إعجاز البينة القرآنية بين العبادة والاستعانة
أ. د. عبدالسلام المجيدي
يبهرك القرآن بلفظه وتركيبه وأسراره وإعجازه، وهذا ما يثمر قطوفا لا نظير لها وأسرارا تهفو النفوس إلى معرفتها، فمثلا تعال بنا إلى التساؤل عن هذا الترتيب المحكم لهاتين الجملتين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} والعطف بينهما بحرف المشاركة (الواو) دون حرف الترتيب (الفاء)، فلماذا كان ذلك؟ إنه القرآن يسبق تفكيرنا، ويبني عقولنا.. ويبين لك العلاقة بين العبادة والاستعانة:
إن هذا الترتيب يُزَكِّي النفسَ المسلمة، ويبني حس الأوليات والأولويات عند الحكام والمحكومين، وصناع القرار وعامة المسلمين: فالعبادة أساس الاستعانة وهدفها؛ فكونها أساس الاستعانة تكون سابقة، وكونها هدفاً تكون لاحقة، والاستعانة ثمرة العبادة ووسيلتها؛ وكونها ثمرةً تكون لاحقة، وكونها وسيلة تكون سابقة، فقد اشترك كلٌّ منهما في أن يكون سابقا لاحقًا، إلا أنه قدم العبادة على لسان العبد ليبين هذا العبد المخبت أن هدفه حقٌّ وصدقٌ خالص، فحقُّ له عندما يطلب العون أن يعان ، وجمع الله بين العبادة والاستعانة بحرف الواو ليجمع بين ما يجب له، وما يطلبونه منه، فذكر الله تعالى الغاية والهدف أولًا وهو العبادة التي هي الغاية والمقصود، وبها مراقي الطمأنينة والصعود، والسعود، ثم ذكر الوسيلة لإقامة العبادة، وهي الاستعانة بالله الذي يعينك بالأدوات الحسية، والهداية القلبية.
وقد يقال: إن الاستعانة عبادة في ذاتها فكيف تعيننا على إقامة العبادة؟ والجواب: نعم! الاستعانة من جهةٍ عبادةٌ جزئيةٌ، ولكنها من جهةٍ أخرى تعين على بقية أنواع العبادات، فقدَّم الله العامَّ ثم ذكر الخاصَّ؛ لأهميته في القيام بالعام، فلا بد للعابد من الاستعانة الكلية، ولا بد للمستعين من تقديم العبادة الجزئية لتكون منطلقه لسائر أنواع العبادة، فباستعانته يجد أحسن الوفادة، فهي مفتاح الفضائل والرقي في بلوغ الكمال، وبها يَظْهَرُ الخضوعُ والتواضعُ من الإنسان، كما يَظْهَر بها الاستغناء عن الأمثال؛ إذ مُعينُه في كل حياته هو الله الكبير المتعال، وبالاستعانة يأخذ الإنسان أعظم الطاقة والاستعداد، ويتزود بأقوى زاد، فهي أداةٌ لتحقيق بقية الأنواع العبادية كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ومساعدة المحتاجين، وتنمية المجتمعات بما يؤدي إلى سعادة العالمين.
إن الذي لا يملك شيئًا إذا مدَّ يد الاستعانة إلى الله الذي بيده كل شيء ينصره -تعالى- إذا كان المستعين به مخذولًا، ويواسيه -عزَّ جاره- إذا كان المستعين به مكروبًا، ويقضي حاجته إذا كان المستعين به مسكينًا، ويحقق آماله، وينيله بغيته. يصدر ممن يملك كلَّ شيءٍ لفتة رحمةٍ تنزل من عَظَمته إلى الذين لا يملكون من قطمير، فتسمو بهم من الحضيض إلى الدرجات العلى، فقل لي: هل هذه اللفتة يمكن أن تكون -بشكل أو بآخر- أمرًا تتلعثم الفطرة الإنسانية في قبوله والاعتراف به؟!
ولكن المستعين طالبُ حاجةٍ، فلا بد أن يُقَدِّم بين يدي طلبه شيئًا يجعل حاجتَه تُقضى، وأدعيتَه تُستجاب، فقدَّم ما يدلُّ على صحة مقصوده من ذكره للعبادة ليُحَقِّقَ له العلي الأعلى العونَ؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((قال الله تعالى: وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مِمَّا افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتَّى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الَّذِي يسمع به، وبصره الَّذي يبصر به، ويده الَّتي يبطش بها، ورجله الَّتي يمشي بها، وإن سألنِي لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعِيذَنَّه))، فمن تقرَّب إلى الله بالعبادة تمت إعانة الله له، ومثل ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] أي: استعينوا على قضاء حوائجكم بعبادتين: الأولى قلبية عقلية وهي: الصبر، والثانية عملية وهي: الصلاة، وهما جماع العبادة، فكأن العبد الذي شرع في العبادة يقول: يا رب شرعت في العبادة فأستعين بك في إتمامها، وأتيت بنفسي إلَّا أنَّ لي قلبًا يفرُّ منِّي، فأستعين بك في تثبيته على طاعتك، ومن الاستعانة العظيمة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أَرْشَدِ أمري)).
ولذا قيل: كأن العبد يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنك الصانع، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأن المصنوع لا غنى له عن الصانع، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنّا عبيد، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأنك كريم مجيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنك المعبود بالحقيقة، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأننا العباد بالوثيقة. كما أننا نجد الترتيب بين العبادة والاستعانة جاء على ترتيب ظهور أسمائه في الفاتحة، فعِبَادَةُ اللهِ -تعالى ذكرُهُ- هي غاية الشُّكر له في القيام بما يَجبُ لأُلوهِيَّتِه من حيث إنه (الله)، واستعانته هي غاية الشُّكر له في القيام بما يجب لربوبيَّته من حيث إنه (رب العالمين)
الآن تعال إلى لمحة من التربية النبوية لعظماء الأمة وروادها وقادتها على مبدأ الاستعانة، فابن عباس -رضي الله عنهما- يفصل له النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنوار الاستعانة، فيقول: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)).
إن هذه التربية الإلهية للعباد بالاستعانة بالله تكررت في الكتب السماوية فقد جاء في المزامير (54: 23): “أَلْقِ على الرب هَمَّك وهو يعولك”، وقال (126: 1): “وإن لم يبن الرب فباطلًا يتعب البناؤون” وقرر ذلك أرباب المراقبة فقالوا:
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى
فأول ما يجني عليه اجتهاده
وقالوا:
إِذا لم يكن عونٌ من الله للفتى أَتَتهُ الرَّزَايا من طريق الفوائدِ
أما عند المسارعة إلى اقتباس العون من معينه العذب فقالوا:
إذا صحَّ عونُ الخالقِ المرْءَ لم يجدْ
عسيرًا من الآمالِ إلَّا مُيسَّرَا
فكل جملة من الجملتين في مكانها المعجز، وترتيبها التربوي الرائع المجيد.
بقي أمرٌ أخيرٌ في هذه الآية المباركة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]-وأنوارها لا تنقضي-: لماذا كان الكلام عن العبادة والاستعانة على سبيل الإخبار؟ فالله سبحانه لم يقل: (اعبدوا الله)، ولم يقل (باللهَ استعينوا) مثلًا وإنما قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]،
والجواب على ذلك: لأن الله أراد أن يبين أن العقلاء ما إن سمعوا تمجيد رب الأرض والسماء، وظهر لهم توحيده، واستبانت لهم صفاته ورحمته وملكه ليوم الدين حتى أذعنوا واستسلموا وقالوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]فصارت العبادة واقعهم الحياتي، وصارت الاستعانة مسألةً خبريةً وصفيةً لأفعالهم وأقوالهم. وهنا تتعجب كيف ألجأهم إلى أن يلتزموا ذلك حتى جعل الكلام على ألسنتهم، وليس أوامر صادرة منه سبحانه، وهنا تعجب كيف تأخذ سورة الفاتحة بيد العبد النافر عن الله ليردد -ولو على سبيل القراءة المحضة-: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق