نظرات وعبرات
من يحاسب المجرمين الكبار؟
محمود عبد الهادي
20 عامًا مضت على أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م، وملايين الأسئلة ما زالت تجري على ألسنة المتابعين الذين يبحثون عن إجابات مقنعة حول حقيقة ما حدث. أصدر الرئيس جورج بوش الابن قراره تشكيل لجنة وطنية للتحقيق وتقديم تقرير كامل حول ما حدث بتاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2002م، أي بعد أكثر من 14 شهرًا من الواقعة، وبعد عامين و8 أشهر من هذا التاريخ قدمت اللجنة تقريرها في 585 صفحة، بعد أن تم احتلال أفغانستان والعراق، والإطاحة بنظامي طالبان وصدام حسين، وأُدخل العالم في جحر محاربة "الإرهاب الإسلامي" الذي تمت هندسته بعناية شديدة منذ نهاية الثمانينيات، وأصبح بمثابة الرواية الرسمية حول الواقعة للشعب الأميركي والعالم، للسياسيين والقضاة والإعلاميين والأكاديميين والباحثين، للتاريخ وللمستقبل، وليغلق بذلك الباب أمام أية أدلة أو معلومات أو تفسيرات أو احتمالات تخالف ما جاء في التقرير، حتى وصل الأمر إلى رفض القضاء قبول أي قضية تشكك في الرواية الرسمية للواقعة.
على الإعلام أن يقوم بواجبه، ويستغل إمكاناته والصلاحيات الممنوحة له بحكم وظيفته للوصول إلى الحقيقة، ولا يجوز له أن يتقاعس عن شيء في طريق البحث عنها، بحجة أنه يندرج تحت نظرية المؤامرة.
خديعة نظرية المؤامرة
أصبحت الرواية الرسمية للواقعة بمثابة حقيقة قطعية لا يساورها شك، وأصبح من يشكك فيها -أو حتى من يتساءل حول بعض ما جاء فيها- مشكوكًا في أمره، ومتهمًا في انتمائه الوطني، ومنطقه العلمي، وصار من أصحاب نظرية المؤامرة، بغض النظر عن قوة الأدلة والمعلومات التي يسوقها.
في كل عام يتذكر العالم هذه الواقعة، وتنشر وسائل الإعلام في العالم أجمع -وبصورة شبه موحدة- البيانات نفسها، وتطرح الأسئلة نفسها، التي تثير مشاعر الأسى والألم والحسرة في نفوس الأجيال، من كافة الأصقاع، وتذكّرهم بالجريمة النكراء التي ارتكبها أفراد من تنظيم القاعدة "الإسلامي الإرهابي"، وتقف إلى جانب الزعماء السياسيين في حربهم المزعومة على الإرهاب. ملايين الصحف والمجلات والقنوات الإخبارية والمواقع الإعلامية تنشر سنويًّا لجماهيرها ما وصلها من وكالات الأنباء الدولية الرئيسية: رويترز وإيه بي (AP) وإيه إف بي (AFP)، التي تعتمد في مادتها على الرواية الرسمية، وما يصدر عنها من بيانات سنوية بهذه المناسبة، وما ينقله مراسلو هذه الوكالات من وقائع الاحتفال السنوي بهذه الذكرى، من دون أن تفتح المجال للأسئلة المتجددة حول الواقعة وحقيقة ما حدث، خوفًا من الوقوع تحت تأثير نظرية المؤامرة.
إن مسؤولية الإعلام أن ينقل الأخبار والمعلومات للجمهور، من دون أن يتبنى وجهة نظر أصحاب هذه الأخبار أو المعلومات، ومسؤولية الإعلام أن يطرح الأسئلة التي تكشف الغموض وتزيل الالتباس، وتساعد الجمهور على فهم أعمق لحقيقة ما يجري من جميع الجوانب، عن طريق استضافة العلماء والمختصين والناشطين ذوي الصلة من أصحاب الخبرة والجدارة.
عشرات الآلاف من المهندسين والمحامين والإعلاميين والشرطة والجيش وموظفي الدولة والنشطاء المدنيين، وذوي الضحايا، يعملون بدأب شديد، وصبر عنيد، منذ 20 عامًا، مطالبين السلطات الرسمية في الولايات المتحدة الأميركية بالكشف عن حقيقة ما جرى في ذلك اليوم، وما سبقه من أيام، ورغم قوة الأدلة والمعلومات التي بين أيديهم، فإن أحدًا لم يأبه لهم، ولم يتجاوب مع مطالبهم، ومن بينهم العديد من المهتمين والمؤيدين من دول أخرى خارج الولايات المتحدة. وبسبب التعتيم الإعلامي المحلي والعالمي الذي يواجهه هؤلاء قصدًا أو من دون قصد، يظل نشاطهم محصورًا -غالبًا- في منصات التواصل الاجتماعي، وهم مقتنعون بأن الحقيقة ستظهر حتمًا في يوم من الأيام.
إن على الإعلام أن يقوم بواجبه، ويستغل إمكاناته، والصلاحيات الممنوحة له بحكم وظيفته للوصول إلى الحقيقة، ولا يجوز له أن يتقاعس عن شيء في طريق البحث عنها، بحجة أنه يندرج تحت نظرية المؤامرة.
من يحاسب الكبار على جرائمهم؟ وتحت أي ذريعة تبرر الدول الكبرى جرائم سياساتها الخارجية، ومشروعات هيمنتها، وأطماعها التوسعية في العالم؟ إلى متى سيستمرون في بطشهم وظلمهم تحت دعاوى كاذبة وشعارات خادعة ووعود متهاوية اعتاد العالم عليها منذ عشرات السنين؟ وإلى متى يستمر العالم يذرف على موتاهم دموع الحسرة الصامتة على موتاه؟
احتلت الولايات المتحدة أفغانستان لمدة 20 عامًا، بحجة أنه يأوي تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن المسؤول عن واقعة 11 سبتمبر (حسب الرواية الأميركية الرسمية)، واحتلت العراق عام 2003 وأسقطت نظام صدام حسين، بحجة أنه يمتلك أسلحة دمار شامل ويدعم القاعدة وأسامة ابن لادن. وقف الإعلام العالمي بجانب الولايات المتحدة مع التحالف الدولي في أفغانستان تحت تأثير الواقعة، ولكنه وقف أيضًا وبإلحاح شديد مع احتلال العراق، رغم أن جميع الأدلة التي ساقتها الإدارة الأميركية حينها تندرج تحت مفهوم "نظرية المؤامرة"، وبلغت نسبة الضيوف المؤيدين للحرب على العراق في القنوات التلفزيونية الأميركية حينها 99%.
اثنان فقط من الصحفيين الأميركيين، هما جوناثان لاندي ووارين ستروبِل، كانا يعملان في مؤسسة "نايت رايدرز" الصحفية في واشنطن، خالفا المؤسسات الإعلامية الكبرى في الولايات المتحدة، ولم يقفا عند حدود الروايات الرسمية حول الحرب على العراق، وقررا الاستمرار في طرح الأسئلة التي تبحث عن الحقيقة وتحاول الوصول إلى كشف الغطاء عما يحدث، إلى أن قادهم ذلك في عدة تقارير متتابعة إلى أن الحكومة الأميركية لا تملك أي أدلة حقيقية تبرر الحرب على العراق، وأن لديها نية مبيّتة للقيام بذلك، ترجع إلى ما قبل الواقعة، وهذا ما أثبتته الأحداث في ما بعد، مما أساء إلى صحف كبرى مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز ووول ستريت جورنال، على التغطية المضلّلة التي قدمتها.
لم توقف تقارير لاندي وستروبل الحرب على العراق، فهذه ليست مسؤولية الإعلام، ولكنهما قاما بما يجب عليهما لإظهار الحقيقة للناس، وتم تكريمهما من قبل المعرض الصحفي بمجلس الشيوخ الأميركي عام 2004، وتم توثيق دورهما في فيلم درامي بعنوان "الصدمة والرعب" (Shock and Awe) عام 2017م.
المجرمون الكبار
إذا كانت ذكرى واقعة 11 سبتمبر أليمة للولايات المتحدة والشعب الأميركي، فإنها ذكرى فاجعة للأمة العربية والإسلامية، وإذا كان الشعب الأميركي خسر 3 آلاف شخص في هذه الواقعة، فإن الأمة العربية والإسلامية خسرت مئات الآلاف من الأبرياء، وفقدت الملايين من شعوبها بين نازح ولاجئ، ودخل العالم العربي والإسلامي بعدها مرحلة فادحة من التفكك والتشرذم والانهيار، انفلتت فيها الصراعات الدموية المسلحة التي لا نعرف متى ستتوقف.
انتقمت الولايات المتحدة من طالبان والقاعدة، بهجوم عسكري كاسح على أفغانستان أواخر 2001م، أزاح طالبان عن السلطة، وقتل الآلاف من أتباعهم وأتباع القاعدة، ولكن الولايات المتحدة والتحالف الدولي معها استمروا في احتلال أفغانستان لمدة 20 عامًا، وتسببوا في قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وتدمير آلاف المنشآت السكنية والتعليمية والصحية.
كما انتقمت الولايات المتحدة (ظلمًا وعدوانًا) من العراق، وأسقطت نظام صدام حسين، وتسببت كذلك في مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين، وتدمير شبه كامل للبنى الحضارية في العراق، وتحويله إلى ساحة صراع أهليه تدير فيها حربها على الإرهاب. فضلاً عن ملايين الضحايا من الأطفال والأمهات والضعفاء الذين سقطوا بسبب الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق بعد تحرير الكويت عام 1991 لمدة 12 عامًا.
فمن يحاسب هؤلاء الكبار على جرائمهم؟ وتحت أي ذريعة تبرر هذه الدول جرائم سياساتها الخارجية، ومشروعات هيمنتها، وأطماعها التوسعية في العالم؟ وماذا على العالم أن يفعل إزاء جرائم الهيمنة هذه؟ وإلى متى يستمر هؤلاء الكبار في بطشهم وظلمهم تحت دعاوى كاذبة، وشعارات خادعة، ووعود متهاوية، اعتاد العالم عليها منذ عشرات السنين؟ وإلى متى يستمر العالم يذرف على موتاهم دموع الحسرة الصامتة على موتاه؟
في الأسبوع القادم: هل انتصرت طالبان؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق