الإسلاميون والجماهير: توافق أم تعارض؟
إن الجماهير القائمة صنعة العلمانية التي تعمل في المجتمعات منذ قرون، ولذا فإن أهدافهم لا تخرج عن متطلبات الحياة الضرورية ولا علاقة لهم بمطالب الإسلاميين العقدية، ولذا يلتقيان قليلًا ويتفرقان سريعًا.
يعد الحراك الجماهيري أحد أهم الأدوات التي حاول الإسلاميون استخدامها في تحقيق هدفهم الأكبر، وهو استئناف الحياة الإسلامية من جديد.."التجديد"، أو "الإحياء". حيث ظهر استخدام تلك الأداة ( الجماهير) في فترات مختلفة، وعلى سبيل المثال: في نهاية الستينات على يد "يحى هاشم"، واستوحى الفكرة من تظاهرات الطلاب 1968[1]؛ ثم حاولت الجماعة الإسلامية في نهاية حكم السادات، إذ أن اغتيال السادات لم يكن هدفهم ابتداءً وإنما أرادوا إشعال ثورة جماهيرية[2]، وفي ذات التوقيت ظهرت الفكرة في الجزائر على يد مصطفى بويعلي (ت1987م) ومن بعده "جبهة الإنقاذ"؛ ثم ظهرت الفكرة أكثر بعد انتصار الأفغان على السوفيت وذلك على يد الشيخ عبد الله عزام[3] ؛ وبعد "الربيع العربي" عادت الحركات الإسلامية تتبنى فكرة "الثورة الجماهيرية" مرة أخرى، فالتحق عامتهم بالانتفاضات الشعبية، وحاولوا قيادة الجماهير وصولًا لأهدافهم. فنحن أمام سياق من التواصل بين الإسلاميين والجماهير، ويمكن تسجيل عدد من الملاحظات على هذه الظاهرة، على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: أن الإسلاميين يلجؤون للجماهير حال حدوث نشاط جماهيري، كما حدث بعد ثورة 1919م وظهور الجماهير كفاعل في المشهد السياسي، حيث شاركت الجماهير في صناعة الثورة، ودعمت الزعامة التي أفرزتها الثورة.. سعد زغلول ومن بعده دعمت الاتجاه المعارض للسلطة (الحزب الليبرالي بقيادة مصطفى النحاس)؛ وحين عادت الجماهير مرةً ثانية للمشهد بعد هزيمة 1967، وبعد نجاح الثورة الإيرانية1979، وبعد ظهور الجماهير في المشهد الأفغاني بالدعم المادي للمجاهدين الأفغان ضد السوفيت، بمعنى أن الإسلاميين يأخذون أدواتهم من الرائج على الساحة، وهو أمر مضطرد فكلما اشتهرت أداة من أدوات الفعل أخذوا بها دون النظر في عواقبها، فأخذوا بالنسق المغلق والتنظيمات السرية (الجماعات) بعد انتشارها في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وخاصة بعد نجاح الثورة البلشفية 1917-1921م، ثم أخذوا بأداة الانقلاب العسكري (حزب التحرير، وحادث الفنية العسكرية، واغتيال السادات)، ثم أخذوا بحرب العصابات بعد نجاحها في كوبا والصين وفيتنام، والثورات الجماهيرية، وأشرح هذا في مقالٍ آخر إن شاء الله.
والملاحظة الثانية: حدوث حالة من التوافق بين الإسلاميين والجماهير، ويحدث هذا التوافق سريعًا، ويرجع ذلك لعددٍ من الأسباب من أهمها:
1. التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. وظهر أثر ذلك في الاستجابة الانفعالية الجماعية السريعة للحدث في مختلف دول العالم بسبب التدفق العالمي للمعلومات، مما أفاد الإسلاميين في تسويق هويتهم والحشد حول بعض المواقف.
2. تضخم دور الفرد، فأصبح بعض الوعاظ، ومن يتبنون يواجهون الغرب والنظم المحلية من المؤثرين في الحدث.
3. تراجع دور المؤسسات الدينية الرسمية، وتبعيتها للنظم الحاكمة من حيث العموم، وذلك أن الإسلاميين زاحموا المؤسسات الدينية الرسمية في المجال العام، فخاطبوا الجماهير من خارج المنابر الرسمية وأوجدوا رموزًا جماهيرية من خارج رموز المؤسسة الرسمية، وتبع ذلك إيجاد قضايا جديدة تدعم بشكل مباشر أو غير مباشر خطابهم، مثل "تطبيق الشريعة" و "فرضية الحجاب" ونحو ذلك، مما أدى إلى فقد المؤسسة الدينية الرسمية قدرتها على الحشد والتجنيد.
4. غلبة الجانب الوعظي على خطاب الإسلاميين وخاصة التيارات السلفية. ولكونه خطابًا وعظيًا ينادي بحسن الخلق، ويذكر الناس بما ينتظرهم في الدار الآخرة من نعيم مقيم وعذاب أليم فيسلِّي المصابين ويبشر المجتهدين، فإن ذلك يعطيه قبولًا أكثر بين المتلقين خاصة الطبقات الفقيرة المثقلة بمتاعب الحياة وهؤلاء هم عامة المؤيدين للإسلاميين.
5. كما أنّ خطاب الإسلاميين يتسم بكونه خطابًا مباشرًا لا غموض فيه، ويقطع الوساطة بالمرجعية التقليدية أو المذهبية؛ فيعطي الإنسان شيئًا من الحرية، على الأقل في التعامل مع النص الشرعي. وقد لاقى هذا قبولًا وخاصة مع تزايد ثقافة الفردية والاستقلالية.
6. تجنب الخطاب الصحوي تراكمات الآراء المذهبية خلال قرون عديدة، وقدّم خطابًا سهلًا يناسب جميع طوائف المجتمع، فتحدث للمهمشين سياسيًا يعدهم ويمنيهم، وتحدث للفقراء، وللطامحين في السلطة وخاصة مع حدوث تحولات اجتماعية. وحديثه حديث الاستعلاء والتمكين والتبشير بالدولة الإسلامية الخالية من الآلام وهذا خطاب يطرب المستضعفين فيجتمعون حوله ويرددونه وربما يتبعون قائله وخاصة حين لا تكثر التكاليف.
8. انتشار الصحويين في المجتمع وكثرتهم العددية مقارنةً بغيرهم من أصحاب المذاهب العلمانية، مما مكنهم من التحدث للجماهير بشكل مباشر.
الملاحظة الثالثة: أنه على عكس ما تحاول الحركات الإسلامية تسويقه من أنّ الجماهير تبنت كثيرًا من أفكارهم، فإنّ حضور الجماهير لم يكن في صالح الإسلاميين من حيث العموم، وذلك لأن عموم الحركات الإسلامية يتصرفون بتأثير مباشر لفهمهم للنص الشرعي، والفرد من الجماهير يفكر ويتصرف بدافع من حساباته الشخصية وخبراته الذاتية، بمعنى أن تأييد عوام الناس (الجماهير) للإسلاميين لم يأت لخيارات عقدية وإنما بحثًا عن مصلحة مادية بحتة. ولذا نستطيع أن نقول: أن الجماهير لم تكن عنصر دعم دائم للإسلاميين، وإنما مالت للمخالفين كما مالت لهم بحثًا عن أهدافٍ خاصة، ويلاحظ أن التجاوب بين الإسلاميين والجماهير يحدث بشكل مؤقت، تحديدًا في وقت الأحداث الكبرى، ثم تحدث النفرة سريعًا، وذلك لتأخر استجابة الجماهير للخطاب العقدي. فالجماهير تتأثر، أكثر، بمن يتبنى مطالبهم الغريزية، المتعلقة بمتطلبات الحياة اليومية (المسكن والمأكل والمشرب، وتوفير دخل ثابت [التوظيف])، ولذا خرجوا يهتفون، "عيش، حرية، عدالة اجتماعية". ولأن هناك فرق بين الوعي والتعبئة، فقد حاول الإسلاميون نشر وعي بعددٍ من القضايا العقدية التي تتعلق بالإيمان والكفر من وجهة نظرهم، ولم يستطيعوا تعبئة الجماهير لصالح قضاياهم السياسية، وربما يرجع ذلك لعدم امتلاك حواضن شعبية ثابتة تتمثل في أدوات تحريك الجماهير من خلال مؤسسات مجتمعية أو روابط اجتماعية ثابتة، والذي يحدث هو حالة من الانفعال المؤقت، أو التوافق المؤقت بين الإسلاميين والجماهير سرعان ما تنفض، بل وتنقلب ضد الإسلاميين.
[1] انظر: أيمن الظواهري، فرسان تحت راية النبي، نسخة الكترونية، الطبعة الثانية، ص 15، 16.
[2] انظر:طارق الزمر: "أسرار وكواليس اغتيالات السادات"، : https://2u.pw/3Ta1L
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق