الجرائم فقد كان المحتل الأبيض يراها «أضراراً هامشية» استلزمتها أعمال نشر الحضارة وتمدين الشعوب! فاللهم أجر أهل الأرض قاطبة من تمدين كهذا! والذي يزيد مرارة هذه الاعتداءات أن هذه العمليات الشنيعة كانت تمول من ريع بيع المختطفين من أطفال الهنود ونسائهم؛ فأي عذاب كهذا؟ وأي خسة تنافس خساسة البيض الغادرين؟
ويترافق مع هذا الإثم الكبُّار تزوير منظم؛ فالضحية تشاع عنها أوصاف الهمجية والبربرية والتوحش، بل يلقى في روع الجند أن هذه الشعوب ليست بشراً، وإنما شياطين تستحق السحق، ولذا تنتفي أي مشاعر إنسانية تجاههم. وبالمقابل تصف الثقافة الأمريكية القتلة الأوائل بأنهم «حجاج» و«قديسون»، وتطلق أسماءهم على المدن والميادين، وتضع صورهم بإخراج جميل على الدولار بفئاته وكأنهم فرسان نبلاء.
ويحتفل كل بيت أمريكي بعيد الشكر في الخميس الرابع من شهر نوفمبر سنوياً، وهو عيد ديني وطني أقدس من غيره، وقلما تجتمع الأسرة الأمريكية كلها في وقت واحد في غيره، وفيه يذبحون ثلاثين مليون «تركي» قرباناً واحتفاء بأسطورتهم التاريخية؛ فهل يعلم القارئ أمة تتخذ من ذكريات القتل والحرق والإفساد والنهب يوم سرور وفرح؟ وأي سفول تنحدر فيه حضارة وأمة إذا كان هذا يوم عيدها وبهجتها؟
ويختصر المؤلف الفكرة التي تقوم عليها أمريكا، وهي مشابهة لفكرة إسرائيل التاريخية؛ وتعتمد على ثلاثة عناصر هي:
1- احتلال أرض الغير.
2- استبدال سكانها بآخرين غرباء واستعباد من يظل حياً من أهلها.
3- استبدال ثقافتها وتاريخها بثقافة المحتلين وتاريخهم.
وكل ما سطره الباحث في هذا الكتاب «المخيف» ليس تاريخاً مضى، بل إنه ركن أساسي في الثقافة الأمريكية، وفي عقيدة ساستها وعساكرها، ومازال اللاحق يتعلم من السابق، وجرائم الحاضر تؤكد استمرار تلكم المجازر التاريخية، فمن ذا يزيل عن عيون أمتنا الغشاوة؟
وفيه ينقل الباحث نصاً لتوماس مكولاي مهندس سياسة التعليم الإنكليزية للشعوب المستعمرة، حيث يقول: «لا أظن أننا سنقهر هذا البلد ما لم نكسر عظام عموده الفقري التي هي لغته، وثقافته، وتراثه الروحي»، وفهم هذا النص الخطير يفسر لنا سر الهجمة الأمريكية الشرسة على مناهج التعليم ومنابر الجمعة، وصدى هذه الهجمة لدى الأتباع ضد الدعاة والقنوات ووسائل التوجيه التي تمثل مقاومة ثقافية للذوبان في مستنقع الغرب الآسن الوحل.
وقد وعى المحتل أن خير طريقة لإفساد ثقافة الشعوب المستضعفة تكمن في استعمال طائفة غير محمودة من أبناء هذا الشعب، يحملون الأسماء ذاتها، ويتكلمون اللغة نفسها، لكنهم يفكرون بعقلية المحتل، ويختارون ما يوافق رغباته. وإنّ جريمة هؤلاء الخونة في حق أممهم من الشؤم بحيث تنتج جيلاً رخواً لا يعرف عدوه من صديقه، وينسى تاريخه وتراثه، وينغمس في ترهات لا تفيد، وحال الشعوب المحتلة ثقافياً أكبر برهان، فاللهم استنقذ أجيال المسلمين من خبل العملاء وإرجاف المفسدين.
ووصف المؤلف المدارس التي أنشئت لتفريغ أطفال الهنود ونزع تراثهم منهم، ولعمر الله إنها لسجون ومعسكرات ومواضع سخرة وليس فيها من التعليم إلا أقل القليل، ونظراً للإهانات البغيضة التي تعرض لها الأطفال، وشملت حتى الاعتداء الجنسي؛ فقد تتابعت عمليات الانتحار بعد فشل محاولات الهروب، وقضى نصف أطفال الهنود داخل هذه المدارس، ودفنوا في المقابر الملحقة بها، ووريت أجسادهم في قبور حفروها بأيديهم الصغيرة، بعد أن كدوا وعملوا ما جلب الثراء للمحتل، حتى إن دخل بعض المدارس زاد عن أضعاف مصاريفها، وبالمقابل لم يجد الأطفال معاملة حسنة، ولا طعاماً سائغاً، وحرموا من الحديث بلغتهم، ومن ارتداء ملابسهم، وحلقت شعورهم حتى تنطمس هنديتهم. إنّ النفوس التي تستعذب فعل ذلك في الأطفال الأبرياء لنفوس متوحشة منزوعة الإنسانية، وإن تنفخوا بها.
وفكرة الكتاب منبثقة من وثيقة عثر عليها المؤلف أثناء بحثه، وقد كتبها هنري كيسنجر عام 1974م بأمر من الرئيس فورد، وكانت سرية حتى عام 1989م، وتهدف إلى قطع نسل نساء 13 بلداً خلال ربع قرن، وهذه البلدان هي: بنجلاديش، باكستان، نيجيريا، إندونيسيا، مصر، تركيا، الهند، المكسيك، البرازيل، الفليبين، تايلاند، الحبشة، كولومبيا.
واقترحت الوثيقة ابتعاد أمريكا من الصورة نهائياً تجنباً لإحراج هذه البلدان وقادتها، مع ضرورة تكليف صندوق الأمم المتحدة للسكان بتنفيذ هذه المهمة، واشترطت أن يدير هذا الصندوق رجل ملون حتى لا يثير الشبهة! وما أدق تفاصيل مكرهم، وأجلدهم على ارتكاب الموبقات.
ومع مرور عقود على هذه الوثيقة، إلا أن المؤمنين بها وبأساسها الذي بنيت عليه لا يزالون يتسنمون أعلى الوظائف العلمية في البيت الأبيض وأخطرها، وقد اقترح أحدهم برنامجاً لتعقيم النساء في العالم يتكون من الخطوات التالية:
1- ضرورة سيطرة الدولة على الخصوبة بالتدخل الطبي سواء بالجراحة أو بالعقاقير.
2- إرغام النساء الحوامل على الإجهاض.
3- تنفيذ عملية تعقيم جماعي للبشر عبر معالجة المنتجات الغذائية شريطة ألا تؤثر على خصوبة الحيوانات!
4- فرض نظام كوكبي لوضع سقف مقبول للتكاثر؛ ويجب على الحكومات أن تتنازل عن سيادتها لهذا النظام، وإلا كانت عرضة للتدخل والعقاب.
واستثمر الأنجلوسكسون النظريات التي جاء بها دارون، وتوماس مالتوس، وغريغور مندل، وهنري سبنسر، وبعض هؤلاء كان للإجرام أقرب منه للعلم، وأبرز مثال الاقتصادي مالتوس الذي لم يرَ بأساً في قتل الضعفاء، ومنع المساعدات الخيرية للفقراء، وكان نصيراً لنشر الأوبئة الفتاكة في أوساط الأعراق الأخرى، ويعتبر موت مواليد الفقراء نعمة إلهية! ولهذا الرجل تأثير كبير على كثير من الساسة الكبار في بريطانيا وأمريكا، وحالياً يتولى الشؤون العلمية والتقنية في البيت الأبيض رجل متأثر به وبأفكاره ولا يتخذ أوباما قراراً بهذا الخصوص قبل استشارته!
وتحت مظلة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية - وهي ذراع لوزارة الخارجية ولوكالة الاستخبارات المركزية -، وباسم الرحمة والمساعدات الإنسانية سعت أمريكا لتخفيض سكان العالم الثالث، ونفذت إجرامها في عدة بلدان في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى، ورصدت لهذا العمل ميزانيات ضخمة، وجندت له جامعات عريقة، وكليات طب متقدمة، بل وأسهمت المؤسسات الخيرية المانحة! بدعم سخي - غير محمود - لهذه البرامج.
وذهبت بعض الدراسات إلى أن التعقيم شمل نصف نساء الشعوب الهندية خلال ست سنوات بدءاً من عام 1970م، واكتشفت طبيبة هندية تعمل في مستشفى بولاية أوكلاهوما أن جميع النساء اللاتي جرى تعقيمهن ينتمين للهنود فقط! وأثبتت رسالة ماجستير نوقشت بجامعة أمريكية ارتفاع ميزانية برنامج التعقيم من 51 مليون دولار عام 1969م إلى 250 مليون دولار عام 1974م، وبناء على ذلك ارتفع عدد الضحايا الهنود من 63 ألف امرأة بين عامي 1907-1964م إلى 548 ألف امرأة بين عامي 1970-1977م، وهي زيادة تبلغ تقريباً تسعة أضعاف الرقم خلال مدة زمنية أقصر بكثير.
وفي آخر الكتاب يجزم المؤلف بأن الهولوكست الأنجلوسكسوني هو المثال المحتذى عند النازية، وبينما يحتكر اليهود مظلومية حرائق النازية مع أنها وقعت على غيرهم من الشعوب ولم يختصوا بها؛ نجد أن المظلومين من جرائم أمريكا وبريطانيا لا بواكي لهم، مع أن الجرائم الأنجلوسكسونية هي الأطول والأكثر ضحايا.
وتتميز هذه الكتب بأن جميع معلوماتها موثقة من مراجع بعضها صادر عن جامعات عريقة أو مراكز معتبرة، وجل هوامش الكتب الثلاثة لا يستغني القارئ المتعمق عن النظر فيها والإفادة منها، وبعض الهوامش تستحق أن تفرد في مقالة أو بحث، وقد أشار المؤلف إلى عناوين كتب ومقالات وأبحاث كثيرة جداً، وبعضها جدير بالترجمة من مؤسسات الثقافة أو مراكز الفكر في عالمنا، ولا تخلو هذه الكتب المهمة للعكش من مصطلحات وتعابير قد يعسر فهمهما دون الرجوع إلى تفسيراتها في مظانها، وكل كتاب من كتب د. منير العكش السالف استعراضها يهم طائفة ممن يقاومون التغول الأنجلوسكسوني في عالمنا؛ فالأول مهم للمجاهدين بالمال والسلاح وللساسة، والثاني ضروري للمرابطين على حماية حياض التعليم والثقافة، والثالث يفيد الأغيار على الأسرة والمرأة والطفل، وجميعها مما يناسب المثقفين والمفكرين والكتاب والعلماء.
وبعد هذا الاستعراض السريع: أيبقى مفتون بمنظومة الحقوق التي يتبناها الغرب في الظاهر؟ وهل يصدق أحد وعودهم أو يبني آمالاً على اتفاقيات معهم؟ وهل تسكت الشعوب المستهدفة عن جيش - من العسكر أو من العملاء - يحمل مثل هذه العقيدة العنصرية الاستعلائية، ولا يرى بأساً في قتل الآخرين، واستعبادهم، واغتصاب الأطفال والنساء، وإفساد ثقافة المجتمع، وتعقيم الرجال منهم بعد تعقير النساء؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق