الخميس، 2 سبتمبر 2021

لَبنَةٌ جديدة في فضائح الفاتيكان

لَبنَةٌ جديدة في فضائح الفاتيكان

أ. د. زينب عبد العزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية

صدر هذا الأسبوع كتاب جديد بعنوان: "جرائم مذهلة في الفاتيكان"، بقلم الكاتب الأرجنتيني ريكاردو كاناليتي. 

وقد تناول فيه أهم الجرائم التي دارت في أقبية الفاتيكان ودهاليزه على مر التاريخ، منذ الإمبراطور قسطنطين، الذي وضع حجر الأساس الديني لكاثوليكية الفاتيكان، وذلك بفرضه عقد مجمع نيقية الأول سنة 325، الذي تم فيه تأليه السيد المسيح. وفَرَضَ هذا القرار على كل بلدان إمبراطوريته التي كانت محيطة تقريبا بالبحر الأبيض المتوسط. وكان هدفه الأساس هو توحيد أركان إمبراطوريته دينيا لتسهيل حكمها سياسيا.

واللافت للنظر أن الكاتب قد اهتم بتجميع معظم وأشهر الجرائم والمخالفات الإنسانية التي تمت، في أقبية الفاتيكان، منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا تقريبا. ومن الجرائم الصادمة التي اختارها، أو تلك التي دارت وتدور في صمت الظلمات وأصدائها ما تقشعر لها الأبدان. ويكشف الكتاب، في كل جريمة تناولها، أنه في جميع الأحوال التي ذكرها، ومن البديهي أنه لم يحصر كل الوقائع التي وقعت فعلا، فإن الشيطان يجول ويُعربد بمنتهي الحرية في ظلمات وأقبية هذه الدويلة التي بدأت جدرانها تتصدع.. فهناك حفنة من الاستنتاجات التي بدأت تلوح في الآفاق.

والمعروف عن الفاتيكان أنه أصغر دولة أو، إن شئنا الدقة، أصغر دُويلة مساحةً في العالم، فهي في حدود نصف الكيلومتر المربع، لكنها في واقع الأمر عبارة عن مَلَكيّة استبدادية مطلقة، يترأس البابا جناحيها الديني والسياسي: فالجانب الديني يسمي الفاتيكان، والجانب السياسي يسمي الكرسي الرسولي.. أي أنه يمسك اللجام بكلتا يديه. وتضم هذه المملكة حوالي ثمانمائة شخصا في مهامهم المتعددة، كما أنها مزودة بإمكانات لا يتخيلها عقل، في مختلف المجالات. ويكفي إضافة أن البابا يُعد من ضمن تلك الحفنة المعدودة المتحكمة في مصير العالم من جميع الوجوه..

ومثلما تتم وتدور كل الجرائم والاغتيالات، من غسيل أموال، وتعاون مع المافيا المسيطرة على أيّ من المجالات، وتجارة السلاح، والأعضاء، والمخدرات، وتدخلات في الشؤن السياسية والدينية في جميع بلدان العالم، فإن الفاتيكان له نصيبه الأوفر في مختلف الميادين الإجرامية والسياسية وخاصة الدينية. بل وله مداخله الخاصة لأي طريق من الطرق التي يود أن يسلكها.. فالجرائم البشعة التي دارت وتدور في هذه الدُويلة أكثر بشاعة حتى أو على الرغم من أنها وقعت وتقع في عقر دار أكبر مؤسسة دينية كاثوليكية في العالم، وأكثر دولة مدججة بكل وسائل التسلل والحماية. وتكفي الإشارة الي أنه يمتلك أكثر من مائة وعشرون ألف جامعة ومؤسسة تعليمية يسيطر عليها في جميع أنحاء العالم.

وكم من جرائم تمت، على مر التاريخ، أمام مذبح بازليكا القديس بطرس أو تلك القاعات التي تكسو جدرانها طبقات من البذخ والجواهر والمجون.. كم من صفقات وسرقات نُسحت تفاصيلها وتمت، بل كم من اغتيالات تم ترتيبها أو وقعت في أقبية ودهاليز تلك الدُويلة. فمنذ الإمبراطور قسطنطين في القرن الرابع، حتى البابا فرانسيس حاليا، أخفي ذلك المبني بل ودفن العديد من الوقائع التي تسربت أخبارها واشتهرت أو لا تزال تشرئب من حين إلى آخر من تحت الأنقاض..

وقد دار الكاتب مع الأحداث من الإسكندرية والقسطنطينية وأثينا، ولومباردية، وروما وغيرها من البلدان.. واستقي تفاصيلها من منابع الأرشيف التاريخي لكل بلد أو لكل موضوع تناوله، وغاص في منحنيات الملفات والقضايا. وذلك هو ما قيل في تقديم الكتاب. ومن أهم الأحداث التي ذكرها:
اغتيال قساوسة الإسكندرية للفيلسوفة وعالمة الرياضيات هيباثيا سنة 415. وكانت أشهر عالمة في مكتبة الإسكندرية القديمة، التي أحرقها الأسقف ثيوفيلس، وسحلوها في الشوارع ثم مزقوا جسدها داخل الكنيسة.. وهناك سيدة أخري ـ مع الفارق في النوعية ـ أتت بعدها بقرون، وجلست على عرش الرسول بطرس وحكمت في زي البابوات، وحملت، ووضعت طفلها أثناء إحدى الاحتفالات الطقسية الدينية.. وقصة البابا الذي أطلقوا عليه اسم الشيطان، وآخر كان يعمل قرصانا قبل توليه عرش البابوية.. وبابوات أبهات لبابوات آخرين.. أو ذلك البابا الذي خنق زميلا له.. بل أورد قصة ذلك البابا الذي نبشوا قبره بعد أعوام من دفنه، لمحاكمته علنا، بعد أن أجلسوا جثمانه أو هيكله العظمي على عرش البابوية في أبهي ملابسه..

ومنها أسماء معروفة لكل دارس لتاريخ المسيحية وكيف أنهت حياته محاكم التفتيش، من قبيل چيوردانو برونو الذي أحرقته الكنيسة يوم 17 فبراير 1600 بعد محاكمة امتدت ثماني سنوات، لأنه تجرأ وأثبت في أبحاثه أن السيد المسيح ليس ألله.. أو ميشيل سرفيه، ذلك العالم اللاهوتي الذي أحرقته الكنيسة لأنه تجرأ وكتب بحثا من سبعة فصول ينتقض فيها نظرية الثالوث الاتي لا يفهمها أحد من الأتباع.. أو يوحنا بولس الأول الذي تم اغتياله بعد أسابيع من تنصيبه لأنه تجرأ وواجه الماسونية. ولم ينس الكاتب حتى فضيحة الشابة إيمانويلا اورلاندي..

وهنا يطرح السؤال نفسه: لماذا مثل هذا الكتاب، الذي لم يأت بجديد في واقع الأمر، وإنما هو سرد لأهم أحداث وجرائم تمت عبر التاريخ وتدور لتمتد حتى يومنا هذا في تلك الدويلة الشمطاء؟ والرد المنطقي الوحيد هو إضافة جديدة لمعاول الهدم التي بدأت تنهال على البابا فرنسيس، الرئيس الحالي للفاتيكان والكرسي الرسولي، أو تحفر حول قدميه.. وهو تيار بدأ منذ إعلانه الخطاب الشهير الذي أصدره بلا مناسبة تقتضيه والمعنون "حراس العقيدة". وهو الخطاب الذي ألغي به نَص القداس اللاتيني القديم، الذي كانت ولا تزال كلماته تسب اليهود وتلعن عماء بصرهم وتدعوهم ليعترفوا بالمسيح ويتقبلوا المسيحية دينا وهوية.. فبعد ذلك الخطاب الصادر منذ أسابيع، بدأ الحديث عن سن البابا، وعن مرضه، وعن العملية التي أجراها في القولون، وعن تعامله بوجهين في مختلف القضايا، وعن احتمال استقالته، وعن سوء تصرفاته، وتطول القائمة..

ومن الواضح ان اللعبة الآن بين الصهاينة والفاتيكان. فقد أرسل له كبير الحاخامات يسأله عما يقصده بتعليق صدر عنه ولا يزال الرد في حلقة دراسية فاتيكانية..
وثقل الصهاينة لا يجهله أحد، خاصة بعد مجمع الفاتيكان الثاني (1965) الذي تمخض عن تبرئة اليهود من دم المسيح. وذلك بعد أن ظلت الكنيسة في كل قداس تلعن اليهود قتلة الرب. وهو القرار الذي أثبت للأتباع، وبالأدلة، عن مدي تلاعب الفاتيكان بالعقيدة الكاثوليكية التي نسجها عبر القرون، وتغييره الواضح للقرارات والنصوص والمواقف وفقا للأهواء والمقتضيات السياسية.. بل هو ما فتح الباب لتسلل الأتباع والعديد من القساوسة، وهو ما أطلقوا عليه الزيف الصامت للكنيسة.

والأصح هو كتابة "الصراع"، بدلا من كلمة "اللعبة"، الآن ـ حتى وإن لم يكن ذلك الصراع معلنا رسميا وبصريح العبارة.. فهو يقينا قائم بين الجبهتين، بين الصهاينة والفاتيكان، وإن لم يدركه البعض حتى الآن.. وهنا يمكن إضافة إن البقاء ليس دائما للأصلح فالاثنان شبه متساويان في كثير من المواقف، حتى الإجرامية منها، وإنما البقاء هنا، في هذا الصراع تحديدا، بين الفاتيكان والصهاينة، فالنتيجة تبدو واضحة، وأنها عادة ما تكون في نفس هذا الإطار، للأكثر حنكة في تدبير الأهداف المطلوبة..
وهنا، في هذا الموقف، لنا في خطاب وعد بلفور نموذجا.


زينب عبد العزيز
31 أغسطس 2021


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق