الخميس، 9 سبتمبر 2021

تفكيك تركة جيل الستينيات في مصر

 تفكيك تركة جيل الستينيات في مصر

عبد الحكيم حيدر


ترك جيل الستينيات في مصر، "دراويشه وأبناء المؤسسات الثقافية والصحافية"، ميراثا ثقيلا على أنفاس الكتابة، وخصوصا السردية، يتجلّى ذلك بكل وضوح، في تلاميذه الذين حملوا حقائبهم بالهمة نفسها والطبخة نفسها والنموذج السلطوي والخريطة الثابتة، وأوصلوهم حتى إلى خبايا الجوائز والمنح في الغرب والشرق معا.

جلس كثيرون منهم على منافذ الحياة الثقافية وروحها، عقدا، كغالي شكري في مجلة القاهرة، وصلاح عيسي في صحيفة القاهرة "طال عقدين كاملين"، وجمال الغيطاني في "أخبار الأدب" طال عقدين ونصيبه من أسماء الشوارع بعد رحيله، وجابر عصفور تربّع على صدر المجلس الأعلى للثقافة، عقدا ونصف العقد، وبعدها وزيرا في حكومتين. والقائمة بالطبع لو مددنا الخيط إلى منتهاه لوصلنا إلى البحر ودخلنا فيه، من كثرة النماذج على الأصعدة كافة، كالفن التشكيلي والسياسة، ويكفي فقط مصطفي الفقي وعلي الدين هلال، وفي مشارب العلوم كلها، حتى السينما والتصوير والإخراج وحتى الإنتاج.

إذن، نحن أمام ظاهرة عامة، مع أن إطلالتنا اكتفت بالسرد والنقد فقط. ظاهرة فريدة من نوعها، استمرت حوالي عشرين سنة من نهاية حكم حسني مبارك "بسماحية دع فقراء الأدب يشاركوننا سلطة الكتب، طالما لم تمتد رغباتهم إلى سلطة الحكم". ولم ينس بالطبع أن يسعدهم بمشروع سوزان "مكتبة الأسرة"، كي يشاركهم هذا الإرث الرمزي.

إذن، نحن أمام بصيرة ما من السلطة السياسية لمشاركة هذا الجيل، ولو من "هامش الكعكة"، كي تتم الاحتفالات الثقافية في سهولة ويسر، وتوزّع الجوائز والمنح "فيما بينهم"، حسبما يتراءى لهم، وأهل مكة أدرى بشعابها. هكذا مشت العشرون سنة من نهاية حكم مبارك، وجيل الستينيات "على حجر الكتب والمطبوعات والجوائز"، ولكل تلميذ، يخشوشن صوته، ويصير "متودكا" في حمل الحقيبة والرسالة من التلاميذ، وظيفة هنا أو هناك "مدير تحرير أو سكرتير تحرير أو مدير سلسلة أدبية"، أو جائزة من الإمارات، واللجان كلها من جيل الستينيات نفسه، يعني زيت الستينيات في دقيق تلاميذهم، أو منحة لأكاديمية روما أو "رتبة فارس" من فرنسا إلى آخره، كي ينام مبارك سعيدا بعيدا عن "الدوشة"، وقلة الأدب التي كانت تطاول أنور السادات في الخارج خصوصا. ولذا نام مبارك نوما طويلا، ولم يشعر خلال ثلاثين سنة بأي دوشة، حتى أنه قال قولته الواثقة جدا: "خلّيهم يتسلوا"، إلا أن الريح جاءت، بالثورة، من حيث لا تشتهي السفن، ولا حتى في أحلك كوابيسها.

وتم خلع مبارك، فماذا فعل الجيل أمام تلك "البطّيخة" التي كانت "تشرّ في حجورهم عسلا ومنا وسلوى" في كل واد ومهرجان، وليس فقط زوال "بطّيخة مبارك بعسلها"، بل وأيضا مجيء "الإخوان". 

توفي عدد منهم من هول الصدمة، رحم الله من مات، حتى تم الإعداد لـ "30/ 6" فإذا بك ترى الجيل كاملا بلا نقصان في أول الركب، حتي تمّت إزالة "الإخوان"، وبدأت حسابات الجوائز لمن لم يدركها، فأوفى النظام ديونه وأغرقهم بالجوائز حتى الركب، سواء من الإمارات أو غيرها. 

وفي القلب من العطايا بالطبع مصر صاحبة الأزمة والليلة. وبقي دور التلاميذ بعدما صاروا كهولا، ومنهم من في الخمسين أو الستين، فبدأ تسكينهم "على المصالح"، وفقا لـ "الخريطة الستينية القديمة بالمسطرة"، بشرط أن يكون له "غزوة أو غزوتان"، في سبّ الخصوم، وما أكثرهم ، فتولّى من ردح لأيمن نور حقيبة "مجلة إبداع". 

وهكذا، فصار التلاميذ ولاة للأمر، وبدأوا في تذكير أصحاب النعم ممن حمّلهم "بعسل البطّيخ والحقائب"، فأعلنوا أن من الواجب تسمية حي أو حتى منطقة في الجمالية أو حتى سوق أو سبيل أو شارع باسم جمال الغيطاني، ولكن الجمّالية بالذات "موطن ميلاد الرئيس"، فكان لهم هذا الوعد بإطلاق اسمه على شارع فرعي. 

ومن "حملة الحقائب" من زاد طمعا في رد الجميل خمسين ضعفا، فذكر: "إذا كانت الأمة والبلد في تعطّش دائم لكتب جمال الغيطاني، فلماذا لا نعيد طبع أعماله الكاملة ولو حتى للمرة العاشرة في هيئة قصور الثقافة، وهذا اقتراح". وصاحب الاقتراح رئيس هيئة النشر بقصور الثقافة، "واعترض بقى" وأقل التهم التي تنالك أن الدماء التي تجري في عروقك إخوانية.

ملحوظة: "يعرفها صاحب الاقتراح من عشرين سنة" وهي، أن الطبعات لأعمال جمال الغيطاني الكاملة، ثلاث طبعات لأعماله الكاملة في هيئة الكتاب فقط، في مخازن الهرم لهيئة الكتاب، ما لا تستطيع أوناش الهيئة الهندسية للقوات المسلحة حمله، إلى درجة أن منطقة مخازن الهيئة بالهرم التابعة لهيئة الكتاب صارت من سنوات مرتعا عالميا للفئران.

إذن، نحن أمام ميراث يصعب تفكيكه، لا بثورة قامت على مبارك، ولا "بزوبعة بعد المغارب" أعادت الجيل (جيل الستينيات) إلى عسل البطيخة نفسه، وأعادت التلاميذ إلى "تفصيل البدل الجديدة"، وتلميذ يظهر، وآخر يختفي في ظروف غامضة، مثل حالة ياسر رزق، وإنْ مدّ الله في العمر، نتكلم عن "تركة الدراويش"، وهي أعظم ما تركه جيل الستينيات إبداعا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق