الحكاء (26) | سرّ الأربعين عاما
أسعد طه
(1)
حين طلبتَ مني أن أحكي لك حكايتي لم أكن أعلم ماذا يمكن أن أقول، وماذا يمكن أن أخفي، هل أبوح بكل شيء، وأي وقت يكفي لأن أسرد لك كل التفاصيل، تلك الانتصارات والانكسارات، تلك الأمور الصغيرة التي تمرون أنتم بها مرور الكرام، في وقت نحن فيه أسراها، تلك الليالي الطويلة التي تمر وقد أفلح النوم في الهرب، وحده من هزم السجَّان، لذا قررتُ ألا أفكر كثيرًا، وأن أحكي.
(2)
يا لها من أيام، كان ذلك عام 1978 وأنا ما زلت مراهقًا بشَعري الطويل في عمر التاسعة عشرة، أشارك في هجمات على جيش الاحتلال الإسرائيلي، يُلقى القبض عليّ، وتصدر الأحكام في حقّي.
أصعب ما في السجن أيامه الأولى، تعيد التفكير في كل ما فعلت، وفيما جرى، ثم تصل إلى قناعة بأنّ الإنسان إنّما يعلو بعلوِّ أهدافه، وبقدرته على هزيمة العوائق، حتى وإن كانت سجنًا منيعًا، لذا قررتُ ألا أمضي أيامي عبثًا في انتظار الإفراج عنّي، ورحتُ أعمل على تطوير نفسي، طلبت من الله العونَ وأدمنتُ القراءة.
قرأت في كل المجالات السياسية والتاريخية والفلسفية والدينية، قرأت عن كل حركات التحرر في العالم، وعن التاريخ المعاصر وتجارب الشعوب، وساعدني ذلك كثيرًا على الثبات.
استثمرت حُبّي للتاريخ ودراستي له في مساعدة الأسرى الذين يدرسون بالجامعة، فكنت أراجع معهم الدروس، ولاحقًا وبعد أن سمحت لنا إدارة السجن بامتلاك راديو صغير إثر إضراب لنا، بت أمضي بعض الوقت برفقة الراديو متابعًا ومنصتًا لما يحدث على الساحتين المحلية والعالمية، بحسَب ما يصلني من محطات أستطيع التقاط بثّها.
(3)
مررت بتحولات كثيرة، لكن في الثلاثينيات من عمري بدأتْ حياتي داخل السجن تأخذ مسارها الروتيني، كنت أبدأ يومي بقيام الليل وقراءة القرآن بانتظار صلاة الفجر، ثم أنام لبرهة قصيرة حتى يحين الوقت الذي خصَّصته إدارة السجن للتريض، بعدها أعود إلى زنزانتي لأقضي وقتي بين القراءة وبين الحديث مع زميلي في الزنزانة.
كثيرًا ما كنت أمسك بالألبوم العائلي لأطالع الصور وأستعيد الذكريات، وأحيانًا أكتب بعض الخواطر التي ترد على ذهني، وعندما أخرج لساحة السجن مرّة أخرى ألتقي الأسرى الآخرين، وكما تعلم فإنه لا يلتقى فلسطينيان إلا والسياسة ثالثهما، وأحيانا ندخل في حوارات حول مشاكلنا المجتمعية، وبعدما أصبحت أقدمهم في الأسر باتوا يستشيرونني في مشاكلهم الخاصّة.
استثمرت حُبّي للتاريخ ودراستي له في مساعدة الأسرى الذين يدرسون بالجامعة، فكنت أراجع معهم الدروس، ولاحقًا وبعد أن سمحت لنا إدارة السجن بامتلاك راديو صغير إثر إضراب لنا، بت أمضي بعض الوقت برفقة الراديو متابعًا ومنصتًا لما يحدث على الساحتين المحلية والعالمية، بحسَب ما يصلني من محطات أستطيع التقاط بثّها.
أما يوم الزيارة فهو للأسير كيوم عيد، أستعدُّ قبله بيوم بالحلاقة والاستحمام، وارتداء أجمل ما لدي، يُجافيني النوم قبلها، وأظل أخترع سيناريوهات للقاء وللأحاديث.
تمر الـ45 دقيقة -وهي المخصصة للزيارة- سريعًا، لحظات جميلة رغم أنها تتم عبر زجاج عازل للصوت، ثم أعود لأعيش بانتظار الزيارة التالية.
يُتوفى والداي، وتكبر شقيقتي الوحيدة، ويتغير من أمر الوطن ما يتغير، أتألم أنني لا أستطيع تقديم المزيد، وأفهم أن كل ما عليَّ هو أن أجترَّ الألم ولا أظهر على وجهي دلائل الخوف أو الهزيمة أو الاضطراب أو النكوص.
(4)
تمر 33 عامًا، نعم ما من خطأ مطبعي، 33 عامًا من الأسر، يحل عام 2011، تقع المفاجأة ويُطلق سراحي في إطار صفقة لتبادل الأسرى مع حماس، والمعروفة باسم "وفاء الأحرار"، والتي كان الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط ضمنها.
لا يمكن وصف شعوري وقد عدتُ إلى الحرية وإلى الحياة من جديد، وكيف وجدت شقيقتي الصغيرة وقد كَبِرت حتى باتت جدَّة، وكيف أصبح أهلي وأصدقائي بعد غياب هذه السنوات الطويلة.
كان عليَّ أن استوعب تغيرات الزمن، وحاولت التأقلم مع الواقع، أن أفرح لكل ما هو إيجابي، ولا أترك أي فرصة لأي سلبية أن تؤثر في نفسي، واندمجت في الحياة بقوة، فالتحقت بدراسة التاريخ في الجامعة المفتوحة بالقدس، وشاركت في العديد من الندوات والصحافة المحلية.
دبت فيَّ الروح من جديد وأنا أواصل العطاء، وقد رأيت أن من واجبي العمل على نقل تجاربنا إلى أبناء الجيل الجديد حتى لا يكرروا أخطاءنا، وفي غضون ذلك رحت أرتّب حياتي الخاصة، وقررت الزواج ممن أحببتها ودق قلبي لها حين شاهدتها أوّل مرة على شاشة التلفاز عام 1987، وهذه حكاية أخرى.
(5)
تولد برام الله عام 1970، ويتفتح وعيها على مشاركة أخيها في المظاهرات المناوئة للاحتلال، يتملَّكها الأمر تمامًا، وتُقَرِّر أن تحذو حذوه، وأن تقود المظاهرات بالمدرسة وهي ما زالت التلميذة المتفوِّقة في الصف الثالث الإعدادي.
حين اقتحم الجيش الإسرائيلي مدرستها للمرة الأولى، أخذتْ تُلقي عليهم الحجارة، أنقذتها زميلتها من رصاصة مؤكّدة حين أبعدتها في الوقت المناسب، وفي مدرسة رام الله الثانوية واصلت نضالها حتى اعتُقِلَت وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها.
بعد إطلاق سراحها تكمل دراستها، ولاحقًا يتم تدريبها للقيام بعمل عسكري في شارع يافا بالقدس، لكن تُعْتَقل قبل تنفيذ العمل يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، ويحكم عليها بالسجن 3 سنوات ونصف السنة.
تُنقل إلى سجن الرملة حيث سبقتها مناضلات أخريات، غرف صغيرة حارَّة ومزدحمة بالأسيرات، وتجوب فيها الصراصير ليلًا، مشادات لا تنتهي بين الأسيرات والسجانات تنتهي إحداها باتهامها وزميلة لها بمحاولة خنق سجَّانة لتأخذ حكما جديدًا بالسجن 10 أعوام ويصبح مجموع أعوام سجنها 15 عامًا ونصف العام.
خلال تلك الفترة قامت الانتفاضة الفلسطينية وشعرت الأسيرات بالفرح أن الشعب الفلسطيني يقاوم، لكنه فرح مختلط بالحسرة؛ لأنهن لا يستطعن المشاركة.
وتستمر الحال حتى كان قرار إطلاق سراح الأسيرات جزءًا من اتفاقية أوسلو، بعد 8 أعوام ونصف العام من سجنها، لكن القرار استثنى 5 أسيرات، فرفضت هي وبقية الأسيرات الخروج إلا ومعهن الخمسة الأخريات، لتستمر في السجن عامًا آخر حتى يُستجاب لمطلبهن ويطلق سراح الجميع في فبراير/شباط 1997.
أثناء وجودها في الأسر ظهرت على التلفزيون الإسرائيلي للحديث عن العمل الذي كانت ستنفذه، أرادت قوات الاحتلال أن تستعرض انتصارها باعتقال فتاة كانت ستفذ عملا عسكريّا ضدهم، عرفتُ أنّ اسمها إيمان نافع، شاهدتُها لدقائق معدودة، لكنها كانت كافية لأقرِّر أن "هاي البنت راح تكون إِلِي".
بعد إطلاق سراحها أرسلتُ أهلي لطلب يدها، ولأنها لم تكن تعرف عني شيئًا رفضت الأمر، مضت الأيام وتزوجت من شخص آخر ثم انفصلت عنه، فعُدْت لطلب يدها مرة أخرى، هذه المرة سألتْ عني وعرفت أكثر، وقرَّرت الموافقة مبدئيًّا، مع تأجيل الارتباط الرسمي حتى أخرج من الأسر ونلتقي وجهًا لوجه، وهذا ما حدث تمامًا بعد أن أُفْرِج عني إلا أنه وقع ما لم يكن في الحسبان.
(6)
في ليلة 17 يونيو/حَزِيران 2014 فوجئت بقرار من سلطات الاحتلال باعتقالي مجددًا، والتهمة إلقاء محاضرة في إحدى الجامعات عن تجربتي في السجن، وإشارة وسائل الإعلام الفلسطينية إلى أنني مرشح لمنصب وزير شؤون الأسرى في السلطة الفلسطينية.
ورغم أن المحكمة العسكرية في سجن عوفر خلصت بعد حوالي عام، وأنا في السجن، إلى أنني لم أرتكب أي جريمة منذ إطلاق سراحي، فإنها تراجعت لاحقًا عن قرارها، وأُرْسِلْتُ لأقضي بقية عقوبتي الأصلية المؤبد بالإضافة إلى 18 عامًا.
(7)
اليوم أعيش عامي الواحد والأربعين من الاعتقال عقوبة على رغبتي في الحرية وفي الحياة، لا تقلقوا بشأني، فقد وطدت نفسي منذ صغري على ألا أرفع الراية البيضاء، مدركًا أن السرّ ليس في أن تقرر مرة أن تناضل، ولكن في ألا تتوقف أبدًا عن النضال، هو ألا تستكين أبدًا، وكل ما أطلبه منكم أن تحكوا حكاياتنا لصغاركم، قولوا لهم: إن نائل البرغوثي ورفاقه يسألونكم عند النصر أن تذكروهم بخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق