كورونا السلطة والمعارضة
سيمرّ وباء كورونا، كما مرّ غيره من جائحات وكوارث عرفتها البشرية في قرون سابقة، وسيضع كورونا بصمته على المجتمع الإنساني، مثل غيره، فتكتشف البشرية مساحاتٍ مجهولة من الخير، وأخرى للشر، تمامًا كما في أي امتحان وجودي عصيب تواجهه الإنسانية.
سوف يسقط بعض الناس، ويصعد آخرون، ويتبدل أقوام ومجموعات للأفضل أو للأسوأ، لكنه حتمًا سيمضي مخلفًا وراءه آثارًا عظيمة في ملامحنا وشخصياتنا.
كما في كل الكوارث الطبيعية، هناك من يجيد الاستثمار، ومن يعرف كيف يقتنص ما يفيده، سواء على صعيد الحصول على أكبر قدر ممكن من المناديل الورقية والأطعمة المكدّسة، أو على صعيد تحقيق تغييراتٍ في إحداثيات العلاقة بالسلطة، تقرّبًا وتزلفًا، من أجل الظفر بمكاسب تتعلق بالأمان الاجتماعي له وللمقربين منه، ولو على حساب المبدأ الإنساني والأخلاقي العام.
في مصر انطلقت حملة مع اشتداد هجمة فيروس كورونا تطالب بالإفراج عن سجناء الرأي والمحبوسين احتياطيًا من السياسيين، يقودها نواب وسياسيون ينتمون إلى ما أسميته "الكيان الهجين المشوّه" الذي لا يزال مصممًا على المزاوجة بين ثورة 25 يناير، ثورة الكرامة الإنسانية للجميع، وانقلاب 30 يونيو، درة تاج الفاشية والعنصرية السياسية والاجتماعية الوليدة في مصر.
كاد البيان الصادر عن هذا التكتل أمس، وهو يناشد النائب العام، يقول صراحةً أفرجوا عن الذين يهموننا وليذهب الآخرون إلى الجحيم.
وبعد البيان كان وفد ما تسمّي نفسها "الحركة المدنية" يطرق أبواب محمد فايق، رئيس مجلس حقوق الإنسان المنتمي ل 30 يونيو، والمؤيد سلطة عبد الفتاح السيسي، هذا الوفد ذهب يردّد عبارات، ويحدد معايير، ويطلب استثناءات مماثلة، وهو يناشد السلطة النظر بعين العطف على محبوسين يخصّونهم بمناسبة الاصطفاف ضد فيروس كورونا.
هكذا تقلصت المطالب والأحلام، كما توقع كثيرون، من الحلم بإجراءات حماية تشمل جميع السجناء، سياسيين وجنائيين، إلى أنباء الإفراج عن 15 شخصية سياسية معروفة من المنتمين للكيانين السابقين، من بينهم حسن نافعة وحازم حسني وحازم عبد العظيم وشادي الغزالي حرب وآخرين من المنتسبين لأحزاب وقوى سياسية تندرج تحتهما.
هذا بالطبع نبأ جيد يسعد كل مؤمن بالحرية، والسلامة والأمان، حقًا لجميع البشر، لهؤلاء المفرج عنهم، وبالقدر ذاته لآلاف من سجناء المبدأ والمعنى الذين ابتلعتهم الزنازين، لا يذكرهم أحد، ولا يطرق أبواب محمد فايق ويدبج عرائض المناشدة والاسترحام للنائب العام من أجلهم، وكأنهم صاروا معالم ثابتة في تضاريس السجون المصرية، ومن بينهم مئات الأطباء النابغين الذين تحتاجهم البشرية في مواجهة وباءٍ يهدّد بالفتك بهم وبغيرهم في السجون (هل وقعت في خطيئة الفرز والتصنيف مثل الذين أنتقدهم هنا؟ ربما، لكني أطالب بحماية السجناء الجنائيين معهم وفي الوقت ذاته).
من حيث المبدأ، لا مصادرة على حق أي فصيل أو تيار سياسي في أن يسعى إلى تحقيق مكاسب للمنتمين له، وأن يستثمر هوجة "وطنية ما بعد الفيروس" في انتزاع حرية أعضائه.
ولكن من دون أن يفرض على أحد نظرية ساقطة سياسيًا ومنطقيًا تقول "توقف عن المعارضة وغير موقفك من السلطة بمناسبة الوباء، وضع نفسك تحت أمر الاستبداد والفساد من أجل الحرب على كورونا".
اعتقادي أن هذه النظرية تمثل شكلًا أنيقًا من أشكال العبودية الطوعية، لا تليق بمعارضين وثوار يناضلون من أجل الحرية والديمقراطية، وإنما تليق بانتهازيين يبحثون عن فرصة للالتحاق بسلك الموالاة للسلطة.
في ذلك، لا شيء يثير السخرية والأسى أكثر من محاولة استغلال الخوف الجمعي من كورونا إلى إقرارٍ بجدارة أخلاقية وسياسية لسلطة فيروسية، لا يقل خطرها وضررها عن كورونا، أو محاولة فرض مبدأ ينتمي إلى الوثنية السياسية المعجونة بالفزع، يعتبر أن كورونا يجب ما قبله، وأن نظام عبد الفتاح السيسي بعد كورونا، صار رائعًا ومختلفًا عما كان قبل كورونا.
أو أن كوارث هذا النظام وجرائمه سقطت بالتقادم، أو أن إجراءات الحكومة لمواجهة الفيروس هي منة وفضل منها على الشعب، ينبغي الركوع أمامها شكرًا وحمدًا على عظيم معروفها ونعمتها.
وقبل أن تجرفنا موجات الابتزاز باسم الفيروس، وقبل أن تضيع الحقائق في زحام كورونا، من المهم التذكير بأن جزيرتي تيران وصنافير مصريتان، وأن مذبحة رابعة العدوية هي مذبحة القرن وجريمة نظام، وأنه لا شرعية، أخلاقية أو قانونية، لنظام انتزع السلطة بجريمة، كما أن فلسطين عربية والقدس عربية والعدو هو الاحتلال الصهيوني.
سنظل نردّد ذلك كله، حتى نلقى الله بفيروس كورونا، أو بفيروس الطغيان والاستبداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق