يوصف دائمًا الدخول العُثماني للأراضي العربية على أنه “احتلال” لهذه الأراضي امتد لعدة قرون، تحررت منه هذه البلدان بعد قيام ما يُعرف بالثورة العربية الكبرى في العقد الثاني من القرن العشرين، وقيام الدول المستقلة التي تحكم نفسها بنفسها. ويعترض الكثير على كلمة دخول الدولة العثمانية للأراضي العربية بكلمة “الفتح”، على الرغم من أن كلمة الفتح أتت كتعريف في الكثير من مصادر تعريف المصطلحات الإسلامية مثل “قاموس الحقوق الإسلامية والمصطلحات الفقهية” لعُمر نصوحي، على أنه “اصطلاح إسلامي بمعنى أخذ بلد أو منطقة سلمًا أو عنوة”، ويصروا تسميتها على أنه احتلال وغزو بربري من قبل العثمانيين.
وفي مصر وحتى بداية السبعينات من القرن الماضي تقريبا، كانت الصورة التي رسمها الرعيل الأول من المؤرخين (محمد رفعت، عبد الكريم السوربوني، وشفيق غربال) ثم الجيل التالي من تلاميذهم (أحمد عزت عبد الكريم، و حسن عثمان، وغيرهما) عن مصر تحت الحكم العثماني (1517-1798) قبل “حملة ناپليون” صورة قاتمة، تتسم بالفوضى والقلاقل والفتن، وبالفقر في الزراعة، والحرف، والصناعات، والتخلف على كل المستويات الاقتصادية والعلمية والثقافية، وظلت هذه الصورة قائمة لعقود عند التطرق للحديث عن مصر في هذه الحقبة.
وتعددت الأسماء التي تناولت هذا الكلام في مؤلفاتها، فمنهم من وسمه بأنه كان “وبالًا على العالم الإسلامي والمسلمين، فخيم على العالم العربي ظلام دامس جمدت معه القرائح وانتشر في ظله التخلف والجهل، وعمت الأمية”، مثل الكاتب الشهير “جورجي زيدان” في كتابه “مصر العثمانية”، كذلك نجد د.”شوقي عطا الله الجمل” قد وصف مصر في هذا العصر بنفس الكلام تقريبا في كتابه “الأزهر ودوره السياسي والحضاري في إفريقيا”، وكذلك “سعاد ماهر” في كتابها “الأزهر أثر وثقافة”.
يقول كذلك د.”شوقي ضيف” في كتابه “عصر الدول والإمارات مصر” وهو ضمن سلسلة “تاريخ الأدب العربي”: “وكأنما وضع خُطة محكمة (يقصد سليم الأول) أن يحرم مصر من كل ما كان بها من تراث فني، وهكذا جُردت مصر من علمائها وفنانيها وتراثها الفكري والفني، وعاشت مصر حقبًا سوداء أمتدت إلى نحو مائتين وتسعين عامًا”.
ويقول كذلك المؤرخ الكبير “محمد عبد الله عنان” في كتابه “مؤرخو مصر الإسلامية ومصادر التاريخ المصري”: “هذا، وبينما مصر تختتم عصورها المجيدة، وتنحدر ببطء إلى طور جديد من الانحلال، وتجنح إلى حياة فتور ودعة، هي أثر عصور طويلة من السلام والعيش الناعم، …. فكانت المفاجأة الهائلة في مرج دابق [يقصد لقاء سليم الأول وقانصوه الغوري]، وكان زوال ملك مصر وسيادتها، وكان بدء رقها، وفاتحة ذلتها مدى عصور طويلة، ذوي فيها مجدها التالد، وركدت فيها كل نواحي عظمتها السالفة، وانحدرت إلى شر ما تنحدر إليه أمة عظيمة، ومن ضروب الانحلال الفكري والاقتصادي والاجتماعي”.
ونختم القول بكلام د.”إبراهيم علوش” في مقال له بعنوان “الاحتلال العثماني والحنين إلى التخلف”: “وهذا، مع أن العثمانيين لم يتركوا أثراً حضارياً واحداً في أيٍ من البلاد التي احتلوها، وكانوا دوماً يتركون البلاد التي يطئونها أسوأ حالاً مما استلموها. فكانوا بذلك أكثر احتلال متخلف في تاريخ الاحتلالات، بعد التتر والمغول. ولم يعرف عنهم إنجازٌ واحد في العلوم أو الفنون أو الآداب أو العمارة طوال فترة حكمهم (وليس فقط في نهايته)”.
ويمكننا أن نعزو سبب هذه الصورة من الضعف والانحلال لعوامل عديدة منها:
1- دخول الدول العربية تحت الحكم العثماني في مرحلة ما يسمى بمرحلة “الهرم” للدولة، أي بعدما وصلت تقريبا إلى أوجها، وقد بدأت تضعف تدريجيًا بعد هذه الفترة من الصعود مع نهاية القرن السادس عشر، والذي استمر على ما يزيد من قرنان ونصف من الزمان في سلم صعودي.
2- العقود الأخيرة للحكم العثماني/المملوكي قبل أن يأتي الغرب، والتي شهدت أزمات وصراعات سياسية وعسكرية شديدة، ومعاناة الناس من الأوبئة والمجاعات وظلم الحكام، وقد ساعدت هذه الاضطرابات والفوضى قبل الاستعمار الأوروپي على ترسيخ هذه الصورة.
3- فقر المصادر التاريخية لذلك العصر، فلم تكن المصادر الأرشيفية من مخطوطات ووثائق المحاكم الشرعية وحجج الأوقاف وغيرها قد كُشفت وفُتحت للباحثين، والتي تحتوي على كنوز متدفقة من الوثائق والحجج التركية والعربية الهامة جدا والخطيرة، والتي أجلت عن جوانب كثيرة كانت غامضة عن هذا العصر، وتوسيع مجالات البحث ليشمل التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمصر في هذا العهد.
4- أعمال مؤرخي الاستعمار في البلدان العربية الإسلامية التي احتلوها، والتي تتجه بطبيعة الحال إلى تسويد صورة الحالة السابقة في البلدان التي زعم المحتل الجديد صراحة أنه يُعيد السلام والرفاهية “الرومانية” فيها – مثلما فعلت فرنسا في الجزائر مثلا-، بالإضافة إلى الصورة المأساوية التي ما زالت قائمة والتي انتهت بقهر القومية العربية في سورية ولبنان، وإعدام رموزها على يد الاتحاديين.
5- الاتجاه السابق في كتابة التاريخ، والمؤمنين منه بالمركزية الأوروپية، والذين يرون أن سُبل النهضة تتمثل في الأخذ بالنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة، مع الاعتبار أن أنظمة الشرق لا تصلح لمواكبة التحديث والنهضة، مما طبع الحكم على العصر العثماني بإجماله بهذه الصورة الاستعلائية “المؤدلجة”، وليس من خلال دراسة السياق التاريخي على أساس من الموضوعية العلمية.
وهكذا صار العصر أشبه بفترة “ظلام وجهل” سبقت “النهضة” التي حلت مع قدوم الغرب، وأصبح هذا الحكم يُطلق بصورة عامة على فترة دامت ثلاثة قرون تقريبًا دون تمحيص.
على أن هذه النظرة ما لبست أن اهتزت وبدأت تخضع للنقد والمراجعة من سبعينات القرن الماضي، على يد جيل جديد من المؤرخين والدارسين الأكاديميين، يأتي على رأسهم المؤرخ الفرنسي الشهير “أندريه ريمون” بدراسته الرائدة “الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر” التي صدرت بالفرنسية عام 1973 ودراسة المؤرخ المصري “عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم” عن الريف المصري في القرن الثامن عشر عام 1974، و د. ليلى عبد اللطيف عن النظم الإدارية في عام 1978، ودراسة “دانيال كريسيليوس” عن الأرض والمجتمع والاقتصاد في الوجه البحري 1979، ودراسة د. “پيتر گران” عن “جذور مصر الحديثة (1760-1775)” عام 1981، ودراسة عبد الحميد حامد سليمان عن الموانئ المصرية في العصر العثماني عام 1995، ودراسة د.نيللي حنا عن تجار القاهرة في العصر العثماني عام 1997 ودراسات د.”محمد عفيفي” عن الأقباط في مصر العثمانية، ونُظم الوقف، وغيرها من الدراسات الحديثة، والتي أجلت ومازالت تجلي الصورة الحقيقية لشكل مصر في الحقبة العثمانية، وأدت كذلك لإفساد واهتزاز الصورة الأولى التي كان يتحدث بها كل المؤرخين قبلهم؛ لتكشف عن خطأ المدخل الذي انتهجوه، فبدلا من الدراسة الموضوعية للسياق التاريخي، راحوا يتسائلون عن متى عرفت مصر الحداثة؟ ومتى بدأت ظهور الدولة القومية، والرأسمالية، والطبقة البرجوازية، فبدا واضحًا أن اهتمامهم أيديولوجي أكثر من تاريخي، وأنهم لا يحفلون بالسياق التاريخي للأحداث، طالما أنهم يأخذون مشكلات أيامهم ويعكسونها على الماضي، هذا بالإضافة لمدى التعميم الفج، وقصور المصادر، التي يعتمدون عليها، وخضوعها أولا وأخيرا لفكرة المركزية الأوروپية، فبناء على هذه الدراسات لم تكن مصر مجتمعًا خاملا جامدا راكدا، وأنما كان مجتمع خضع لتطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية لها طابعها الخاص الذي يناسب المجتمع، ولها حيويتها ونموها الخاص.
والأهم من هذا أن هذه الدراسات أثارت قضية علاقتنا بالغرب في شان النهضة والحداثة على كافة المستويات، وهل كانت مصر تسير نحو التقدم والتطور قبل مجيء النموذج الغربي أم لا؟ وقد أجابت هذه الدراسات على جوانب عدة، منها مثلا الجانب الزراعي، والذي أكدت فيه أنه كان مجتمعًا نشطًا متطورًا في أسواقه وتجارته ونظامه القانوني ومعاملاته، وقد أثبتت سجلات المحاكم كذلك، أنه كان هناك تسويق للانتاج وعلاقات من القروض والاستثمارات ربطت القرية بالمدينة وبالأسواق العالمية، وأن إنتاج المحاصيل من أجل السوق قد اتسع، هذا بالإضافة أن القرن الثامن عشر أدى التراجع فيه على طلب المنتجات المصرية من المنسوجات والسكر، بسبب تدفق مثيلاتها الأوروپية، مما أشتد الطلب فيه على المحاصيل النقدية لتصديرها كمواد خام أولية، وأنه لم يكن هناك انقطاع بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر في عصر “محمد علي”، إنما كان هناك استمرارات في السياسات من نواح عديدة.
فيما يتعلق بطوائف الحرف والصناعات:
ثمة فكرة شائعة بأن تدهورها يرجع لترحيل سليم للكثير من شيوخها وكبارها إلى إسطنبول، حسب رواية “ابن إياس”، مما أدى لتدهور قرابة خمسين حرفة. غير أن هذا الترحيل لم يؤثر على القطاع الحرفي لمدة طويلة، فقد أشار “ابن إياس” إلى عودتهم تدريجيًا بين 1519 (أي بعد عام وعدة شهور من الترحيل) و 1521، بعدما أنجزوا ما أوكل إليهم من مهام، وبعد أن “رسم السلطان سُليمان لهم بالعودة إلى بلادهم، وكتب لكل واحد منهم ورقة بعدم المعارضة”.
أما عن النشاط التجاري:
فقد كان من أهم سمات الحكم العثماني عدم فرض أي قيود على حركة السكان وتبادل السلع والنشاط الاقتصادي في الولايات التي خضعت له، فقد بدأت المدن المصرية في منتصف القرن السادس عشر تشهدا نموًا وانتعاشا في النشاط التجاري سواء فيما بين أسواقها، أو مع أسواق الشام والجزيرة العربية، وأسواق المغرب و أوروپا. وقد أثبتت الدراسات كذلك وجود ما يمكن أن نسيمه “صحوة تجارية” شهدتها مصر أواخر القرن السادس عشر، وأنه بالرغم من ظروف الانتاج في مصر لم تشهد انقلابا تقنيًا فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، مما ساهم في ثبات الأوضاع، إلا أن المعلومات الموثقة والمستقاة من سجلات المحاكم الشرعية تشير إلى خط بياني لتطور الاقتصاد المصري خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، يتضح معه وجود فترة ازدهار وصعود نسبي طوال القرن السابع عشر، بلغت ذُروتها عام 1680، أعقبها فترة من المشكلات الاقتصادية الخطيرة نحو نصف قرن (1690-1740)، تلتها فترة انتعاش ورخاء حقيقي (1750-1770) لتبدأ مرحلة تدهور واحتضار توافقت مع الاحتضار السياسي حتى نهاية القرن الثامن عشر ومجيء الفرنسيين.
بالحديث عن الثقافة:
تأتي الدراسة المهمة لـ ” پيتر گران” عن “الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر بين عامي 1760-1840″، والتي لم تتخذ من عام 1798 عام دخول الفرنسيين نقطة بداية للتحديث، لتثبت أن مصر خلال القرن الثامن عشر تتمتع بثقافة حية، وأنه كان بوسعها أن تنجز عملية التحديث بنفسها، فيذكر أن عملية التحديث سبقت مجيء الأوروپين، وقد اتخذ كتابات الشيخ “حسن العطار” في الطب والمنطق وغيرها، بالإضافة لعدد من معاصريه، دليلا على صحوة ثقافية كلاسيكية كانت مصر تعيشها في أواخر القرن الثامن عشر، وكشف عن أن تأليف “مُرتضى الزبيدي” لمعجمه الموسوعي “تاج العروس”، يثبت أن ثمة إبداعًا أساسيا ومُهمًا حدث في أواخر هذا القرن، وأن هذا العمل يدل على عقل ذو علاقات علمية واسعة، كما ذكر أن هناك كتابات في نفس العصر كانت أقل شهرة، لكنها ذات دلالة في إثبات أن ثمة تطورًا ثقافيا شهدته هذه الفترة، وأن “الجبرتي” مثلا لم يكن عبقريًا في عصر مظلم.
ومن المهم أن نذكر أن هناك من يرى أنه لا يعيب كتابات علماء القرنين السابع عشر والثامن عشر أن معظمها كان حواش وشروح وتقارير، وأنها مجرد أعمال مدرسية، فالمدقق في هذه الشروح والحواش يرى أنها على تحتوي على إضافات حقيقية للمتون الأصلية التي كُتبت، وليس مجرد إعادة إنتاج للكتاب مرة أخرى، وبدراسة قوائم المخطوطات الممتازة بالجامع الأزهر وبدار الكتب المصرية، تظهر لنا بوضوح إثبات صورة “صحوة ثقافية”، وتطور مُهمًا في ميدان “الثقافة الدنيوية” شهدتها مصر في القرن الثامن عشر، فلم يكن الأزهر متدهورا كما يشاع، وأن علماء الأزهر كانوا يعيشون في قلب حركة الازدهار التجاري التي شهدتها القاهرة في هذا القرن، والتي توضح لنا الغموض الذي أكتنف كيفية شهود مصر نهضة في القرن التاسع عشر، عبر البعثات العلمية، التي تعلم فيها المبعوثون العلوم المختلفة والآداب، بأنه كان لها أساس وتربة صالحة للنبت في القرن الثامن عشر، ولم تُخلق من فراغ تام دون أسس.
ولقد شهدت العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر إنتاجًا وفيرا في الكتب والمصنفات، واتساعًا للموضوعات والمجالات التي تناولتها، وربما يوفق إنتاجه مثيله في فترة “محمد علي”، وأنها كانت -بالنظر في مضمونها- تحمل إرهاصات ومعالم فكر جديد، فبها إضافات للمتون والشروح والحواشي للكتب الدينية غير متوقعة في مسائل ثقافية دنيوية، خلال عرض المعلومات الدينية.
الحركة العلمية:
في مصر، بدأت الحركة العلمية تستعيد عافيتها بعدما استقرت الفتن والأوضاع السياسية التي أتت مع نهاية العصر المملوكي، وبداية الحكم العثماني، وإن تخلل الفترات الأولى من الحكم العثماني بعض الاهتزازات. ومن المعروف أن الدولة العثمانية كانت تتمتع بالقوة وتنعم بالاستقرار حتى نهاية فترة سليمان القانوني (ت 1566) تقريبًا، ومن ثم كانت سيطرتها على الولايات التابعة لها سيطرة قوية وحازمة. غير أننا نصل لنهاية القرن السادس عشر لنجد أن الضعف أخذ يدب في أوصال الإدارة المركزية، والتي باتت سيطرتها على الولايات تضعف بالتدريج ومن بينها مصر، إذ ضعفت مكانة الپاشاوات وتعززت مكانها قوى محلية، حظيت بحرية الحركة والعمل بصورة تامة، مما أدى كنتيجة طبيعية إلى ضعف هذا الإدارة لهذه الولايات، وأصبح الأمر يُسند إلى أشخاص غير أكفاء، مما نَتج عنه انحدار تدريجي، وصل لعزل الپاشاوت عن طريق المماليك، وتطور إلى قتلهم مثل قتل الوالي “إبراهيم پاشا” في 1604 عن طريق العسكر، وقتل سفير عثماني عام 1724، وانتهى بسيطرة شبه تامة من “المماليك” على حكم مصر إلى حد تجرُء “علي بك الكبير” على إعلان انفصاله رسميًا عن الدولة العثمانية في 1769، إلا أن محاولته باءت بالفشل. هذا بالإضافة إلى عمليات الابتزاز الشديد التي تعرض لها التجار في أواخر القرن الثامن عشر من قبل المماليك، مما أدى معه لإفلاس الكثير من التجار، ومغادرة الكثير من الأجانب منهم إلى الإسكندرية، بسبب هذا الظلم، وسرعان ما تفشى الفقر وتردت الأوضاع الاقتصادية حتى مجيء الحملة الفرنسية.
وفي مصر وحتى بداية السبعينات من القرن الماضي تقريبا، كانت الصورة التي رسمها الرعيل الأول من المؤرخين (محمد رفعت، عبد الكريم السوربوني، وشفيق غربال) ثم الجيل التالي من تلاميذهم (أحمد عزت عبد الكريم، و حسن عثمان، وغيرهما) عن مصر تحت الحكم العثماني (1517-1798) قبل “حملة ناپليون” صورة قاتمة، تتسم بالفوضى والقلاقل والفتن، وبالفقر في الزراعة، والحرف، والصناعات، والتخلف على كل المستويات الاقتصادية والعلمية والثقافية، وظلت هذه الصورة قائمة لعقود عند التطرق للحديث عن مصر في هذه الحقبة.
وتعددت الأسماء التي تناولت هذا الكلام في مؤلفاتها، فمنهم من وسمه بأنه كان “وبالًا على العالم الإسلامي والمسلمين، فخيم على العالم العربي ظلام دامس جمدت معه القرائح وانتشر في ظله التخلف والجهل، وعمت الأمية”، مثل الكاتب الشهير “جورجي زيدان” في كتابه “مصر العثمانية”، كذلك نجد د.”شوقي عطا الله الجمل” قد وصف مصر في هذا العصر بنفس الكلام تقريبا في كتابه “الأزهر ودوره السياسي والحضاري في إفريقيا”، وكذلك “سعاد ماهر” في كتابها “الأزهر أثر وثقافة”.
يقول كذلك د.”شوقي ضيف” في كتابه “عصر الدول والإمارات مصر” وهو ضمن سلسلة “تاريخ الأدب العربي”: “وكأنما وضع خُطة محكمة (يقصد سليم الأول) أن يحرم مصر من كل ما كان بها من تراث فني، وهكذا جُردت مصر من علمائها وفنانيها وتراثها الفكري والفني، وعاشت مصر حقبًا سوداء أمتدت إلى نحو مائتين وتسعين عامًا”.
ويقول كذلك المؤرخ الكبير “محمد عبد الله عنان” في كتابه “مؤرخو مصر الإسلامية ومصادر التاريخ المصري”: “هذا، وبينما مصر تختتم عصورها المجيدة، وتنحدر ببطء إلى طور جديد من الانحلال، وتجنح إلى حياة فتور ودعة، هي أثر عصور طويلة من السلام والعيش الناعم، …. فكانت المفاجأة الهائلة في مرج دابق [يقصد لقاء سليم الأول وقانصوه الغوري]، وكان زوال ملك مصر وسيادتها، وكان بدء رقها، وفاتحة ذلتها مدى عصور طويلة، ذوي فيها مجدها التالد، وركدت فيها كل نواحي عظمتها السالفة، وانحدرت إلى شر ما تنحدر إليه أمة عظيمة، ومن ضروب الانحلال الفكري والاقتصادي والاجتماعي”.
ونختم القول بكلام د.”إبراهيم علوش” في مقال له بعنوان “الاحتلال العثماني والحنين إلى التخلف”: “وهذا، مع أن العثمانيين لم يتركوا أثراً حضارياً واحداً في أيٍ من البلاد التي احتلوها، وكانوا دوماً يتركون البلاد التي يطئونها أسوأ حالاً مما استلموها. فكانوا بذلك أكثر احتلال متخلف في تاريخ الاحتلالات، بعد التتر والمغول. ولم يعرف عنهم إنجازٌ واحد في العلوم أو الفنون أو الآداب أو العمارة طوال فترة حكمهم (وليس فقط في نهايته)”.
ويمكننا أن نعزو سبب هذه الصورة من الضعف والانحلال لعوامل عديدة منها:
1- دخول الدول العربية تحت الحكم العثماني في مرحلة ما يسمى بمرحلة “الهرم” للدولة، أي بعدما وصلت تقريبا إلى أوجها، وقد بدأت تضعف تدريجيًا بعد هذه الفترة من الصعود مع نهاية القرن السادس عشر، والذي استمر على ما يزيد من قرنان ونصف من الزمان في سلم صعودي.
2- العقود الأخيرة للحكم العثماني/المملوكي قبل أن يأتي الغرب، والتي شهدت أزمات وصراعات سياسية وعسكرية شديدة، ومعاناة الناس من الأوبئة والمجاعات وظلم الحكام، وقد ساعدت هذه الاضطرابات والفوضى قبل الاستعمار الأوروپي على ترسيخ هذه الصورة.
3- فقر المصادر التاريخية لذلك العصر، فلم تكن المصادر الأرشيفية من مخطوطات ووثائق المحاكم الشرعية وحجج الأوقاف وغيرها قد كُشفت وفُتحت للباحثين، والتي تحتوي على كنوز متدفقة من الوثائق والحجج التركية والعربية الهامة جدا والخطيرة، والتي أجلت عن جوانب كثيرة كانت غامضة عن هذا العصر، وتوسيع مجالات البحث ليشمل التاريخ الاجتماعي والاقتصادي لمصر في هذا العهد.
4- أعمال مؤرخي الاستعمار في البلدان العربية الإسلامية التي احتلوها، والتي تتجه بطبيعة الحال إلى تسويد صورة الحالة السابقة في البلدان التي زعم المحتل الجديد صراحة أنه يُعيد السلام والرفاهية “الرومانية” فيها – مثلما فعلت فرنسا في الجزائر مثلا-، بالإضافة إلى الصورة المأساوية التي ما زالت قائمة والتي انتهت بقهر القومية العربية في سورية ولبنان، وإعدام رموزها على يد الاتحاديين.
5- الاتجاه السابق في كتابة التاريخ، والمؤمنين منه بالمركزية الأوروپية، والذين يرون أن سُبل النهضة تتمثل في الأخذ بالنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة، مع الاعتبار أن أنظمة الشرق لا تصلح لمواكبة التحديث والنهضة، مما طبع الحكم على العصر العثماني بإجماله بهذه الصورة الاستعلائية “المؤدلجة”، وليس من خلال دراسة السياق التاريخي على أساس من الموضوعية العلمية.
وهكذا صار العصر أشبه بفترة “ظلام وجهل” سبقت “النهضة” التي حلت مع قدوم الغرب، وأصبح هذا الحكم يُطلق بصورة عامة على فترة دامت ثلاثة قرون تقريبًا دون تمحيص.
على أن هذه النظرة ما لبست أن اهتزت وبدأت تخضع للنقد والمراجعة من سبعينات القرن الماضي، على يد جيل جديد من المؤرخين والدارسين الأكاديميين، يأتي على رأسهم المؤرخ الفرنسي الشهير “أندريه ريمون” بدراسته الرائدة “الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر” التي صدرت بالفرنسية عام 1973 ودراسة المؤرخ المصري “عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم” عن الريف المصري في القرن الثامن عشر عام 1974، و د. ليلى عبد اللطيف عن النظم الإدارية في عام 1978، ودراسة “دانيال كريسيليوس” عن الأرض والمجتمع والاقتصاد في الوجه البحري 1979، ودراسة د. “پيتر گران” عن “جذور مصر الحديثة (1760-1775)” عام 1981، ودراسة عبد الحميد حامد سليمان عن الموانئ المصرية في العصر العثماني عام 1995، ودراسة د.نيللي حنا عن تجار القاهرة في العصر العثماني عام 1997 ودراسات د.”محمد عفيفي” عن الأقباط في مصر العثمانية، ونُظم الوقف، وغيرها من الدراسات الحديثة، والتي أجلت ومازالت تجلي الصورة الحقيقية لشكل مصر في الحقبة العثمانية، وأدت كذلك لإفساد واهتزاز الصورة الأولى التي كان يتحدث بها كل المؤرخين قبلهم؛ لتكشف عن خطأ المدخل الذي انتهجوه، فبدلا من الدراسة الموضوعية للسياق التاريخي، راحوا يتسائلون عن متى عرفت مصر الحداثة؟ ومتى بدأت ظهور الدولة القومية، والرأسمالية، والطبقة البرجوازية، فبدا واضحًا أن اهتمامهم أيديولوجي أكثر من تاريخي، وأنهم لا يحفلون بالسياق التاريخي للأحداث، طالما أنهم يأخذون مشكلات أيامهم ويعكسونها على الماضي، هذا بالإضافة لمدى التعميم الفج، وقصور المصادر، التي يعتمدون عليها، وخضوعها أولا وأخيرا لفكرة المركزية الأوروپية، فبناء على هذه الدراسات لم تكن مصر مجتمعًا خاملا جامدا راكدا، وأنما كان مجتمع خضع لتطورات اقتصادية واجتماعية وثقافية لها طابعها الخاص الذي يناسب المجتمع، ولها حيويتها ونموها الخاص.
والأهم من هذا أن هذه الدراسات أثارت قضية علاقتنا بالغرب في شان النهضة والحداثة على كافة المستويات، وهل كانت مصر تسير نحو التقدم والتطور قبل مجيء النموذج الغربي أم لا؟ وقد أجابت هذه الدراسات على جوانب عدة، منها مثلا الجانب الزراعي، والذي أكدت فيه أنه كان مجتمعًا نشطًا متطورًا في أسواقه وتجارته ونظامه القانوني ومعاملاته، وقد أثبتت سجلات المحاكم كذلك، أنه كان هناك تسويق للانتاج وعلاقات من القروض والاستثمارات ربطت القرية بالمدينة وبالأسواق العالمية، وأن إنتاج المحاصيل من أجل السوق قد اتسع، هذا بالإضافة أن القرن الثامن عشر أدى التراجع فيه على طلب المنتجات المصرية من المنسوجات والسكر، بسبب تدفق مثيلاتها الأوروپية، مما أشتد الطلب فيه على المحاصيل النقدية لتصديرها كمواد خام أولية، وأنه لم يكن هناك انقطاع بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر في عصر “محمد علي”، إنما كان هناك استمرارات في السياسات من نواح عديدة.
فيما يتعلق بطوائف الحرف والصناعات:
ثمة فكرة شائعة بأن تدهورها يرجع لترحيل سليم للكثير من شيوخها وكبارها إلى إسطنبول، حسب رواية “ابن إياس”، مما أدى لتدهور قرابة خمسين حرفة. غير أن هذا الترحيل لم يؤثر على القطاع الحرفي لمدة طويلة، فقد أشار “ابن إياس” إلى عودتهم تدريجيًا بين 1519 (أي بعد عام وعدة شهور من الترحيل) و 1521، بعدما أنجزوا ما أوكل إليهم من مهام، وبعد أن “رسم السلطان سُليمان لهم بالعودة إلى بلادهم، وكتب لكل واحد منهم ورقة بعدم المعارضة”.
أما عن النشاط التجاري:
فقد كان من أهم سمات الحكم العثماني عدم فرض أي قيود على حركة السكان وتبادل السلع والنشاط الاقتصادي في الولايات التي خضعت له، فقد بدأت المدن المصرية في منتصف القرن السادس عشر تشهدا نموًا وانتعاشا في النشاط التجاري سواء فيما بين أسواقها، أو مع أسواق الشام والجزيرة العربية، وأسواق المغرب و أوروپا. وقد أثبتت الدراسات كذلك وجود ما يمكن أن نسيمه “صحوة تجارية” شهدتها مصر أواخر القرن السادس عشر، وأنه بالرغم من ظروف الانتاج في مصر لم تشهد انقلابا تقنيًا فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، مما ساهم في ثبات الأوضاع، إلا أن المعلومات الموثقة والمستقاة من سجلات المحاكم الشرعية تشير إلى خط بياني لتطور الاقتصاد المصري خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، يتضح معه وجود فترة ازدهار وصعود نسبي طوال القرن السابع عشر، بلغت ذُروتها عام 1680، أعقبها فترة من المشكلات الاقتصادية الخطيرة نحو نصف قرن (1690-1740)، تلتها فترة انتعاش ورخاء حقيقي (1750-1770) لتبدأ مرحلة تدهور واحتضار توافقت مع الاحتضار السياسي حتى نهاية القرن الثامن عشر ومجيء الفرنسيين.
بالحديث عن الثقافة:
تأتي الدراسة المهمة لـ ” پيتر گران” عن “الجذور الإسلامية للرأسمالية في مصر بين عامي 1760-1840″، والتي لم تتخذ من عام 1798 عام دخول الفرنسيين نقطة بداية للتحديث، لتثبت أن مصر خلال القرن الثامن عشر تتمتع بثقافة حية، وأنه كان بوسعها أن تنجز عملية التحديث بنفسها، فيذكر أن عملية التحديث سبقت مجيء الأوروپين، وقد اتخذ كتابات الشيخ “حسن العطار” في الطب والمنطق وغيرها، بالإضافة لعدد من معاصريه، دليلا على صحوة ثقافية كلاسيكية كانت مصر تعيشها في أواخر القرن الثامن عشر، وكشف عن أن تأليف “مُرتضى الزبيدي” لمعجمه الموسوعي “تاج العروس”، يثبت أن ثمة إبداعًا أساسيا ومُهمًا حدث في أواخر هذا القرن، وأن هذا العمل يدل على عقل ذو علاقات علمية واسعة، كما ذكر أن هناك كتابات في نفس العصر كانت أقل شهرة، لكنها ذات دلالة في إثبات أن ثمة تطورًا ثقافيا شهدته هذه الفترة، وأن “الجبرتي” مثلا لم يكن عبقريًا في عصر مظلم.
ومن المهم أن نذكر أن هناك من يرى أنه لا يعيب كتابات علماء القرنين السابع عشر والثامن عشر أن معظمها كان حواش وشروح وتقارير، وأنها مجرد أعمال مدرسية، فالمدقق في هذه الشروح والحواش يرى أنها على تحتوي على إضافات حقيقية للمتون الأصلية التي كُتبت، وليس مجرد إعادة إنتاج للكتاب مرة أخرى، وبدراسة قوائم المخطوطات الممتازة بالجامع الأزهر وبدار الكتب المصرية، تظهر لنا بوضوح إثبات صورة “صحوة ثقافية”، وتطور مُهمًا في ميدان “الثقافة الدنيوية” شهدتها مصر في القرن الثامن عشر، فلم يكن الأزهر متدهورا كما يشاع، وأن علماء الأزهر كانوا يعيشون في قلب حركة الازدهار التجاري التي شهدتها القاهرة في هذا القرن، والتي توضح لنا الغموض الذي أكتنف كيفية شهود مصر نهضة في القرن التاسع عشر، عبر البعثات العلمية، التي تعلم فيها المبعوثون العلوم المختلفة والآداب، بأنه كان لها أساس وتربة صالحة للنبت في القرن الثامن عشر، ولم تُخلق من فراغ تام دون أسس.
ولقد شهدت العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر إنتاجًا وفيرا في الكتب والمصنفات، واتساعًا للموضوعات والمجالات التي تناولتها، وربما يوفق إنتاجه مثيله في فترة “محمد علي”، وأنها كانت -بالنظر في مضمونها- تحمل إرهاصات ومعالم فكر جديد، فبها إضافات للمتون والشروح والحواشي للكتب الدينية غير متوقعة في مسائل ثقافية دنيوية، خلال عرض المعلومات الدينية.
الحركة العلمية:
في مصر، بدأت الحركة العلمية تستعيد عافيتها بعدما استقرت الفتن والأوضاع السياسية التي أتت مع نهاية العصر المملوكي، وبداية الحكم العثماني، وإن تخلل الفترات الأولى من الحكم العثماني بعض الاهتزازات. ومن المعروف أن الدولة العثمانية كانت تتمتع بالقوة وتنعم بالاستقرار حتى نهاية فترة سليمان القانوني (ت 1566) تقريبًا، ومن ثم كانت سيطرتها على الولايات التابعة لها سيطرة قوية وحازمة. غير أننا نصل لنهاية القرن السادس عشر لنجد أن الضعف أخذ يدب في أوصال الإدارة المركزية، والتي باتت سيطرتها على الولايات تضعف بالتدريج ومن بينها مصر، إذ ضعفت مكانة الپاشاوات وتعززت مكانها قوى محلية، حظيت بحرية الحركة والعمل بصورة تامة، مما أدى كنتيجة طبيعية إلى ضعف هذا الإدارة لهذه الولايات، وأصبح الأمر يُسند إلى أشخاص غير أكفاء، مما نَتج عنه انحدار تدريجي، وصل لعزل الپاشاوت عن طريق المماليك، وتطور إلى قتلهم مثل قتل الوالي “إبراهيم پاشا” في 1604 عن طريق العسكر، وقتل سفير عثماني عام 1724، وانتهى بسيطرة شبه تامة من “المماليك” على حكم مصر إلى حد تجرُء “علي بك الكبير” على إعلان انفصاله رسميًا عن الدولة العثمانية في 1769، إلا أن محاولته باءت بالفشل. هذا بالإضافة إلى عمليات الابتزاز الشديد التي تعرض لها التجار في أواخر القرن الثامن عشر من قبل المماليك، مما أدى معه لإفلاس الكثير من التجار، ومغادرة الكثير من الأجانب منهم إلى الإسكندرية، بسبب هذا الظلم، وسرعان ما تفشى الفقر وتردت الأوضاع الاقتصادية حتى مجيء الحملة الفرنسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق