هذا تصريح للكنيسة الأرثوذكسية في روسيا عام 2015، صدر بعد أسبوعين من قرار روسيا بإرسال قوات إلى سوريا، تعبر فيه الكنيسة عن دعمها قرار روسيا شنّ غارات جوية في سوريا، ووصفت هذا التدخل بـالمعركة المقدسة، وحماية المدنيين وخاصة المسيحيين وفق ما نقلته وكالة فرانس برس للأنباء.
فما هي تلك الحرب المقدسة التي تعلنها الكنيسة الروسية في سوريا؟
هل قتل مئات الألوف من الشعب السورية وتشريد ملايين الأطفال والنساء هي الحرب المقدسة؟
ولعل الكنيسة الروسية سائرة على نفس الدرب التي سارت فيه باقي كنائس العالم التي تاريخها هو تاريخ دموي وتحريضي ضد الأبرياء وخاصة إن كانوا مسلمين.
وفي هذا المقال سنتتبع دورها في الحرب الأخيرة التي تشنها روسيا ضد سوريا منذ قرابة الخمسة أعوام.
نشأة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية
في عام 988م قام فلاديمير الأول أمير كييف (عاصمة دولة أوكرانيا في الوقت الحالي) باعتناق المسيحية على المذهب الأرثوذكسي وأطلق على نفسه القديس فلاديمير داعيا جميع رعاياه على الدخول في هذه الديانة أيضا، وفي القرن الرابع عشر انتقل مقر رئيس أساقفة كييف وعموم روسيا (رئيس الكنيسة الروسية) إلى موسكو، واحتفظت الإمارات الروسية الغربية بأبرشيات مستقلة (كنائس صغيرة) ولكنها خضعت بدورها في وقت لاحق لسلطة موسكو.
أطلق الروس الأرثوذكس على موسكو لقب روما الثالثة، فروما الأولى التي هي الآن في إيطاليا، كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، وفي نفس الوقت أصبحت عاصمة للكاثوليك، وروما الثانية هي القسطنطينية، التي بسقوطها عام 1453 في أيدي الأتراك المسلمين، اعتبر الأرثوذكس الروس الكنيسة الروسية ومقرها موسكو آخر حصن للعقيدة الأرثوذكسية الحقة، وهكذا في عام 1589 نال رئيس الكنيسة الروسية لقب بطريرك، واضعا نفسه بمرتبة بطريرك القسطنطينية والإسكندرية وأنطاكية وأورشليم.
ويبلغ أتباع الكنيسة الأرثوذكسية المرتبة الثالثة، من حيث حجم الأتباع بعد الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة البروستانتية، حيث تصل نسبتهم حسب احصائية معهد بيو لعام 2011 حوالي 12% من مجمل المسيحيين في العالم، وانتشرت الأرثوذكسية الشرقية في روسيا وبلاد البلقان واليونان والقوقاز، اما المسيحيون التابعين للكنيسة الأرثوذكسية والساكنين في الشام، فيطلق عليهم اسم كنيسة الروم الأرثوذكس، بسبب انهم يتبعون الطقوس الدينية اليونانية البيزنطية، ويوجد فرع كبير للأرثوذكس في مصر وأثيوبيا والسودان، وهؤلاء مستقلون بكنيستهم في الإسكندرية.
تعاظم شأن الكنيسة الروسية في الحياة السياسية في روسيا وما حولها، حيث منحت الأمير الذي يحكم روسيا لقب قيصر، وبدا تناغم بين الدور الكنسي السياسي وبين الدولة الروسية التي يحكمها القيصر، وساهمت المسيحية الأرثوذكسية في اعطاء روسيا موقفا مستقلا عن الغرب بكنيسته الكاثوليكية ثم البروتستانتية، وهذا الموقف المتمايز ساهم بتحدي روسيا للغرب، وفي نفس الوقت أعطت الكنيسة الإمبراطورية الروسية موقفا مسيحيا تبشيريا، في تمددها تجاه الشرق الإسلامي وفي منطقة القوقاز، ولكن مع بداية القرن الثامن العشر، بدأ الدور السياسي للكنيسة الروسية يتراجع، عندما اصطدم بهذا الدور القيصر الروسي حينذاك بطرس الأكبر، فقام بإلغاء منصب البطريرك وهو رأس الكنيسة، وعين موظفين حكوميين ليديروا الكنيسة، ثم جاءت الثورة البلشفية ليبدأ العصر الشيوعي، والذي امتد ما يقرب من ثمانين عاما حيث تراجعت الكنيسة كليا عن دورها، وتوارت نظرا للإلحاد الذي اعتنقه النظام رسميا حينذاك، فضلا عن محاربته للدين، بل وصل الحال أن العدد الإجمالي لضحايا سياسات دولة السوفييت الإلحادية من المسيحيين تم تقديره بما يتراوح بين 12-20 مليون شخص كما تقول إحدى الاحصائيات.
وبعد زوال الاتحاد السوفيتي وسقوط النظرية الشيوعية، سارعت الكنيسة لتملأ الفراغ من جديد، وبالرغم من أن الدستور الذي أعقب سقوط الاتحاد السوفيتي قد نص على أن روسيا دولة علمانية، إلا أن هذه الفترة شهدت انبعاث جديد لدور الكنيسة المجتمعي الديني، والذي أثر بالتأكيد على ازدياد نفوذها السياسي لدى صانعي القرار في روسيا، ومن مظاهر هذا النفوذ، أنه في عام 1997 وفي عهد الرئيس الروسي يلتسين دعا بطريريك الكنيسة الروسية إلى حظر الأديان القائمة على الهداية، وخصوصا التي تحاول اغراء الناس بالابتعاد عن دين أجدادهم، الأمر الذي وصفه المراقبون وقتها أنها اعلان حرب باردة على الأديان الأخرى وبالذات الإسلام.
ولعل من الأسباب التي أدت إلى تعاظم دور الكنيسة الروسية، هو سعي النظام الروسي الجديد الذي استلم السلطة مكان الشيوعية، في صياغة أيديولوجية بديلة عن الشيوعية يكون الدين (الأرثوذكسي) والقومية هي أهم مكوناتها.
وقد ازداد دور الكنيسة وتعاظم في عهد الرئيس الروسي بوتين، الذي وصفه رئيس الكنيسة بأنه الرجل الذي استطاع انتشال روسيا من الأزمة التي دخلت بها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، واعتبره قائدا اصلاحيا أرسلته العناية الإلهية لإنقاذ البلاد، ومن جانبه حرص بوتين على كسب ود الكنيسة فخصص لها عشرة مليارات من الدولارات لإعادة بناء أماكن العبادة وتمويل المدارس الدينية، الأمر الذي دفع رئيس الدائرة الكنسية للعلاقات الخارجية أن يطلب علنا من بوتين حماية الأقليات الدينة المسيحية في الشرق الأوسط، بل تمادت الكنيسة وأصدرت مرسوما عام 2011 يسمح للقساوسة التابعين لها بالترشيح في الانتخابات البرلمانية الروسية.
وتماهى بوتين مع هذه الوضعية الجديدة للكنيسة، فانتقد عام 2013 أمام البرلمان الروسي، النزعة نحو ما وصفه بتدمير القيم التقليدية باسم حرية الفكر والآراء، مؤكدا توجيهات روسيا لحماية هذه القيم والتي تعد الأساس الروحي والأخلاقي للحضارات.
ويرى المحلل السياسي قسطنطين كوروتي، أن الكنيسة الروسية تحولت إلى أداة طيعة بيد بوتين، يستخدمها لإضفاء قدسية على سياساته الداخلية والخارجية، مقابل منحها امتيازات هائلة لا تملكها أي مؤسسة مدنية أخرى في البلاد.
التدخل الكنسي الروسي في سوريا
منذ ما يقرب من مائة وثلاثين عاما وفي العهد الامبراطوري الروسي، تم تأسيس ما يعرف بالجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، وتم تأسيسها حينذاك في إطار التنافس الدولي على بلاد الشام في القرن التاسع عشر، حيث حاولت القوى الكبرى في ذلك التوقيت تقديم الدعم للأقليات المسيحية في هذه البلاد، فتدخلت روسيا حينذاك لدعم الأقلية الأرثوذكسية في الشام عن طريق تلك الجمعية، وقد تراجع دور هذه الجمعية كثيرا بل اختفت من الوجود تقريبا طوال العصر الشيوعي، لتعود للظهور مرة أخرى في عهد بوتين، وقبيل التدخل العسكري الروسي في سوريا، تم تعيين ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي في منصب المبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط، وبوغدانوف هذا هو نائب رئيس الجمعية الأرثوذكسية الفلسطينية، وشارك في عام 2014 في وفد الجمعية إلى الفاتيكان، لعرض ما أطلقوا عليه مأساة المسيحيين في سوريا.
وفي عام 2016 وفي خضم الحرب الدائرة في سوريا أسقطت تركيا طائرة مقاتلة روسية، فتدخلت الكنيسة الروسية علنا مرة أخرى وطالبت المجلس الأرثوذكسي العالمي، بالانتقال من مقر البطريركية القسطنطينية المسكونية في إسطنبول إلى جزيرة كريت في اليونان، وبعدها مباشرة وخلال اللقاء الذي جمع البطريرك الروسي كيريل وبابا الفاتيكان فرانشيسكو، تطرق الجانبان للخطر الذي يتعرض له مسيحيو الشرق، وضرورة توفير الحماية لهم من خطر الإرهاب، في دعم واضح لسياسة بوتين في سوريا.
إذن اعطاء البعد الديني للسياسة الروسية، يضفي على هذه السياسة في تقدير صانعيها البعد الرسالي، مما يساهم في حشد الشعب الروسي خلفها، وهذا ما يمنح الكنيسة فرصة كبيرة للتأثير في السياسات، وجاء التدخل الروسي في سوريا فرصة لإثبات ذلك البعد الرسالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق