استصنام العلم الحديث
غير خافٍ على المثقف المعاصر أن أوروبا لمّا ارتدّت عن الدين النصراني المحرف وانقلبت على الكنيسة وهيمنتها على مجالات الحياة، كان لابد لها من نصب إله جديد، وكان هذا الإله هو العقل !
غير خافٍ على المثقف المعاصر أن أوروبا لمّا ارتدّت عن الدين النصراني المحرف وانقلبت على الكنيسة وهيمنتها على مجالات الحياة، كان لابد لها من نصب إله جديد، وكان هذا الإله هو العقل !
يَرِد العقل كما قال ابن تيميّة على أربعة معانٍ(1):
1-الغريزة العقلية
2-العلم الضروري
3-العلم المكتسب عن نظر واستدلال
4-العمل بالعلم
أما الغريزة العقلية فلا ثقة بمخرجاتها إذا استبعد الربّ الحق من المشهد، لأن العقل إذا كان ابن العشواء فإنه لا مستند للوثوق به ولا وجه لأن يكون معتمدا عليه بوصفه مرجعية عليا حاكمة، وفوق هذا.. مع القول بالتطور الذي تحول إلى عقيدة دوغمائية عند ملاحدة الغرب فإن مخرجات العقل اليوم ليست غير نتاج هو ابن الحقبة الراهنة في سيل المشهد التطوري!
وأما العلم الضروري، فبه عرفنا الله عز وجل، بآيات الآفاق والأنفس وغيرها مما ليس هذا محل بسطه، لكن المهم تقريره هنا أن استناد المعارف إلى عتبات العلم الضروري يدل دلالة يقينية على انتهاء العقل في تركيبته إلى لزوم مرجعية عليا مهيمنة.. لولاها ما كان للعلم أي وثوقية ولا لمعنى اليقين أي مصداقية
فبالاستناد للعلم الضروري شيد العلماء التجريبيون بحوثهم، فإن كل حقيقة علمية تستند إلى برهان، وكل برهان لابد أن ينطلق من العلم الضروري وإلا امتد البرهان إلا ما لا نهاية وهذا يبطل كونه برهانًا، وإذا كان كل برهان لابد له من منطلق يستند إليه لا يحتاج إلى إثبات، فهذه العتبة المستغنية عن البرهنة عليها، هي نفسها بشيء من التفكر:تشير إلى مرجع أعلى هو الحق المطلق وهو الله جل ثناؤه..
وأما العلم المكتسب ومنه المجال النظري والتطبيقي في العلم الحديث، فهو الذي قدسه العالَم اليوم حتى اتخذوه صنمًا، وتسلل ذلك إلى بعض أبناء المسلمين مع بالغ الأسف، وقد حدثتني إحداهن أن معلمة في المدرسة بعد أن شرحت لهن حديث (الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين )(2)، عقبت قائلة: ولكن العلم الحديث لم يؤكد ذلك بعد.. هذا التعقيب المقتضب يكشف لك عن عمق المصيبة.
ولو قدّر أن أحدا ما لا يؤمن بما صح به الخبر من الوحي إلا بصكّ تصديقٍ من مكتشفات العلم الحديث فما هو بمؤمن، وإن زعم أنه مسلم فلا يكون آمن بالنبي من هذه حاله.. فليعتبر من رجا لنفسه النجاة في الآخرة..
وقد قال الله تعالى عن علوم الكفار: {يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7]، وليس من المصادفة أن تقع هذه الآية في أوائل سورة الروم، وهم ما يمكن أن نعبر عنهم اليوم بالغرب..
وجه ذلك:
-أن العلم بالله ودينه، متعلق بصلاح الآخرة وهو أبدي، وبصلاح الدنيا كذلك على نحو تكون به حياة الناس مستقيمة فإن الصانع أعلم بصنعته، ولهذا أرسل الله تعالى الرسل عليهم صلوات الله وسلامه
-و أن الله عز وجل ينتهي إليه كل علم وهو تعالى أصل كل فهم سديد، كما قال جل ثناؤه: {ففهمناها سليمان} [الأنبياء:79].
ولما كانت الدنيا قنطرة قصيرة محدودة إلى يوم القيامة، كان الانهماك فيها على حساب شيء لا نهاية له من النعيم، من الحُمق البالغ الذي لا عِدل له، ومن هنا استحق الذم من كان عالما بالفيزياء وهو عن الآخرة غافل، أو عالما بالطب وهو عن الآخرة غافل.. إلخ إذ لو كان يعقل لكان علمه بالفيزياء أو غيره، هاديًا له إلى معرفة الله حاديًا له إلى التماس سبيله..
وأما العقل بمعنى العمل بالعلم النافع، فهذا أعظم ما غفل عنه كل عقل غير مؤمن كالعقل الغربي ونحوه، وهذا موضع يتميز فيه الفرق بين الذكاء بمعنى النشاط الذهني في مجال معين، وبين العقل الذي يرجح فيه المرء المصلحة الحقيقية على المفسدة، والنافع على الضار، والخير على الشر، بل يرجح خير الخيرين، ويستبعد شر الشرين حين لا يمكن تفاديهما معًا، وهذا هو الذي يرجى لصاحبه الهداية إلى الحق، يقول إمام المعقول والمنقول ابن تيميّة عن العقل بهذا المعنى "وأما العمل بالعلم، وهو جلب ما ينفع الإنسان ودفع ما يضره بالنظر في العواقب، فهذا هو الأغلب على مسمى العقل في كلام السلف والأئمة، كالآثار المروية في فضائل العقلاء" (3)
إذا عرف هذا فقد آن الحديث عن ظاهرة استصنام العلم الحديث بنحو مباشر..
إن كلّ الكشوف العلمية والقوانين الفيزيائية ونحوها، هي كاسمها: كشف عن شيء أصله موجود، وليست خلقًا لشيء معدوم، فهي كما لو اكتشف منجم للذهب، فلا يكون الذهب منشأً بل مكتشفًا.. وغاية ما تمثله معادلة رياضية للكشف عن ظاهرة في الطبيعة، هو كآلة التصوير لمشهد ما، فهي تصف الشيء، وتجيب عن سؤال (كيف) كذا ؟ وليست تجيب عن سؤال الغاية:لم ؟ وليس يمكن البتة الظفر بسؤال (لم؟) إلا بإرجاع الأمر إلى رب العزة سبحانه وتعالى.. فإليه يرجع الأمر كله.
وفهم هذا وحده كاف في وضع العلم الحديث موضعه اللائق به دون غلو فيه ولا جفاء عنه كما هي النظرة الإسلامية، خلافا لمن ابتغى أن يجعله صنمًا فجعل ينصب معارضة وهمية بينه وبين الوحي الشريف لسوء فهمه تارة، وقلة علمه بالدين واللغة تارة، واحتقابه آفات قلبية تعميه عن النظر الصحيح تارة أخرى.. وإذا عرفت أن العقل نفسه إنما يقع مجال ابتكاره لا في إنشاء شيء من لا شيء بل ما حصله من أفكار من الواقع يؤلف بينها ويجري جملة من الأقيسة والاستنباطات على ما هو موجود في حيز المعلومات حتى يستولد منها نظرية أو قانونا .. فانظر إلى سخف من يقدس نتاج العلم الحديث وحقيقته اكتشاف لشيء خلقه الله لا اختلاق له من عدم.. {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين} [النحل:4].
-ثم إن أهل العلم الحديث أنفسهم يقرّون بأن العلم التجريبي لا يفي بالإجابة عن كل التساؤلات، فيقول مثلا فرانسيس كولنز –ملحد سابقًا- في مقطع على اليوتيوب وهو رئيس مشروع الجينوم البشري وقد طرح جملة من التساؤلات على سبيل الأمثلة التي لا يستطيع العلم التجريبي الإجابة عنها فقال في لقاء معه "لماذا نحن جميعا هنا ؟ لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء ؟... إلخ .. والعلم ليس لديه الكثير ليدلي به في هذا الخصوص"*حاشية (أوصي هنا بالرجوع لمقالين: العقل والعلم بالغيب، وسؤال الغاية.. .على نفس هذا الموقع الكريم )
وفي لقاء مبثوث على موقع اليوتيوب أيضا جمع بين أحد أشهر ملاحدة العصر (ريتشارد داوكنز) و كبير أساقفة كانتربري الدكتور روان وليامز –نصراني-وصف مدير النقاش:؛داوكنز بأنه أشهر الملحدين فاعترضه قائلا إنه لا يصف نفسه هكذا فسأله هل يصنف نفسه بأنه "لا أدري "(agnostic )، فرد دوكينز قائلا: إنه يفضل أن يوصف كذلك حقا ثم قال عن نفسه، أما أنا فلا اؤمن بوجود إله كهذا لكنني لا استطيع الجزم بأنه لا إله 100 بالمائة". ولك أن تتصور حين يصدر هذا عمن يوصف بأنه أشهر ملاحدة العالم، فله دلالات قوية تكذب كل دعاوى الملاحدة(الصغار) حول معطيات العلم الحديث.
-ثم إن المجال المعرفي المعين لا يصح قياسه بأدوات مجالات معرفية أخرى، هذه قاعدة لا ينبغي أن يخالف فيها أحد يدعيانه يحترم العقل، بل حتى في العلوم التجريبية نفسها ترى أن أدوات المعامل المخبرية وموازينها القياسية تختلف اختلافا كبيرا بين علم وآخر مراعاة للخصائص المميزة لكل فن عن الآخر.إن الميزان الذي توزن به الطائرات مثلا لا يصلح أن يستعمل لوزن حليّ الذهب !.. ، فكل صنف من الأشياء أو ضرب من المعارف له ميزانه اللائق به، ومن رام توحيد الموازين فهو واقع في غلط منهجي عظيم.. من فقه هذا انحلّ عنده إشكالات في العلم وانكشف له زيف كثير من الدعاوى.. كقول الملحد:أريد دليلا تجريبيًا على وجود الله-تبارك اسمه-.. أو قول جاحد السنة:أريد دليلا قطعيًا على صحة السنة.. ويعني بالقطع ما كان على مقاييس ذريّة !.. والحاصل أن الأدلة القطعية ثابتة ولكن كل جنسٍ له ما يلائمه من معنى القطع والظن..
- هذا مع أن الوحي كتابا وسنة فيهما قدرٌ من الدلائل التي يلحظ فيها المنصف مواطأة الكشوف العلمية لما جاء به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعك ممن يغلو فيتعسف في تحميل النصوص ما لا تحتمل ويتكلف في استنطاقها مالم تنطق به، فهذا مسيء.. والله ورسوله من فهمه براء، ولكن أصل هذا المبحث- وهو دلائل صدق الوحي من ناحية ما صدّقه العلم الحديث عليه-:لا ريب في صحته، وكان طائفة منها سببا في إسلام علماء ومثقفين في الغرب.. والمهم هنا ألا يترك هذا الباب بلا ضوابط منهجية لئلا يساء للإسلام من حيث أريد الإحسان.(وإن كان المسلم كما أسلفت عليه أن يبرأ من الانهزامية فإن من وقف تصديقه بالوحي على شيء من عقل أو غيره =لم يكن مصدقا بالوحي في حقيقة الأمر)
-والإشكالية المنهجية عند من يقدّس نتاج العلم الحديث، أنه في حقيقة الأمر واقع في مغالطة حصر العلم وقصر طرق المعرفة على العلم التجريبي، وهذا اختزال عظيم لحقيقة العلم وطرق المعرفة، فالعلم ميدانه رحب ومجالاته شتى فمنه ما يتلقى من المعامل المخبرية بالمراقبة الحسية، ومنه ما يتلقى بالاستنتاج العقلي وميدانه فسيح فيدخل فيه حتى الدراسات المتعلقة بالنفس الإنسانية، ومنه ما يتلقى بالخبر الثابت صدقه.. وقد جمع الله تعالى هذه المحاور الكبرى في قوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} [النحل:78].
فقوله "والله أخرجكم.. .لا تعلمون شيئا " فيه إشارة إلى الخبر الصادق عبر الوحي، لأن الذي أخرجنا لا نعلم: حقيقٌ أن يعلمنا..
وقوله "وجعل لكم السمع والأبصار" ذكر لأهم المنافذ الحسية
وقوله "والأفئدة " بيان لوظيفة التفؤد العقلية..
ثم قال "لعلكم تشكرون " فكل العلوم ينبغي أن تكون في إطار عبودية الله تعالى، والعبودية تقتضي رسالة من السماء.. فهذا إيماء إلى الخبر الصادق كذلك
-ثم إن العلوم في تطور مستمر، وكثيرا ما يكون اللاحق فيها ناقضًا للسابق أو مبطلا لبعض جزئياته، وترى هذا في مثال صارخ أن الفيزياء الحديثة لها نظرة مختلفة في الحكم على الأشياء من الفيزياء "الكلاسيكية".. وهكذا
فمن ينصب معارضة بين الوحي، وبعض نتاج العلم الحديث، فهو واقع لا محالة في شيء من المغالطات الآتية:
-إما أنه لم يفهم الوحي الذي ينبغي أن يفهم على معهود كلام العرب الذين نزل فيهم القرآن
وقد قال الله تعالى ممتنًّا {بلسان عربي مبين} [الشعراء:195]، فظن دلالته على شيء وهي على شيء آخر
-وإما أنه ظن معطيات العلم الحديث قطعية وهي ظنية كأن تكون فرضية ونحو ذلك
-أو ظن الخبر المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم ثابتًا وليس كذلك..
وأضرب مثلا بما يسمى نظرية التطور، وهي ليست غير فرضية وضعها تشارلز دارون قبل أكثر من مئة وخمسين سنة، فلما تبناها كثير من الغرب لما فيها من مفزع وهمي لإلحادهم، أصابت الانهزامية قومًا من بني جلدتنا، وجعلوا يحاولون بالعسف ليّ النصوص لتكون منسجمة مع التطور، واخترعوا تركيبة متنافرة بين الوحي والرأي، أعني رأي دارون! تدعى: التطور الموجه..
وهي فرضية بائدة ساقطة لا تقوم على برهان بل مجرد ملحوظات ساذجة وتكلفات باهتة، ردّها الكثير من "عقلاء" الغرب أنفسهم وصنف في الردّ عليها جملة من حذّاقهم.. مثل جوناثان ويلز، ومايكل بيهي وغيرهم.
إن هؤلاء المنهزمين بضغط الحضور الغربي ولا أقول الحضارة، يخفت في وجدانهم أن هذا الدين العظيم قد ثبت بالبراهين المفيدة لليقين ولاسيما مع ضحالة علمهم به وتلبسهم بالشهوات، فيرجعون القهقرى عند كل لمعة انبهار تلوح، ولو كان إيمانهم غير مدخول، لأيقنوا بالحق وإن خالفه كل الخلق: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} [الحجرات:15].
هوامش المقال
1-(درء تعارض العقل والنقل ج9: 21 _ 22) ط إدارة الثقافة والنشر بالجامعة تحقيق د. محمد رشاد سالم 1422 هـ - 1991م
2- البخاري ح 5708 ص 1041 – 1042 ط1 المكتبة العصرية 1423هـ - 2002م مراجعة محمد قطب و هشام البخاري
3- درء تعارض العقل والنقل ج9 ص22 ط إدارة الثقافة والنشر بالجامعة تحقيق د. محمد رشاد سالم 1422 هـ - 1991م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق