الحكَّاء (25) | المتمرد.. الذي لم يتغير أبدا
أسعد طه
(1)
أسأل نفسي دومًا عن السر..
لماذا يقبل الجميع بالأمر، وتشعر أن الكل مَوات، ثم فجأة يولد طفل صغير فيُقرر أن يغير العالم، هل هو اختيار ربَّاني، أم إرادة شخصية؟ يصحو المرء فيُقَرِّر أن يكون شجاعًا قويًّا جريئًا، عالمًا متواضعًا فارسًا، بينما جيرانه وأقرانه غير ذلك، هل الأمر هكذا ببساطة، أم ثمَّة سر لا نعرفه؟
(2)
في قرية ألدي الشيشانية وفي العام 1760، يولد الابن الرابع لعائلة فقيرة، يطلق عليه والده اسم "أوشرما"، يَكْبَر الصغير في وقت حروب واضطرابات تشهدها منطقة القوقاز، حتى بات التقليد الشائع بين الناس هو تدريب شبابهم على فنون القتال.
عظيم ومهيب ونبيل وجاد، صاحب إرادة قوية، يلفت نظر الجميع بشجاعته وجرأته، لا يرتدي سوى اللباس الوطني، لا ينام إلا وهو مُسَلَّح بالكامل، يستخدم مِعْطفه كغطاء، وسَرْجه كوسادة، يسألونه فيجيب "دائمًا يجب أن يكون الشيشاني مستعدًّا لأي احتمال، ولا يعتاد الراحة".
يمضي أيامه على ظهور الخيل، ويُعَلِّم نفسه كيفية إطلاق النار والقتال بالسيوف، يلقي الحجارة الثقيلة ويقفز فوق الخنادق العميقة حتى تشتد قوته، يختبر مهارته في المبارزة على الأغنام، ولَكَم اضطرَّ والده أن يدفع ثمن تلك التي قطعتها سيوفه إلى نصفين.
في سنِّ الـ20 يترك عائلته ليكمل دراسته في داغستان، وهي المعروفة كمركز للدراسات الإسلامية، ليصبح بعد عامين "مُلَّا"، ويعود إلى قريته ويتزوج.
لم يكن في القرية سوى 50 بيتًا، لكن الجميع يقرر المقاومة حتى النساء، يدمر الجيش الروسي القرية بكاملها، ويقتل شقيق الإمام، ورغم ذلك تتمكَّن القوات الشيشانية من شنِّ هجوم معاكس يقتل فيه العقيد بيري نفسه وهو يحاول الهرب.
يخطب في المساجد المحلية، ويُلزم نفسه بقواعد أخلاقية صارمة ونمط حياة بسيط، كل ثروته حصانان وثوران وكوخ بسيط، ينتشر صيته، ويتعلق به الناس، ويتوافدون من القرى المجاورة يحملون له الهدايا من مال وأغنام وبيض وثيران وخيول وخبز وفواكه، يشكرهم جميعًا، ويُوَزِّع هداياهم على الفقراء، ويبقى محتفظًا بحياته المُتقشِّفة، وتزداد سمعته بهاء، ويُسَمَّى بمنصور، الإمام منصور.
(3)
يبدو أن ذلك كله ليس إلا تهيئة لدور ليس لسواه القيام به، فنحن الآن في أواخر القرن الـ18، حيث كاترينا الثانية تسعى لأن تُوسِّع إمبراطوريتها الروسية في القوقاز، مطمئنَّة إلى ضعف المقاومة التي يقوم بها بعض السُّكَّان هنا أو هناك، كشراذم مُتَفَرِّقة، إلى أن وقع ما لم يكن في حسبانها.
ففي أوائل عام 1785 تتوجه مجموعة من أهل الشيشان الفارين من الغزو الروسي إلى الإمام منصور، يشكون إليه الحال، ويبايعونه إمامًا لهم.
يتحمَّس صاحبنا للفكرة، يعتقد أنَّ الدين هو العامل الوحيد القادر على جمع شعوب المنطقة التي تنتمي لقوميات متعددة، وأنَّ الحرية ومقاومة المحتل يستحقان كل تضحية.
ينتبه الروس للأمر، ويقررون شنَّ عملية كبرى ضد بوادر المقاومة والتمرد التي يتزعمها الإمام منصور، وبالفعل، وفي الثامن من يونيو/حزيران من العام نفسه يصل الجيش الروسي تحت قيادة العقيد بيري إلى الشيشان، وتحاصر قواته التي يبلغ قوامها حوالي 7 آلاف جندي قرية الإمام المتمرد.
لم يكن في القرية سوى 50 بيتًا، لكن الجميع يقرر المقاومة حتى النساء، يدمر الجيش الروسي القرية بكاملها، ويقتل شقيق الإمام، ورغم ذلك تتمكَّن القوات الشيشانية من شنِّ هجوم معاكس يقتل فيه العقيد بيري نفسه وهو يحاول الهرب.
العملية مذهلة، فالهجوم المعاكس ينجح في الإيقاع بالقوة الروسية كلها، لا ينجو منها سوى 200 جندي، يتم أسرهم والاستيلاء على معداتهم، وإثر ذلك انسحبت بقية الوحدات الروسية وتراجعت إلى المناطق الأكثر تحصينًا، وكانت هذه أول معركة وأول انتصار حقيقي للإمام منصور.
(4)
تتوالى نجاحاته، في الغابات وفي الجبال، يتبادل الناس الحكايات عنه، يكسب أنصارًا جددًا، يدخل المعركة تلو المعركة، ويحقق الانتصار تلو الانتصار، يضيق الروس بالأمر، يعتقدون أنه يجب إنهاء أمره مهما كلفهم ذلك، وإلا امتدت الثورة إلى المنطقة كلها.
في 30 أكتوبر/تشرين الأول يتحرك القائد العام الروسي في القوقاز، بافل بوتيمكين إلى قبرديا مع 6 آلاف جندي، تشتبك معهم قوات الإمام عبر نهر مالكا، يفقد الإمام العديد من رجاله نتيجة القصف المدفعي الشديد، فيقرر الانسحاب.
بعد هزيمة منصور، يعتقد الجيش الروسي أنه يستطيع القضاء عليه بالكامل، فيتم تشكيل وحدة خاصة لذلك الغرض، وتلتقي القوتان مرة أخرى قرب نهر مالكا، تقع خسائر جسيمة لدى الطرفين، ويقرران في الوقت نفسه الانسحاب.
يلجأ منصور وقواته إلى قلعة أنابا التي كانت تحت قيادة الدولة العثمانية، كانت الهزيمة ثقيلة على نفسه، خصوصًا بعد أن تخلَّى عنه العديد من أنصاره، طالبين العفو من روسيا، ويزداد الأمر سوءًا بالقبض على "دول موداروف" باشا قبارديا الصغيرة والمؤيِّد المخلص للإمام منصور.
غير أن الرجل لم يتوقف، رغم أنه لم يصمد معه سوى 600 رجل، وفي أبريل/نيسان 1786 يُنَظِّم مؤتمر شعوب شمال القوقاز، في تحوُّل نحو مرحلة غلبت عليها السياسة أكثر.
يزداد غضب الروس لنجاح المؤتمر، ويشنون حملة لتشويه سمعة الإمام في نظر السكَّان المحليِّين، وعندما يحين يوليو/تموز لعام 1786، يُصدر الروس في خطوة ذكية أمرًا بإطلاق سراح "دول مودروف" بشرط أن يتخلَّى عن المقاومة إلى الأبد وأن يقطع علاقته مع منصور، وبهذه الخطوة يتمكنون من السيطرة على قبارديا، ومن ثَمَّ إطلاق كل قواتهم لإعادة غزو الشيشان.
كان الروس يدمرون كل شيء أمامهم، ويضطهدون السكان في حملة شرسة، تضطر بعض شعوب المنطقة إلى التخلِّي عن المقاومة والتعاون مع الروس.
يطلب الإمام منصور العون من السلطان العثماني الذي يرفض بدوره مساعدته، وفي 17 يناير/كانون الثاني 1787، وفي حملة جديدة تقتحم قوات روسية هائلة الشيشان، لكن رجال الإمام منصور يهاجمون الجنود الروس عند مرتفعات كاتشكاليكوف، تقع خسائر فادحة في صفوف الروس.
غير أنَّ القوات الروسية تستمر في الهجوم على المدن والقرى بضراوة، حرقًا وقتلًا، وعندما يحين 13 أغسطس/آب 1787، يقع تحول جديد أثَّر في مسار الصراع بين الإمام منصور والروس، حيث أعلنت الإمبراطورية العثمانية الحرب على الإمبراطورية الروسية.
ترسل إسطنبول أوامر إمبراطورية وهدايا باهظة الثمن إلى قبائل القوقاز من أجل حشدهم وتدريبهم على القتال إلى جانبها، ويرسل السلطان العثماني عبد الحميد الأول للإمام منصور ساعة ومنظارًا ويعترف به قائدا للجبليين القوقازيين.
استمرت المعارك بين الطرفين هنا وهناك، يتبادلان الانتصارات والهزائم إلى أن ينجح الروس في 5 يوليو/تموز 1791 في الاستيلاء على قلعة أنابا التي يتحصن بها الإمام منصور، ويقع الإمام أسيرًا بين أيديهم.
(5)
يطلب ممثل الدولة العثمانيَّة رسميًّا من روسيا تسليم الإمام منصور، لكنهم يرفضون الطلب باعتبار أنه كان شيشانيًّا وليس عثمانيًّا، فضلًا عن أنه المسؤول الأول عن التمرد ضد روسيا، وحكم عليه السجن مدى الحياة.
ولأن الإمام منصور ناريُّ الطبع ومحبٌّ للحرية بطبيعته، لم يستطع قبول فكرة السجن، وفي لحظة غضب يقتل حارسه، فيتم ترحيله إلى قلعة شليسلبورغ، التي يصلها في التاسعة مساء 17 أغسطس/آب 1791 ليبقى بها حتى وفاته في 13 أبريل/نيسان عام 1794.
تقول بعض المصادر إنه توفي نتيجة الضرب المستمر بالسلاسل والتعذيب الذي تعرض له على أيدي الروس، في 14 أبريل/نيسان ينقل الجنود الروس جثته من القلعة إلى جبل بريوبرازينسكايا، حيث يدفن هناك.
لم تُنه وفاة منصور صراع الشيشان ضد روسيا، بالعكس تمامًا، فمنذ بداية القتال في عام 1785 حتى القبض عليه في عام 1791، فإن نضال الإمام سبب خسائر شديدة في القوات الروسية، لكن تأثيره كان أبعد بكثير من هذه النتيجة.
حيث تستمر أفكاره على مدى عقود، ويتبادل الناس حكايات بطولته وشجاعته، والأهم من ذلك قصة ثباته، فلم يتغير إيمانه بقضيته في كل حالات الانتصارات والهزيمة، وعندما أقبل الناس عليه، وعندما تخلَّوْا عنه، ظل ثابتًا على مبادئه حتى الممات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق