الإبداع عندما يكسر الأغلال..
كـــل زنــــزانة تثـــور فــــــــــتغـــــــــــدو
وطنــــا كي يـــــزورهــــــــــــــــا وطنـــي
ذنبه أنه شــــــــــــــريف عفيف
مخلـص للبـــــلاد بـــــر حفــــــــــــــــــــي
بهذا العَرض الأدبي، تسجِّل إحدى قصائد الأدب العربي الحديث لمحة من عالم ما خلف الزنازين، وهو الفضاء الذي كسرت أقفالَه الحديدية نصوص الأدب والإبداع التي شقت طريقها دائما من هناك عبر العصور، لتتواشج ملاحم الصمود ومعاناة واقع الأيام مع الملحمة الأدبية التي تغالب صعوبات الظرف وتصنع ملاذا للتحرر لا سلطة لقيود السجن عليه، وكما تمكّن أجنحة الروح من الاتصال بالعالم الخارجي في تلك السياقات المعتمة بين جدران الاحتجاز، يكون النشيد الوارد:
كيف ضاقت بنا الرحاب اللواتي
يسع الكون حضنها الأبوي
ويعود الدكتور الأديب الخليل النحوي -في رائعته هذه ليربت على كتف كل شهم مهموم يقبع خلف تلك المتاريس- ليقول باسم المَواطن في بعض لحظاتها:
البنون الأبرار إما سجين
أو طريد مشرد منفي
ولم يكن الافتتاح الذي مهد لتقرير هذه المعاني، إلا حلقة أخرى أفعمت روح السجين العربي منذ عهد السبعينيات، فحَنا عليه حنوّ المرضعات على الفطيم وهو يُنيله بعض اللوازم المتمثلة في جرعات من القوة النفسية التي يستحيل معها الموضع فضاء غير ذي وطأة على هذا النزيل. يقوم النص بذلك حين يحيل مكونات المكان إلى أشياء غير ذواتها لتتوفر بها طبيعة الحياة خارج تلك الأسوار:
نم على الأرض لا عليك ففي الصخر
سرير وفي الحصى كرسي
وتكتمل استقامة عمود الثقة النفسية لدى سجين الرأي والموقف وهو يزوده بهذا القول:
لا ترع فالجمود غش وغل
وخنوع الرجال مطلي ولَيّ
ولم تكن القصيدة العربية -وهي تفك أغلال السجون عن المساجين- لتكتفي فقط بشد الأزر وتسجيل التضامن وصياغة المعاني التي تعبر عنها قيم الصمود، بل كانت أكثر حرصا أيضا على أن يبقى هذا المُعَنَّى كما هو ثبات جأش وصلابة عود:
فاحتــــمل إنّ في الكــــــرامة ثوبــــــــــــــا
ســـــابغا … والإبـــــــاءُ نعــــــــــــم الحُلِى
وأعذب ما تبلغ الرقة والحنين من قلب امرئ لفضاء موطنه وهو يُسلب حرّية صِلته به، حين يقول:
أنــــا من هــــذه الربى وهْــــــــــــــي منـي
شمسها لي وليلهــــــــــــــــا القمـــــــــــري
لكن ابن النحوي يراوح مقامات الكتابة للسجين، مؤكدا للجميع بشأن ما واجهت به الأقبية رواد الفكر والهم النهضوي:
في سبيــــل العلى همــــوم الأســـــــــــاري
والإهانـــــــــــــــاتُ والسبـــــــــــاب البذي
وعلى امتداد هذه المرَصَّعة الأدبية، يرسخ الكاتب الدور الذي اضطلع به أدب السجون، هذا الأدب الذي لم يحرّر السجناء فقط بل طال همه التحريري مفهوم السجن الذي تحوّل في دلالاته إلى موئل المضحين وحاملي المشاعل والذائدين عن الذمار من الذين يتلاقون في خط منطقهم، مع الزبيري اليمني وهو يقول:
خرجنا من السجن شمّ الأنوف
كما تخرج الأسد من غابها
كان ذلكم بشأن النص العربي ونوافذه المفتوحة على القضايا، وهو ما يسمح -عند اكتمال هذا الحيز التعليقي على بعض القصيدةـ بشِق آخر يتعلق بالحديث عما بين زمنين للقصيدة العربية، إذ أن الحياة قد ضخت -في ظل الدولة الحديثة- روحا جديدة في محتوى القصيدة، وأفعمتها في موريتانيا -كما في الدول الأخرىـ بما تتقلب به الليالي والأيام من صروف وأنماط لم يكن بعضها من ملامح الهم الأدبي العام في بعض البيئات في عهدها الأول، عندما كانت راتبةَ المنوال أحيانا والشاعرُ مستقرُ الحال لم يكن في سياق معتركات الشأن العام نتيجة لما كان يتسم به نمط الحياة الجمعية من الهدوء على مستوى ما يتصل بالمعايشات الثقافية والأدبية والعلمية؛ وبالرغم من كون هذه هي الملهبات متى كانت خطوط الواقع العام على تماس وسخونة تلقي بشررها السياسي والمجتمعي الذي يسلك الجميع في لازم التفاعل وواجب المشاركة، إلا أنها في موريتانيا كانت نشاطا مستقلا، لا تكاد خيوطها في التداعيات اليومية في الغالب تلتقي مع الخطوط الأخرى، سجالا ومماحكة، فضلا عن غياب البنية التي يلتئم ضمنها الجميع في نظام موحد تحت سلطة وبما يوفر أرضية لخلق عوامل مختلفة يكون من ضمن ما تسهم فيه مثل أدب البراء أو الولاء والكتابة بشأن يوميات قضايا الشأن العامة ومستجداتها التي كان قطارها شبه متوقف، لصالح سريان قطار الثقافة والمعرفة الذي كان يدور جيئة وذهابا بمحطاته اليومية في تلك الصحراء بكل عنفوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق