السبت، 14 مارس 2020

تحرير المقاصد وتحريم تعطيل المساجد


تحرير المقاصد وتحريم تعطيل المساجد
ليس أهلا للفتوى من لا يدرك خطورة مشروع الحملة الصليبية لتغريب العالم العربي وتحجيم دور المساجد في بلدانه وفتح الباب على مصراعيه لبناء الكنائس والمعابد الوثنية حتى وصل الحال لإغلاق المساجد وتعطيلها دون الكنائس في دول آخر ما تفكر فيه حياة الإنسان وحقوقه!
بقلم أ.د. حاكم المطيري
19 رجب 1441هـ
14 مارس 2020م

سؤال/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
شيخنا الكريم
بخصوص تعليقكم على فتوى المنع من الصلوات الخمس في المساجد لمنع انتشار الفايروس؛ أليس في فتواهم نوع مناسبة في درء مفسدة أعظم؟ خصوصا أن الرجل قد يكون حاملا للمرض في بداياته ولا يشعر به فيصلي مع العامة مما قد يكون سببا في انتشاره.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وحياك الله ..
من عرف حقيقة الإسلام والإيمان والتوحيد لم يخفَ عليه بطلان فتوى إغلاق المساجد ومنع الصلوات خشية المرض!
فهذا لا يسوغه من يعرف أصول الإسلام فضلا عن فروعه! وإنما هو أثر من آثار الثقافة الغربية العلمانية المادية الطاغية التي جعلت من الإنسان سلعة منتجة يُخشى عليها من التلف وتكليف الدولة خسارة مادية باسم الاشتراكية! أو جعلته إلها يعبد من دون الله باسم الحرية والليبرالية! حتى غدت الحياة الدنيا وصلاحها بالنسبة لهم أهم من صلاح دينه وإيمانه وآخرته، كما يقرره الإسلام، الذي شرع الجهاد والقتال في سبيل الله، وإتلاف النفوس والأموال لظهور أحكامه‏ ‏﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾ ‏﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾!
وقد أجمع الفقهاء على أن حفظ الدين هو أول الضروريات الخمس، ثم يأتي حفظ النفس، فإقامة أحكام الإسلام ولو بالجهاد في سبيل الله الذي يفضي لتلف النفوس هو أصل الدين!
ومن ذلك إقامة ذكر الله في بيوته ومساجده وإعمارها بالصلوات الخمس والجمعة والجماعة، سواء فروض الأعيان أو فروض الكفاية، وقد قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٣١/ ٢٥٥ (ولا يحل إغلاق المساجد عما شرعت له).
وقال العيني في كتاب "البناية شرح الهداية للمرغيناني في فقه الحنفية" ٢/ ٤٧٠ (...ويكره أن يغلق باب المسجد؛ لأنه يشبه المنع من الصلاة) أي لأن الإغلاق شبه المنع فيكره؛ لقوله تعالى: ‏﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾..).
وقد سئل علماء مصر سنة ١٣١٦ عن حكم منع الحج من مصر لوجود وباء في الحجاز، فأفتوا بالإجماع بعدم جواز المنع من فريضة الحج، حيث جاء في مجلة المنار ٢/ ٣٠ (اجتمع مجلس النظار اجتماعا خصوصيا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه مجلس الصحة البحرية ضروريا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما كان المنع من الحج منعا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرا إلا بعد الاستفتاء من العلماء... ولهذا طلب رئيس مجلس النظار لحضور الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر، وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر، ومفتي الديار المصرية، والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية، والشيخ عبد القادر الرافعي رئيس المجلس العلمي سابقا، فحضروا وتذاكروا مع النظار، وبعد أن انفضوا من المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار وهي بحروفها:
الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا المرض متى كان مستطيعا.
وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا.
وأيضا فإن النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول أو الخروج، كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: "وإذا خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن علم أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتلي به كره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج" اهـ. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في ٢ ذي القعدة سنة ١٣١٦).
وقد طغت النظرة الغربية المادية في التعامل مع وباء كورونا بحصر القضية كلها بالطب الطبيعي فقط كالاحتياط والوقاية والعلاج، وقطعت العلاقة بعالم الغيب وبالطب الإيماني الذي يقتضي التوبة إلى الله، والإنابة إليه، ودعاءه وحده، والتوكل عليه، والصبر على بلائه، والرضا بقضائه، واستحضار عظمته، وهو حقيقة الإسلام والإيمان بالله!
والاحتجاج بدرء المفاسد ومنع العدوى لتعطيل المساجد ومنع إقامة الفرائض ضرب من العلمانية المادية التي تتدثر بالفتوى الدينية!
‏ووجود الوباء ليس نازلة تحتاج إلى اجتهاد وفتوى جديدة، فقد كان الوباء والطاعون شائعا في زمن النبي وقد بيّن أحكامه بالتفصيل، ولم يأذن قط بإغلاق المساجد وترك الصلوات فيها، بل نهى عن القدوم على أرض الطاعون، والخروج منها، وألا يختلط مريض بصحيح، ونفى وجود العدوى أصلا نفيا قاطعا معللا ذلك بالدليل الحسي، فقال: (لا عدوى) وقال: (فمن أعدى الأول) وقال: (لا يعدي شيء شيئا، فقال أعرابي: يا رسول الله، البعير أجرب، فتجرب الإبل كلها، فقال رسول الله : فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ورزقها ومصائبها)!
وقال ابن عمر -كما في صحيح البخاري- حين اشترى إبلا مريضة يخشى منها العدوى  (رضينا بقضاء رسول الله : لا عدوى).
وقد تواتر حديث: (لا عدوى) عن أكثر من عشرة من الصحابة رضي الله عنهم وهم أبو هريرة، وابن عمر، وجابر، وأنس، في الصحيحين، وابن عباس في صحيح ابن حبان، وسعد بن أبي وقاص في مسند أحمد والصحيحة للضياء المقدسي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وابن مسعود في الترمذي ومسند أحمد بأسانيد حسنة، والسائب بن يزيد، وأبو أمامة، وعمير بن سعد، في معجم الطبراني، وأبو سعيد الخدري عند الطحاوي.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح ١٠/ ١٦٠: (فحديث (لا عدوى) ثبت من غير طريق أبي هريرة، فصح عن عائشة، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وجابر، وغيرهم).
وقد نفى النبي العدوى، وأمر بالوقاية الصحية عند وقوع الطاعون، فمن أفتى بجواز إغلاق المساجد ومنع الأصحاء من الصلوات الخمس فيها والجمعة والجماعة خشية العدوى؛ فقد حاد الله ورسوله، وأثبت ما نفاه النبي واتخذه ذريعة لمناقضة شرعه، وخالف النص والإجماع، وسن في الإسلام سنة سيئة عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وفتح الباب للاجتراء على تعطيل المساجد ومنع الفرائض القطعية بشبهة سد الذريعة لكل من أراد إغلاقها، بدعوى الخوف على الناس، مع أن أسباب الخوف كثيرة كالحروب والفتن الداخلية مما يجعل المساجد عرضة لتدخل الدول في إغلاقها متى أرادت السلطة ذلك بدعوى المصلحة، مع أن المقتضي لمثل هذا الإجراء وهو وجود الأوبئة والطاعون كان موجودا في عهد النبي ، وكان في المدينة وباء يصيب كل من دخلها أول مرة فلم يؤثر عن النبي أنه رخص بتعطيل الجمعة والجماعة بسبب ذلك، فعلم يقينا بطلان الاحتجاج بهذه الشبهة، بل قاعدة سد الذريعة تقتضي منع السلطة من الاجتراء على إغلاق المساجد وتعطيل الجمعة والجماعة والصلوات الخمس ومنعها من التدخل في شأنها على هذا النحو؛ لأنه فتح لباب عظيم من أبواب الشر، وبإمكان السلطة بدلا من ذلك منع الناس من الخروج، لا إغلاق المساجد ومنع الصلوات الخمس فيها، فليس هذا من صلاحيتها وولاية الدولة على المساجد ولاية رعاية وتنظيم، لا ولاية منع وإغلاق وتعطيل!
ونفي النبي للعدوى أصلا واستدلاله الحسي المنطقي وهو (فمن أعدى المريض الأول) يؤكد بأن الأوبئة وفيروساتها موجودة فعلا، وقد يتعرض لها الإنسان بقدر الله كما حدث للمريض الأول، فيمرض لعجز جسمه ومناعته عن دفعها، وقد لا يمرض لقوة مناعته، كما هو مشاهد، فليس كل من اختلط بالمرضى يمرض، وليس سبب المرض العدوى نفسها، ومخالطة المريض بحد ذاتها، بل السبب الداء نفسه وضعف مناعة الجسم عن دفعه، فالحجر وقاية منه لا أن العدوى هي العلة والمرض، وقد قال النبي (ما أنزل الله من داء إلا له دواء)!
وقد عمّ الطاعون في عهد عمر الشام، فلم يؤثر أنهم عطلوا الجمعة والجماعة، أو منعوا من أدائها في المساجد، وكذا صلاة الجنازة وهي فرض كفاية، كما في مصنف ابن أبي شيبة عن عمرو بن مهاجر، قال: "صليت مع واثلة بن الأسقع رضي الله عنه على ستين جنازة من الطاعون، رجال ونساء، فكبر أربع تكبيرات، وسلم تسليمة"، ولم يعرف مثل هذا المنع المبتدع في تاريخ المسلمين كله، مع أن الطاعون أشد خطرا من وباء كورونا، فالموت منه متحقق، بخلاف كورونا الذي لا تتجاوز نسبة الوفاة به 2% مما ينفي عنه وصف المرض الخطير الذي يوجب تعطيل المساجد ومنع الجمعة والجماعة على الأصحاء، ولا يمنع ملايين المسلمين من مساجدهم وإقامة فرائض دينهم وشعائرهم، لمجرد وجود مئة أو مئتي مريض، كيف والصلاة عمود الدين في الإسلام!
 فليس مع من أفتى بإغلاق المساجد وتعطيل الجمعة والجمعة نص ولا قياس ولا فتوى إمام معتبر، بل أهواء سياسية جعلت المساجد والصلوات أهون مفقود في حياة المسلمين اليوم حتى تم إغلاقها قبل إغلاق الأسواق التجارية! وكان بالإمكان الاحتراز من المرض بحظر التجول إذا اقتضت الضرورة، ولزوم الناس بيوتهم، دون إغلاق المساجد ودون فتوى مرسلة بلا دليل من كتاب ولا سنة ولا نظر بالمنع من الجمعة والجماعة وهو ما لم يجرؤ عليه أحد من قبل!
وقد استطاعت كثير من الدول مواجهة المرض بوضع أجهزة كشف مبكر لأماكن التجمعات كالمطارات ونحوها، دون إغلاقها، وبالإمكان وضعها على أبواب الجوامع الرئيسية في كل مدينة تصلى بها الجمعة والجماعة، واتخاذ الإجراءات التي تحد من المرض دون إغلاق المساجد وتعطيل الصلوات!
وأما الاحتجاج بحديث: (الصلاة في الرحال) عند البرد الشديد والريح العاصف، فإنه لا يقتضي إغلاق المساجد، ولا منع من أراد الأخذ بالعزيمة، والخوف يسقط وجوب الجمعة والجماعة على الخائف وحده، لا إغلاق المساجد ومنع من لم يخف من إقامتها!
 وما زال المسلمون إذا عمّ الوباء والطاعون يهرعون للمساجد للدعاء والاستغفار، كما هي السنة، ولم يذكر قط أن أحدا من الأئمة أفتى بإغلاق المساجد ومنع المصلين منها للخوف من الوباء!
وقد احتج الحنفية بعموم حديث: (إذا رأيتم شيئا من هذه الأفزاع فافزعوا إلى الصلاة)، قال في حاشية الدر المختار: ((قوله: والفزع) أي الخوف الغالب من العدو (قوله: ومنه الدعاء برفع الطاعون) أي من عموم الأمراض، وأراد بالدعاء الصلاة، لأجل الدعاء قال في النهر: فإذا اجتمعوا صلى كل واحد ركعتين ينوي بهما رفعه..
لقوله - عليه الصلاة والسلام "إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئا فافزعوا إلى الصلاة").
وتحقيق مقاصد الشرع يكون بإقامة أحكامه لا بتعطيلها بذريعة تحقيق مقاصده، فليس أعلم بالله ومراده ومقاصده من رسوله، وقد كانت الأوبئة في عهد النبي فلم يمنع المسلمين من الجمعة والجماعة أو يغلق المسجد خشية العدوى بل قال: (لا عدوى) وقال: (إذا وقع الطاعون في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)!
‏وفتوى المنع بنيت على قاعدة (سد الذريعة) والمراد منع الوسيلة المباحة إذا أدت إلى مفسدة، كمنع بيع العنب ممن يصنعه خمرا، لا منع بيع العنب مطلقا، أو منع زراعته، لعدم منع الشريعة من ذلك، وهي قاعدة مختلف فيها، ولم يقل أحد ممن يحتج بها بأنها تستعمل في تعطيل فروض الأعيان أو فروض الكفاية!
‏وللجنة الفتوى أن تفتي بعدم وجوب صلاة الجمعة بسبب الخوف من الوباء، وليس لها أن تفتي بالمنع من الجمعة والجماعة، وهو منع من الاستجابة للأمر القرآني: ﴿إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ ولا يحق للسلطة منع المصلين الأصحاء من إقامتها إذا أخذوا بالعزيمة، فسد الذريعة لا يعطل الفريضة، وللسلطة إذا اقتضت الضرورة حظر التجول على الناس دون التعرض لحرمات الدين وقطعياته بالفتاوى السياسية..
….
موضوعات ذات صلة:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق