الدولة المدنيَّة.. ذلك المصطلح المضلِّل!
مصطلحان نجح المتعلمنون في بلادنا في فرضهما على مجتمعاتنا المسلمة، ألا وهما "الدولة المدنيَّة" و"التيار الإسلامي" اللذان باتا (قبل نحو قرن) محل جدل لا أحسب أنه سينتهي بأي حال!
في هذا المقال، سأعلق على مصطلح "الدولة المدنيَّة"، أما مصطلح "التيار الإسلامي"، فسأفرد له مقالا آخر، إن شاء الله..
لا وجود لمصطلح الدولة المدنية!
حسب علمي، لا يوجد ذكر ولا أثر لمصطلح "الدولة المدنية" في المجتمعات الغربية "الديمقراطية" العلمانية التي يحثنا متعلمنوننا على أن نحذو حذوها!.. فهذه المجتمعات لا تعرف إلا مصطلحا واحدا يتعلق بـ"المدنيَّة" ألا وهو "المجتمع المدني"، أما إذا كان الحديث عن "نظام الحكم" أو "الدولة" التي تكفل وتحترم وتصون الحقوق والحريات، فالمقصود بذلك هي "دولة القانون" أو "الدولة الدستورية"، وليس "الدولة المدنيَّة".
أما في عالمنا العربي والإسلامي، وتحاشيا للوصم بالكفر، فقد اخترع نفر من بني جلدتنا مصطلح "الدولة المدنيَّة"، وأكثروا من الطنطنة حوله؛ بهدف علمنة المجتمع المسلم، وإخراج الشريعة الإسلامية من معادلة الحكم، وزادوا فجلبوا لنا مصطلحا آخر ألا وهو "الدولة الدينية" لمضاعفة النفور من فكرة الاحتكام إلى الشريعة، وكأن الذي كان يحكم فرنسا هو البابا، وليس المستبد الفاسق لويس الرابع عشر الذي قال: "أنا القانون والقانون أنا"، وأنجب من إحدى عشيقاته أكثر مما أنجب من زوجته!
المجتمعات لا تعرف إلا مصطلحا واحدا يتعلق بـ"المدنيَّة" ألا وهو "المجتمع المدني"، أما إذا كان الحديث عن "نظام الحكم" أو "الدولة" التي تكفل وتحترم وتصون الحقوق والحريات، فالمقصود بذلك هي "دولة القانون" أو "الدولة الدستورية"، وليس "الدولة المدنيَّة"
إن مصطلح "المجتمع المدني" عند ناحتيه من مفكري عصر الأنوار هو ذلك المجتمع الذي يحكمه القانون، ويتساوى فيه الناس في الحقوق والواجبات، وتتوزع فيه المناصب على الأكفاء لتصريف شؤون المجتمع، على أفضل وجه ممكن.. و"المدنيَّة" عندهم تعني "التحضر" والرقي في الفكر والسلوك.. وثم، فإنهم يرون "المدني" مقابل "البدائي" أو "الهمجي"، وليس مقابل "الديني" كما يحاول متعلمنوننا تصوير الأمر، إلا إذا كانوا يعتقدون أن الإسلام مقابل "الهمجية"!
ألا ينطبق مفهوم "المجتمع المدني" هذا (حرفيا) على المجتمع المسلم الذي أسسه وأداره الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن بعده الخلفاء الراشدون؟.. فلم (إذن) هذه الحرب التي يشنها متعلمنوننا على الإسلام؟ وإلى ماذا تهدف غير إخراج المسلمين من دينهم، أو الحيلولة دون تمكين الإسلام، وتحكيم شريعته الراقية السمحة؟
لماذا ثار علمانيوهم على الكنيسة؟
إن توظيف الدين (أي دين) لتمكين الاستبداد، وتكريس الظلم، ورفع فئة أو فئات على أخرى بغير حق لهو أمر منكر، وهذا ما يجعلنا نتفهم إعلان الحرب من جانب العلمانيين الأوائل على رجال الدين "الإكليروس" و"الدين" الذي ارتكبوا باسمه كل ما يتعارض مع تعاليم السيد المسيح عليه السلام، لكن مفكري عصر الأنوار لم يفرِّقوا (للأسف) بين ما تم تسويقه (كنسيّاً) على أنه دين، وتعاليم السيد المسيح التي كانت تقويما لاعوجاج بني إسرائيل، وامتدادًا لشريعة موسى عليه السلام، ولم تكن رسالة للناس كافة.ألا ينطبق مفهوم "المجتمع المدني" هذا (حرفيا) على المجتمع المسلم الذي أسسه وأداره الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ومن بعده الخلفاء الراشدون؟.. فلم (إذن) هذه الحرب التي يشنها متعلمنوننا على الإسلام؟
أما رسالة الإسلام فتستهدف الناس جميعا؛ كونها خاتمة رسالات السماء.. تأمر بالعدل والإحسان، وأداء الحقوق، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتحض على التفكير وإعمال العقل، والاستكشاف والاستنباط، وتشجّع على عتق الرقاب، وتذكرنا بذلك آناء الليل وأطراف النهار.. لذا، فإن سعي المتعلمنين لاستبعاد الدين كمرجعية حاكمة للتشريع، ليس من السياسة في شيء، فضلا عن كونه كفرا بواحا، وإن ادَّعوا الإسلام!
لقد تميز مفكرو "عصر الأنوار" الذين ابتدعوا "العلمانية الأم" بالعقلانية والصدق، خلال سعيهم لتحرير المجتمع من سلطة الكنيسة التي لم يكن لها (في الأساس) أي وجود على الإطلاق، غير أن رجال الدين انتزعوا هذه السلطة بمرور الزمن! حتى أضحت سلطة الكنيسة فوق سلطة الملوك، في كثير من الأحايين، وعاث الإكليروس في الأرض فساداً باسم "الحق الإلهي".
فإلى جانب احتكارهم الحقيقة، والحديث في كل شيء، واتهام كل من يعارضهم بالزندقة كرَّسوا العبودية والسلطوية والطبقية، فتمخض هذا "اللا منطق" عن مجتمع "بدائي" همجي، قوامه ملايين العبيد الذين يضربون في الأرض صباح مساء، لصالح حفنة من "النبلاء" الذين يوفرون بدورهم أسباب الحياة لملك مُترف مستبد، يُنصِّبه ويباركه بطرك فاسد، مقابل نصيب مفروض من السلطة والمال، يوزع منه على الرتب الكنسيَّة الأدنى، بنسب متفاوتة لا تخضع لمنطق!
مجتمع "بدائي" همجي تحكمه الأهواء والرغبات، لا القانون ولا المؤسسات.. "بدائية" همجية كرسها وباركها الإكليروس الذين تعاملوا مع الدين معاملة الخباز مع العجين، مع الفارق.. فالخباز يشكل العجين؛ ليصنع للآكلين خبزا شهيا مختلف المذاقات، أما الإكليروس فكانوا يشكلون الدين (كلما ارتأوا ذلك) لتوسيع سلطتهم، وزيادة غلتهم، وتمكين الملك من رقاب النبلاء، وتمكين النبلاء من رقاب أقنانهم باسم الرب. وكان لذلك السلوك "الشيطاني" الذي لا يمت لتعاليم السيد المسيح بصلة؛ أثره البالغ في تكريس "بدائية" المجتمع وهمجيته، فكان منطقيا جدا أن يثور العقل على هذا "الدين" الذي يبارك الظلم، ويحتكر العلم، ويحرِّم التفكير، ويحول دون تحرير الإنسان من استعباد أخيه الإنسان.
المجتمع لا يكون "مدنيّاً" أو "متحضرا" إلا إذا تساوى فيه الجميع أمام القانون، وتمتع فيه الجميع بفرص متساوية، وساده العدل، وصينت فيه الحقوق والحريات، بغض النظر عن خلفية وتكوين الشخص الجالس فوق هرم السلطة
لذا، كان من البديهي أن يدخل المفكرون في حرب "فكرية" ضروس مع الكنيسة، يحرضون الناس فيها على "الكفر" بها وبرجالها وتعاليمها، وهذا حال لم يعرفه المجتمع المسلم طوال تاريخه، حتى يوم الناس هذا، فلا وجه للمقارنة بين القس الذي يملك "مفاتيح الجنة" والداعية الذي يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا سلطان له على مسلم أو كافر.
خلاصة القول.. المجتمع لا يكون "مدنيّاً" أو "متحضرا" إلا إذا تساوى فيه الجميع أمام القانون، وتمتع فيه الجميع بفرص متساوية، وساده العدل، وصينت فيه الحقوق والحريات، بغض النظر عن خلفية وتكوين الشخص الجالس فوق هرم السلطة، فلا يهم إذا كان مهندسا أو معلما أو أزهريا أو عسكريا متقاعدا بشروط معمول بها في الدول "الديمقراطية"، ما دام قد وصل إلى هذا الموقع بإرادة الشعب، ويتمتع بالمؤهلات التي يقتضيها المنصب، دون تلاعب في النتائج، وأقر وسلَّم بمبدأ التداول على السلطة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق