الثلاثاء، 7 سبتمبر 2021

طالبان على أبواب الإمارة الثانية | (3) خليل زاد: الصعود على جناح الهوى

 طالبان على أبواب الإمارة الثانية(3) 

خليل زاد: الصعود على جناح الهوى

محمود عبد الهادي

نصف قرن من الطموح والمثابرة والبراغماتية والتسلق والغموض والتنقل بين أروقة السياسة الأميركية من أوسع أبوابها، حائزًا ثقة وتقدير قادتها ومهندسيها على مدى 8 إدارات متتالية، من الرئيس ريغان وحتى الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن، حتى صار أحد أكبر المستشارين السياسيين الإستراتيجيين في منطقة جنوب غرب آسيا والشرق الأوسط، وفي مقدمة الشخصيات التي  تسند إليها المهام الصعبة للخارجية الأميركية، وآخرها مهمة التفاوض مع حركة طالبان طيلة 18 شهرًا، التي انتهت بالانسحاب من أفغانستان وتسليمها لطالبان، ضمن اتفاقية عدها البعض فاشلة بامتياز، وإعلانًا لهزيمة للولايات المتحدة أمام طالبان، في حين عدها غيرهم خيانة لحلفاء الولايات المتحدة وشركائها وانقلابًا على القيم والمبادئ التي قامت عليها، أما خليل زاد ووزارته، فيعتقدون أنهم حققوا أهداف الإدارة الأميركية والتزامات الرئيس تجاه الشعب الأميركي.

علاقة خليل زاد بالمحافظين الجدد جعلته يتبنى كثيرا من أفكارهم، في بحوثه ودراساته وندواته، مما رفع رصيده في الأوساط السياسية، خاصة لدى الجمهورية منها، فقد كتب عدة مقالات حول مفهوم القيادة الأميركية العالمية، ورأى أن فقدان الهيمنة الأميركية سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار العالمي

سهم الحب في بيروت

ينحدر خليل زاد من أسرة أفغانية بشتونية فقيرة من مزار شريف، وزار الولايات المتحدة عام 1966م أول مرة يغادر فيها أفغانستان، ضمن برنامج تبادلي لطلاب الثانوية العامة إلى ولاية كاليفورنيا، ليعود ممتلئا بالانبهار والآمال العظيمة والأحلام الوارفة، التي سرعان ما أخذت تتحقق تباعا من دون معوقات كبيرة، حيث التحق مباشرة بالجامعة الأميركية في بيروت، ليحصل هناك على درجتي البكالوريوس والماجستير عام 1974م، ويتعرف في الجامعة على الطالبة شيريل بينارد عام 1972، التي أصبحت زوجته بعد ذلك.

أنجب منها ولدين: أليكساندر بينارد وماكسيميليان بينارد، اللذين حملا اسم عائلة زوجته الأميركية، التي تنحدر من أصل نمساوي، والحاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فيينا، وتعد من كبار الباحثين في مؤسسة راند الأميركية، وهي روائية وناشطة نسوية متشددة، تدعو إلى الاستقلالية التامة للمرأة بحيث تستغني عن الأب والأخ والابن، وصدرت لها عدة روايات، من بينها رواية خيالية عام 2001م بعنوان "تفعيل دور للبنات" (Turning On The Girls) تتحدث عن نظام عالمي جديد تسيطر فيه النساء على العالم، كما صدرت لها عدة كتب، من بينها كتاب "الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات" الصادر عام 2004م، وشاركت في كتاب "بناء شبكات إسلامية معتدلة" الصادر عن مؤسسة راند 2007، كما شاركت زوجها في كتاب "حكومة الرب: جمهورية إيران الإسلامية" الذي صدر عام 1984م، بعد نحو 4 سنوات من الثورة الإسلامية في إيران.

وذكرت وكالة أسوشيتد برس (AP) في سبتمبر/أيلول 2014م أن السلطات النمساوية أغلقت حسابات بينارد البنكية لديها على خلفية تحقيق الأجهزة المختصة في الولايات المتحدة مع زوجها خليل زاد في شبهة غسل أموال بلغت قيمتها مليون ونصف المليون دولار، تم تحويلها من رجلين؛ أحدهما في العراق والآخر في الإمارات.

قفزات فوق العادة

بعد حصوله على الماجستير، انتقل زلماي خليل زاد إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا، ليحصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة شيكاغو عام 1979م، وهناك تأثر بالمفكر الإستراتيجي إلبرت وولستيتر المتخصص في مجال الردع النووي، والمعارض لاتفاقيات نزع السلاح النووي. بعد ذلك عمل أستاذًا مساعدًا في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا حتى عام 1989م، حيث عمل عن كثب مع المفكر الإستراتيجي زبغنيو بريجينيسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر في الفترة بين 1977 و1981م.

تذكر تقارير أنه في هذه الفترة تم استدراج خليل زاد إلى تيار المحافظين الجدد، ليتقلد بعدها العديد من المناصب في الإدارات الجمهورية المتعاقبة، متبنيا منهجها وملتزما بتوجهاتها ومحافظا على تحقيق مصالحها، فكان من أشد المؤيدين لدعم المجاهدين الأفغان في قتالهم ضد السوفيات في ثمانينيات القرن الماضي، كما كان مؤيدًا للاجتياح الأميركي لأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م، إذ عينه الرئيس جورج بوش الابن مبعوثًا رئاسيًّا خاصًا لأفغانستان نهاية عام 2001م، قبل أن يتم تعيينه سفيرًا للولايات المتحدة هناك نهاية 2003م، ممسكًا بكافة الخيوط السياسية في يده، إلى أن تم نقله إلى العراق منتصف 2005م سفيرًا للولايات المتحدة هناك، لينتقل من جديد مندوبًا للولايات المتحدة في الأمم المتحدة للفترة بين 2007 و2009م.

علاقة خليل زاد بالمحافظين الجدد جعلته يتبنى كثيرا من أفكارهم في بحوثه ودراساته وندواته، مما رفع رصيده في الأوساط السياسية، خاصة الجمهورية منها، فقد كتب عدة مقالات حول مفهوم القيادة الأميركية العالمية، ورأى أن فقدان الهيمنة الأميركية سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار العالمي، وكان أحد الموقعين على الرسالة التي بعث بها أعضاء مشروع القرن الأميركي الجديد إلى الرئيس بيل كلينتون في يناير/كانون الثاني 1998، وطالبت كلينتون بالعمل على الإطاحة بصدام حسين ونظامه من السلطة في العراق باستخدام كافة الطرق الدبلوماسية والسياسية والعسكرية. كما دعا إلى الهيمنة الأميركية على المناطق الحرجة، وشدد على أن تكون الولايات المتحدة على استعداد لاستخدام القوة إذا لزم الأمر لهذا الغرض. وربما كان لهذا الأمر دور في اختيار الرئيس جورج بوش الابن في ديسمبر/كانون الأول 2002م خليل زاد في منصب السفير المتجول للعراقيين، لتنسيق الاستعدادات لعراق ما بعد صدام حسين.

إضافة إلى ذلك، فإن الأحداث التي شهدتها منطقة جنوب غرب آسيا والشرق الأوسط، على مدى العقود الأربعة الماضية، منذ الغزو السوفياتي لأفغانستان وحتى الآن؛ لعبت دورًا كبيرًا في سطوع نجم زلماي خليل زاد، الذي تنظر إليه الأوساط المعنية باعتبار خلفيته الأفغانية البشتونية المسلمة، فكان رجل المرحلة الذي اعتمدت عليه الدبلوماسية الأميركية، منذ وقت مبكر، فخدم في إدارة الرئيس ريغان مستشارا كبيرا في وزارة الخارجية في ملف الغزو السوفياتي لأفغانستان، وفي عهد الرئيس جورج بوش الأب عمل في وزارة الدفاع الأميركية نائب وكيل الوزارة لتخطيط السياسات.

وفي الفترة بين 1993 و2000م، شغل خليل زاد منصب مدير الإستراتيجية والعقيدة وهيكل القوة في مؤسسة "راند" (RAND)، وساعد في تأسيس مركز "راند" لدراسات الشرق الأوسط، وقدم عشرات الأوراق البحثية، كما قام بتأليف العديد من الدراسات البارزة التي عززت مكانته لدى الأوساط السياسية التنفيذية والأكاديمية، ومن هذه المؤلفات:

  • من الاحتواء إلى القيادة: أميركا والعالم بعد الحرب الباردة، 1995م.
  • الولايات المتحدة والصين الصاعدة: التداعيات الإستراتيجية والعسكرية، 1999م.
  • الولايات المتحدة وآسيا: نحو إستراتيجية أميركية جديدة وقوة موقف، 2001م.

وتكشف هذه المؤلفات وغيرها من البحوث والمشاركات عن انغماس خليل زاد الشديد في الفكر الأصولي للمحافظين الجدد، قبل أن يكتب كتابه الأخير "المبعوث: من كابل إلى البيت الأبيض، رحلتي في عالم مضطرب"، 2016م.

خليل زاد وطالبان

في مقال نشر في صحيفة واشنطن بوست، في يوليو/تموز 1996م، دعا خليل زاد الولايات المتحدة إلى التعامل مع طالبان، وأنه حان الوقت للولايات المتحدة لإعادة الانخراط معها من جديد، موضحًا أن طالبان لا تمارس أسلوب الأصولية المناهض للولايات المتحدة الذي تمارسه إيران، وإنما هي أقرب إلى النموذج السعودي، ودعا الولايات المتحدة إلى مساعدة طالبان في وضع أفغانستان على طريق السلام، مشيرًا إلى أن استمرار العنف كان سببًا في عدم الاستقرار الإقليمي، وعائقًا أمام بناء خط أنابيب نقل النفط والغاز من آسيا الوسطى إلى باكستان والأسواق العالمية عن طريق أفغانستان.

وفي مارس/آذار 2000م، أعاد خليل زاد الحديث عن هذا الأمر، موضحًا أن شركة يونيكول (Unocal) الأميركية التي يعمل مساعدًا فيها مهتمة بهذا المشروع، إلا أن الشركة لم تتمكن من البدء بسبب الحرب، وكان خليل زاد هو الذي أجرى دراسة تحليل المخاطر لهذا المشروع، وتذكر المصادر أنه كان حينها من أشد المعجبين بطالبان الذين استطاعوا فرض الأمن على معظم أفغانستان، ولكن هذا الإعجاب لم يدم طويلا بسبب الخلاف مع طالبان، وفي يونيو/حزيران 2001م، وقبل 3 أشهر من أحداث "11 سبتمبر" شدد خليل زاد على أن الولايات المتحدة ينبغي أن تعمل على إضعاف حركة طالبان ووقف انتشارها، وأن تعمل على تغيير ميزان القوى عن طريق تقديم المساعدة لأعدائها، من خصومها، ومن القادة الإسلاميين المعتدلين.

وبعد الإطاحة بحكم طالبان، وفي مايو/أيار 2002م وقع القادة الأفغان الجدد والتركمان والباكستانيون على صفقة خط الغاز مع شركة يونيكول، مباشرة بعد تعيين الرئيس الأميركي خليل زاد مبعوثًا خاصًا إلى أفغانستان، وكان بمثابة الرئيس الفعلي لها. ولا تقتصر مصالح الولايات المتحدة وشركاتها في أفغانستان على خط الغاز.

المشهد الأخير

بعد 20 عامًا، تنسحب القوات الأميركية من أفغانستان، بناء على اتفاقية لإحلال السلام في أفغانستان، توصل إليها المبعوث زلماي خليل زاد مع حركة طالبان، بعد 18 شهرًا من المفاوضات المكوكية، وهي اتفاقية أثارت كثيرا من الجدل في الأوساط السياسية والعسكرية والإعلامية الأميركية والعالمية وكذلك الأفغانية. وفي 18 مايو/أيار الماضي، في جلسة استماع للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي حول السياسة الأميركية في أفغانستان؛ قلل خليل زاد من أهمية احتمالية استيلاء طالبان السريع على السلطة بعد مغادرة القوات الأميركية، قائلا إذا سعت طالبان إلى النصر العسكري فإن ذلك سيؤدي إلى حرب طويلة، لأن قوات الأمن الأفغانية ستقاتل، والأفغان الآخرون سيقاتلون، وسيأتي الجيران لدعم قوى مختلفة. وأضاف أنا شخصيًّا أعتقد أن التصريحات بأن القوات الأفغانية ستتفكك، وأن طالبان ستتسلم زمام الأمور في وقت قصير تصريحات خاطئة، والخيارات الحقيقية التي سيواجهها الأفغان هي بين حرب طويلة وتسوية تفاوضية.

ولكن لم يحدث شيء من هذه التقديرات، وسيجد خليل زاد نفسه في ما بعد أمام الإدارة الأميركية الجديدة، في حرج شديد لا يتناسب مع تاريخه وعلمه وخبرته.

يغادر خليل زاد أروقة العمل الدبلوماسي، مختتما حياته فيها، التي امتدت أكثر من 45 عامًا، عاش باحثًا أكاديميًّا أميركيا وسياسيا جمهوريا متشددا، وملتزما بمبادئ الدولة وقيمها، ومتفانيا في خدمة مصالحها، من دون أن ينسى مصالحه وتطلعاته الشخصية التي زرعها في وعيه قبل 45 عامًا عندما زار كاليفورنيا وهو في الثانوية العامة، ولكنه يغادر تاركًا وراءه مئات الأسئلة والاستفسارات الباحثة عن إجابات لفهم الفصول الغامضة التي ما تزال مغلقة أمام الباحثين عن الحقيقة.

(يتبع… هل انتصرت طالبان؟)

طالبان على أبواب الإمارة الثانية | (1) الصفقة




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق