الأحد، 29 مارس 2020

خالد بن الوليد من زاوية أخرى

خالد بن الوليد من زاوية أخرى
2019-01-08

محمد جلال القصاص

والمشهد الثالث في يوم اليرموك. اجتمع خيرة الأمة في وجه الروم ولم يستطيعوا الحسم، فأرسل أبو بكر خالدًا إليهم، ودار خالد بفرسه يتأمل المشهد.

ترددت على السيرة النبوية قرابة عشرين مرة. أراها رياضًا عطرة، ومنهلًا عذبًا، وآخيةً أشد إليها أوصالي. لا يكاد يفارق خاطري شخص الرسول-صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام-رضوان الله عليهم-. وهم في المسجد، وهم في الشارع، وهم في بيوتهم بين أهليهم، وهم في وجه عدوهم دعاةً وأسودًا تزأر، وهم بين يدي ربهم ركعًا سجدًا يتلون آيات الله.
وكغيري تمسك بي المواقف وتمسك بي بعض الشخصيات، وكم وقفتُ مليًا أحاول أن أتصور ما كان يحدث كأني أشاهده مشاهدةً حيةً: الصلاة، مجالس الذكر بعد صلاة الفجر والمغرب، القيلولة في المسجد، أهل الصفة، السوق، طرقات المدينة وبعضهم يلتقي بعضهم. الحبيب-صلى الله عليه وسلم-مبتسمًا، منصتًا، متحدثًا.
كنت أتردد دائمًا على خالد بن الوليد. ورأيت فيه ما لم يره غيري- فيما قرأت-. تحدثوا عن شجاعته، عن بطولته وفتوحاته، ولكني رأيت لهذه الشخصية الكريمة النبيلة الحسيبة النسيبة أبعادًا أخرى!!

كان أول ما برز لي في شخص خالد بن الوليد تحول الشخصية وتطورها. تحوَّلَ من الكفر للإيمان بالكرم وبحثًا عن الريادة. فبعد الحديبية، وكان على رأس جيش المشركين، استقر في خاطره أن الأمر قد آل إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- وصحابته-رضوان الله عليهم- فهمَّ بالخروج إلى قومٍ آخرين يعرفون نسبه وإمكاناته الشخصية ويضعونه حيث يليق به. وفكر يمنة ويسره، وكلما جاءت فكرة لا يرى رشدها، وبينما هو على ذلك جاءه كتاب من أخيه الوليد-وكان قد أسلم- يخبره أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يسأل عنه ويقول: (إن جاءنا أكرمناه وقدمناه على غيره). لا يعرف الكريم إلا الكريم. أخلاق عالية تتلاقى في عنان السماء. أخذ الحبيبُ-صلى الله عليه وسلم- خالدًا، بحسن خلقه ودرايته بكرم أصلة وكثرة إمكاناته فأقبل خالدٌ متهللًا فرحًا واستقر حيث يليق به.. في مقدمة المقاتلين، وكسب المسلمون رمزًا.. قيمةً...

تحولت الشخصية بالكرم وحسن الخلق، وربما لو قوبلت بالسيف والغلظة لعاندت وأفسدت ثم كانت من حطب جهنم. فأين فينا من يعرف معدن الرجال، وإمكانات الرجال، ويخاطب الناس بم يليق بهم؟


دخل خالد مجتمع المسلمين هادئًا. سكنته سكينة الإيمان. ثم ترقى.

قبل عقد ونصف كتبتُ تحت عنوان: (أثر العقيدة في بناء الشخصية: خالد بن الوليد نموذجًا) أرصد أثر الإيمان في تطور الشخصية من خلال تتبع شخص خالد بن الوليد في عدد من المواقف: قبل الإسلام (أحد والأحزاب) وبعد الإسلام في مؤتة، وسرية دومة الجندل، وحروب الردة، والفتوحات. وهو مقال منشور على الشبكة، واليوم أريد رصد بُعدٍ آخر في شخصية خالد بن الوليد، وهو حرية التفكير والجرأة على أخذ القرار المناسب وإن خالف ما قد يظن أنه ثابت مستقر أحاول الإضاء على فكرة كلية نقف طرفين حولها في هذه الأيام. ولأن المقام مقال أكتفي بثلاثة مشاهد أشير إليها إشارت وأحاول عرض فكرتي بعدها. وأبدأ بما اشتهر منها:


أسلم خالد في الشهر الثاني من العام الثامن للهجرة (شهر صفر)، وكانت غزوة مؤتة في الشهر الخامس (جمادى الأولى) أي بعد إسلام خالد بثلاثة أشهر فقط، ولم يعين في القيادة، ذهب في الغزوة جنديًا كباقي الجنود من سادتنا الصحابة، وأسند إليه الراية من يعرفه، ولم يتردد في أخذ التدابير اللازمة للانسحاب. وهو البطل الشجاع، وهو مقدمة الفرسان وأحدهم، وهو خالد، وهو حديث عهد بالإيمان. والمقام يستدعي الثبات والإقدام، وخاصة أنه على بعد شهر من المدينة وفي أرض العدو فأين سيفر؟!. ومع كل هذا أعمل عقله وأخذ قرارًا يخالف ما استقر. انسحب ولم يتردد. خرجت الشخصية بعكس ما يتوقع من سياق حال الصحابة وسياق حال خالد نفسه. ومع غرابة الفعل وحداثته التامة إلا أن أحدًا لم يعترض من الصحابة. لم يظهر بينهم متشنجُ غلق يقول: بل هنا حتى نقتل. كانت مرونة من كل من حضر، أيدها الوحي حال حدوثها وتوَّجها بأعلى الأوصافِ وأحبِّها (الفتح)، سمى الوحيُ الانسحابَ والحفاظَ على القوة فتحًا... بارك هذا الاجتهاد والحزم، ولم يطرح للنقاش، ولو بجملة واحدة، خروج خالد عن المألوف.



وكان أبو بكر الصديق يحب خالدًا، ويقدمه على غيره في القتال، ولم يؤخره من الموضع الذي وضعه فيه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-. وفي الفتوحات ابتدع خالد في قسمة الغنائم، فكان يعطي المميزين في القتال أكثر مما قُدِّر لهم شرعًا، واعترض عليه أبو بكر وعمر أكثر من مرة، ولم يرجع، كان رده حازمًا: إما هكذا وإلا خذوا إمارتكم. ولم يعزله أبو بكر. وازن الصديقُ بين مخالفة خالد في توزيع الغنائم وقدرته على قيادة الجند في المعارك فأبقى عليه. وكان هذا أكبر ما ينغص عمر على خالد. وقد ذكر ابن القيم وغيره من أهل العلم أن كل ما خالف فيه عمر أبا بكر كان الصواب مع أبي بكر. والمقصود هنا هو إظهار هذه المرونة العالية من الصحابة الكرام والتي ظهرت هنا في جرأة خالد وتفهم أبي بكر، رضي الله عن الجميع.



والمشهد الثالث في يوم اليرموك. اجتمع خيرة الأمة في وجه الروم ولم يستطيعوا الحسم، فأرسل أبو بكر خالدًا إليهم، ودار خالد بفرسه يتأمل المشهد.

وكان الجزء الأهم في الخطة هو التحول من القتال في هيئة صفوف إلى القتال في هيئة كراديس (كتل على هيئة مربع أو مستطيل)، مع أن النص صريح ( {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) ( [الصف:4] )، ولم يعترض أحد!!


بقيت على هذا: كلما تعلمت جديدًا عدت لمجتمع الرسول-صلى الله عليه وسلم- وصحابته أتأمله. لم تكن حالة من الجمود، بل حالة من اليقظة والسكينة. هدوء حاد. رقة وصلابة. عقلية متوقدة تفكر وتناقش. والثابت هو نصرة الدين والسعي لبذر الخير ونفع الناس. أذابوا غيرهم فيهم، بل ووظفوا غيرهم مع قلة عددهم.


واجتهادات عمر بعد تأملاته في المستجدات كثيرة، وفي المكتبة البحثية ثلاثة مجلدات تحت عنوان (أوليات الفاروق) ترصد ما أحدثه عمر، رضي الله عنه، وكذا فعل عثمان، وكذا فعل علي. وكذا فعل الفقهاء من بعدهم. والذي أعتقده أن سيرة الراشدين متممة للدين لقول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: ( «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» ) فسيرة الراشدين هي تمام النموذج التطبيقي للدعوة، وأن المرونة مرتبطة بتحقيق المصلحة الشرعية لا المصلحة الشخصية. والمصلحة تعرف من الأحكام. أما الذين يقدمون المصلحة اليوم... أولئك الذين يتجمعون تحت مظلة المقاصد فهم في اتجاهٍ معاكس. وضعوا مقاصد كلية.. هي في الحقيقة مقاصد الملحدين، تلك التي يقال لها ثوابت إنسانية، وحاولوا جرَّ أحكام الشريعة إليها، أو: إن مصالحهم مصالح شخصية وحزبية، ظنًا منهم أن نصرة شخصهم أو حزبهم هي الطريق لنصرة الدين!!


حين تضع يقظةَ ومرونةَ أبي بكر وعمر وخالد وعامة الصحابة- رضوان الله عليهم-، وكيف أنها ساهمت في التمكين للدين، ومرونةَ الحاضرين الآن وهي تساهم في توطين المخالفين، حين تضع هذه وتلك بين يديك وتعيد التفكير فيها مرة بعد مرة وتسأل عن السبب، قد توافقني بأن السبب يكمن في التكوين الإيماني للفرد: كم يجلس على مأدبة الرحمن كل يوم؟ هل يسكنه الله؟ أم يسكنه شيء من إيمان وكثير مما يضر ولا ينفع؟

لم تكن تأولات خالد والصحابة ترخصًا وإنما جثومًا ووثبًا على الباطل وأهله طلبًا للتمكين للدين، وترخص اليوم حرث وتجهيز للأرض ليغرس فيها المحادون لله ورسوله.
محمد جلال القصاص
رابط المقال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق