معركة أبلستين : بستان الدم
شريف عبدالعزيز
’’رأى بيبرس أن بقاءه في عاصمة الروم السلاجقة ربما يكون خطرا عليه وعلى البلاد الشامية لتوقع عودة المغول من العراق انتقاما لهزيمتهم المدوية في صحراء البستان في قلب الأناضول، فضلا عن الإنهاك الشديد وقلة’’
عندما تجول بناظريك في تاريخ هذه الأمة المجيدة، وتقلّب صفحات سجلات أحداثها ووقائعها المصيرية، سيسترعي انتباهك سريعاً تلكم التحولات الكبرى التي مرت بها الأمة، وتغير موقعها الحضاري والأممي بين الدول والممالك التاريخية؛ فتارة تَقود وتارة تُقاد، وتارة تَحكم وتارة تُحكم، وتارة تنتصر وتارة تنكسر، وربما وقعت هذه التحولات الكبيرة خلال عقد واحد من الزمان!!
والسر وراء ذلك يرجع لوجود العديد من الظواهر التي كانت بمثابة العلامات الفارقة التي حددت مسار هذه الأمة وأثرت على موقعها بين الأمم والحضارات، وكان لها دور هام في حركة تلك التحولات الكبرى، ومن أهم هذه العلامات والظواهر؛ الخيانة.
فالخيانة كانت القاسم المشترك الأهم والأبرز في كثير من هزائم الأمة وتراجعها وانكسارها وتخلفها الحضاري والسياسي.
بل لا نكون مبالغين إذا قلنا: فصل الخيانة هو الفصل الأكبر والأبرز في تاريخ هذه الأمة. وذلك من كثرة ما تعرضت له الأمة من غدرات وخيانات من بعض أبنائها والمنتسبين إليها والذين أعمتهم زخارف الدنيا وزينتها ومغانمها ورضوا بها واطمئنوا إليها على حساب أمتهم ودينهم.
وهذه قصة من قصص الخيانة وكيف كانت نهايتها تليق بأصحابها بعد أن قيض الله-عز وجل-للخونة أسداً أجهض طموحاتهم وعدا على حياضهم فهدمها على رؤوسهم وتركهم صرعى خيانتهم بأرض المعركة.
العالم الإسلامي بين الصليبيين والتتار
تعرضت الأمة الإسلامية في القرون الوسطى وتحديداً مع نهاية القرن الخامس الهجري-الحادي عشر ميلادي لسلسلة متتالية من العدوان الخارجي الوحشي من كل اتجاه، براً وبحراً، شمالاً وشرقاً، من أهل كتاب ووثنيين، من أوروبيين وأسيويين، من حمر وصفر، واستمرت لعدة قرون!!
فقد تعاقبت أكثر من سبع حملات صليبية عنيفة على العالم الإسلامي استهدفت خيراتها ومقدساتها، ثم اكتملت الرزية بهجوم بربري وحشي من التتار الذين خرجوا على المعمورة -وليس العالم الإسلامي فحسب- من أقصى الشرق مثل الجراد المنتشر الذي يأكل الأخضر واليابس، وكان من قدر الأمة الإسلامية أنها تتولى مهمة مواجهة هذا العدوان المشترك من أشرس وأكفر أهل الأرض فأبلت بلاءً حسناً، وكتبت صحائف من ضياء، وحقق أبطال الإسلام من الأتابكة الزنكيين ثم الأيوبيين ثم المماليك انتصارات هائلة وبالغة الروعة على الصليبيين والتتار حتى نالوا الشرف واعتدل ميزان القوة لصالح المسلمين بعد سنوات طوال عجاف من الذل والانكسار.
العالم الإسلامي والسلطان الظاهر بيبرس
حدثت تحولات كبرى خلال سنوات قليلة ابتداء من سنة 647ه وهي السنة التي شهدت رحيل آخر عظماء الدولة الأيوبية؛ السلطان نجم الدين أيوب، بعدها وقع اضطراب في حبل الدولة الإسلامية وتنازع على السلطة أدى لمقتل العديد من السلاطين والأمراء وحتى النساء -شجرة الدر- ثم استقر الأمر في نهاية الأمر للسلطان بيبرس البند قداري وذلك بعد الانتصار العالمي على التتار في عين جالوت سنة 658ه.
سلطنة الظاهر بيبرس رغم بدايتها الدموية إلا إنها كانت فاتحة خير عظيم على العالم الإسلامي، إذ كان الظاهر بيبرس رجل دولة من الطراز الأول وقائداً عسكرياً من طراز فريد، محنكاً سياسياً وعسكرياً لأقصى درجة، عركته الخطوب وأنضجته السنون وقلّبته الأحداث حتى صار ذا بصيرة وعلم وخبرة لا تقدر بثمن، فأدرك حقيقة دوره التاريخي المنوط به وبدولته التي اعتلى عرشها في مواجهة الخطر المزدوج والذي من المتوقع أن يتحالفا ضد العالم الإسلامي.
بيبرس كان يعلم جيداً أن العدو التتري وإن كان صاخباً شنيعاً في تحركاته وحشياً في هجماته، إلا إنه أضعف أثراً وأقل خطراً من العدو الصليبي، لذلك وجّه بيبرس كل جهوده منذ بداية ولايته على مواجهة بقايا الوجود الصليبي في بلاد الشام، ومن أجل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الهام عمل على تقوية الجيش وبناء أسطول جديد وتحصين الثغور وتنظيم الاستخبارات ونقل المعلومات، ودخل في معاهدات صداقة مع الدولة البيزنطية والتي كانت تعادي الصليبيين في الشام بسبب ما وقع في الحملة الصليبية الرابعة من احتلال للقسطنطينية سنة 600 ه، وذلك لقطع الطريق على أي مساعدات أو إمدادات تأتي من البيزنطيين إلى الصليبيين بالشام.
ظل بيبرس في حرب مستمرة وضروس ضد الصليبيين ابتداءً من سنة 663ه حتى سنة 571ه استطاع خلالها تحقيق انتصارات هامة وطهر معظم قلاع السواحل الشامية من نجس الصليبيين ثم توج انتصاراته بتحرير أنطاكية، بعدها قرر الالتفات والتفرغ لمواجهة الخطر التتري.
التتار بعد هزيمة عين جالوت
رغم روعة الانتصار في عين جالوت وما حققه من نتائج هامة، إلا إن أهم هذه النتائج كان معنوياً؛ بتحطم أسطورة الجيش الذي لا يقُهر؛ فالانتصار أدى لتراجع المد التتري في مصر الشام ولكنه لم ينهي الوجود التتري في بلاد العراق وفارس، واحتفظ التتار بدولتهم التي أقاموها في العراق وفارس والتي عُرفت بالدولة الإيلخانية، تحت قيادة هولاكو حفيد جنكيز خان وراضع لبان الدموية والوحشية منه، وهي الدولة التي سيكون بينها وبين العالم الإسلامي فصول ووقائع مدوية لفترة طويلة الزمان.
في سنة 663ه هلك طاغية التتار؛ هولاكو -لعنه الله- بعد سلسلة من الجرائم الوحشية والدموية بحق المسلمين وجلس مكانه ابنه " أباقا " الذي كان لا يقل عن أبيه وحشية ودموية وحقداً على المسلمين والعالم الإسلامي، وكانت زوجته مثل زوجة أمه نصرانية أوروبية تحرضه على العالم الإسلامي، فشرع منذ أيام ولايته الأولى في عقد تحالف مع الصليبيين، فأرسل سفراء إلى بابا روما "كليمنت الرابع" وإلى جميس الأول ملك أراجون الإسبانية وإلى مجمع ليون الكنسي، يستنفر فيها الجميع لمحاربة المسلمين وتطويق العالم الإسلامي، فردّ السلطان الظاهر بيبرس على هذا الحلف الوثني -الصليبي بتحالفه مع السلطان المغولي المسلم" بركة خان" حفيد الطاغية جنكيز خان وزعيم مغول الشمال-القوقاز وتركستان الشرقية- فكان هذا التحالف بمثابة خط الدفاع الأول لدولة المماليك ضد هجمات التتار الوثنيين.
حاول أباقا بن هولاكو تطبيق سياسة الغارات الخاطفة على ثغور الشام، فأغار على قلعة ألبيرة الاستراتيجية على نهر الفرات سنة 663ه، ولكن فطنة بيبرس واستعداداته الاستخباراتية رفعت خبر الحملة فور تحركها من فارس فخرج بنفسه على رأس جيش قوي وكان قبلها يعمل على هدم أسوار قيسارية بعد أن حررها من الصليبيين، فوصل إلى ألبيرة سريعاً وأجبر التتار على الفرار، وذّكر الناس بشجاعة وسرعة الصحابي الكبير " خالد بن الوليد" رضي الله عنه.
شعر أباقا بن هولاكو بضعف موقفه الاستراتيجي أمام المماليك وخشي على ضياع ما احتله التتار في العراق وفارس، وسقوط الدولة الإيلخانية، خاصة وأن الثورات الداخلية كانت مشتعلة ضد من جانب القبائل التركية البدوية في الأناضول، فحاول عقد هدنة مع السلطان بيبرس مرتين، ولكن بيبرس رفض في إشارة واضحة منه على نيته وعزمه بمواصلة الجهاد ضد العدو التتري والقضاء على خطرهم للأبد.
حلف الخيانة
أدت هزيمة التتار على هذا النحو المشين عند نهر الفرات إلى موقف عسكري وسياسي جديد؛ فقد أخذ أباقا بن هولاكو في البحث عن حليف من داخل العالم الإسلامي يكون بمثابة الفرع الفاسد الذي يقطع الشجرة، ووجد ضالته في سلاجقة الروم بآسيا الصغرى.
دولة سلاجقة الروم أو سلاجقة الأناضول –أسيا الصغرى-واحدة من عدة دول خرجت من عباءة وجسد دولة السلاجقة الكبار بعد وفاة آخر السلاطين السلاجقة العظام " ملك شاه " وقد لعبت تلك الدولة دوراً هاماً في الحروب الصليبية الأولى، بل تولت القضاء على حملتين صليبيتين-حملة الرعاع وحملة الأطفال-وأجبرت الصليبيين على تحويل مسار الحملات الصليبية من البر إلى البحر.
هذه الدولة أخذت في الضعف والتفكك بسبب الصراع على الحكم بين أمرائها، وبسبب هجمات التتار عليها من الشرق، والبيزنطيين من الشمال الغربي، مما أفقدها مكانتها في المنطقة رغم موقعها الاستراتيجي الحساس والخطير، وفي سنة 646 ه وبعد وفاة آخر سلاطينها الأقوياء السلطان علاء الدين كيقباذ أصبحت تلك الدولة العريقة صاحبة التاريخ المضيء في جهاد الصليبيين والدفاع عن الأمة، أصبحت خاضعة للدولة الإيلخانية التترية في العراق وفارس.
عمد التتار على بث روح الفرقة والاختلاف بين الأمراء السلاجقة حتى لا تتوحد كلمتهم ويستعيدوا هيبتهم وينالوا استقلالهم السياسي عن الحكم التتري، وكان سلطان السلاجقة وقتها عز الدين كيكاوس فألبوا أخاه ركن الدين قلج أرسلان ضده فانقلب عليه وتحاربا على السلطة، فرجحت كفة كيكاوس فسارع التتار لتدارك حليفهم قلج أرسلان، فقام هولاكو باستدعاء الأخوين بُعيد استيلائه على بغداد سنة 656ه، وأعلمهما بقراره تقسيم الأناضول بينهما، فأعطى كيكاوس جميع البلاد الممتدة من حدود قيصريَّة حتى الحدود البيزنطيَّة، وتكون عاصمته قونية، في حين منح قلج أرسلان البلاد الممتدة من سيواس إلى ساحل البحر الأسود، وكان القسم الأخير -أي الشرقي- هو أكثر ما يهم المغول لمجاورته حدود بلادهم، ومن أجل ذلك عينوا عليه قلج أرسلان الموالي لهم.
قام كيكاوس بمراسلة السلطان الظاهر بيبرس وعرض عليه التحالف ضد التتار وأخيه قلج أرسلان، وبالفعل وافق بيبرس ورأي في هذا الحلف فرصة سانحة لتطويق التتار من ناحية الأناضول، فوصلت أخبار الحلف إلى هولاكو فأرسل على الفور جيشاً جراراً حاصر مدينة قونية عاصمة كيكاوس وخلعه من الحكم ونفاه إلى الدولة البيزنطية، وأصبح أخوه قلج أرسلان حاكماً على عموم الأناضول نيابة عن التتار.
الوزير الخائن البرواناه سليمان
في هذه الفترة السياسية المضطربة في الأناضول ظهرت شخصية سياسية غاية في الخطورة والدهاء والخبث؛ وهي شخصية معين الدين سليمان الملقب بالبرواناه وهو لقب فارسي معناه المساعد الشخصي للسلطان.
البرواناه كان رجلاً ذكياً طموحاً شديد الدهاء عديم الأخلاق وصولياً لأقصى درجة باحثاً عن السلطة والنفوذ والمال بشتى الوسائل، وكلها صفات ترشحه بقوة للعب دور الخائن الذي تكررت قصته كثيراً عبر التاريخ!!
استغل البرواناه وفاة هولاكو سنة 663ه وتربُّع ابنه أباقا على العرش مكانه، فتوجه برفقة السلطان إلى البلاط المغولي في تبريز لتقديم فروض الطاعة والولاء، ولما عاد قلج أرسلان إلى بلاده بعد تمام الزيارة بقي البروناه في تبريز ليحيك مؤامرة كبيرة ضد قلج أرسلان من أجل الإطاحة به، فما كان من أباقا إلَّا أن قلَّده نيابة السلطنة ببلاد الروم على أن يتخلَّص من كل شخص يخالفه أو يشك بولائه للمغول.
ولمَّا حاول السلطان قلج أرسلان التخلص من هيمنة وزيره الخطير وازدياد نفوذه الذي بات يهدده شخصيا لفَّق له البرواناه تهمة التخطيط لاغتياله ومكاتبة المماليك، فقبض عليه المغول وأعدموه خنقًا يوم الأربعاء 8 جمادى الأولى 664ه ونُصِّب مكانه ابنه الطفل كيخسرو. وتلك عاقبة الغدر والخيانة، فمن خان سيخان ولو بعد حين.
معركة إبلستين الدموية
أراد التتار اختبار ولاء البروناه الخائن بعد أن غدر بأسياده وأصبح وحده المتربع على عرش قونية، فطلبوا منه الاشتراك في هجوم ثان على حصن ألبيرة والرحبة على نهر الفرات، فأمدهم الخائن بخمسة عشر ألفاً من المقاتلين، ولكن كان الظاهر بيبرس لهم بالمرصاد بفضل يقظة استخباراته التي رفعت له خبر التحالف العسكري الجديد، فأسرع على راس جيش كبير واصطدم مع الجيش التتري عند منطقة مخاضة الحمام سنة 571هـ، ومن هول المعركة انسحب الوزير الخائن وجنوده من أرض المعركة وتركوا التتار وحدهم يواجهون مصيرهم فوقعت عليهم هزيمة شنيعة زادت من حنق أباقا بن هولاكو وزادت من عزمه على معاودة الهجوم على بلاد الشام واحتلالهم مرة أخرى كما فعل أبيه من قبل، ولكنه واجه مشاكل داخلية وصراعات قبلية أخرت خططه عدة سنوات.
في سنة 675هـ وفد على السلطان بيبرس عدد من أمراء البيت السلجوقي مغاضبين للبرواناه بسبب سياساته وطغيانه ونهبه للأموال، وحذروه من أن التتار وبمعاونة البرواناه يحضرون لهجوم كبير على حلب والشام، وعرضوا على السلطان فكرة ضم بلاد الأناضول إلى حدود مملكته في مصر والشام ليتقوى جدار الدولة الإسلامية في مواجهة التتار، فأعجبت السلطان بيبرس الفكرة وشرع في تجهيز الجيوش للاستيلاء على الأناضول وطرد الخونة منها.
وفي صحراء الأبلستين (البستان بالقرب من مرعش جنوب تركيا الآن) ترصّدت القوات المملوكية للحليفين المغولي وخونة السلاجقة بقيادة البرواناه في أعلى جبال المنطقة، ثم سرعان ما تخطفت القوات المملوكية رقاب المغول والسلاجقة في معركة دموية شديدة العنف، وأعاد الخائن فعلته السابقة وفر من أرض المعركة، ولكنه هذه المرة ترك التتار لمذبحة مهولة بسيوف المسلمين وسهامهم، حتى عرفت أرض المعركة بعد ذلك باسم بستان الدم –على الرغم من أنها أرض صحراوية-من كثرة دماء القتلى من التتار، ودخل السلطان بيبرس عاصمة سلاجقة الروم "قيسارية" ظافرا منتصرا في 15 ذي القعدة سنة 675ه/ إبريل 1277م، وقد استقبله أهلها بمختلف طبقاتهم بالترحاب والتهليل والتكبير.
عاقبة الخيانة وشؤمها
رأى بيبرس أن بقاءه في عاصمة الروم السلاجقة ربما يكون خطرا عليه وعلى البلاد الشامية لتوقع عودة المغول من العراق انتقاما لهزيمتهم المدوية في صحراء البستان في قلب الأناضول، فضلا عن الإنهاك الشديد وقلة الأعلاف والمؤن، وقد كان صادقا في حدسه، فإنه بعدما غادر قيسارية حتى سار أباقا خان التتار بجيوش جرارة إلى منطقة المعركة، ولما وقف بنفسه على ساحة القتال، ورأى سحق جيشه، والآلاف من جثث قواته، قرّر الانتقام من البرواناه قائد السلاجقة، وبالفعل أخذه معه إلى بغداد، مكبلاً في الحديد مهاناً أشد الإهانة، وهناك أعدمه في مشهد عام أمام الجميع، وهذه هي عاقبة الخيانة ومصيرها الحتمي.
تلك كانت عاقبة الخيانة، أما شؤمها هو ما وقع لمسلمي الأناضول من القبائل التركية وخاصة قبائل الأوغوز، حيث لم يكتف أباقا بمعاقبة البرواناه فقط، فقد كانت ثورته عارمة بسبب هزيمة الأبلستين، وقرر الانتقام من مسلمي بلاد الروم (الأناضول)، وقد ذكر عدد من المؤرخين أنه قتل أكثر من مئتي ألف من مسلمي الأناضول، مما يدل على انعكاس أثر الهزيمة الثقيلة على نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق