لهذه الأسباب ستفشل دكتاتورية قيس سعيّد
علي أنوزلا
يستمرّ الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في تنفيذ انقلابه، غير مكترثٍ بمعارضيه، وهو يسير، بخطى واثقة، نحو تأسيس حكم فردي غريب يشبهه في كل شيء، فبعد انقلابه على الدستور حلّ البرلمان، وحل المجلس الأعلى للقضاء، ومنح نفسه سلطة الحكم بمرسوم، وشلّ الحياة السياسية، وحاكم معارضيه أمام محاكم عسكرية. وأخيرا، أقدم على حل اللجنة المستقلة للإشراف على الانتخابات، وبدأ يعيد كتابة دستور البلاد بنفسه ليطرحه على الاستفتاء في يوليو/ تموز المقبل، وغالبا ستكون النتيجة في صالحه لأنه هو الذي سيقرّرها، وبنسبة لا تقل عن النسب المئوية القياسية التي كان سلفه الدكتاتور زين العابدين بن علي يمرّر بها دساتيره الممنوحة.
سيكون دستور سعيّد بمثابة شهادة وفاة رسمية للثورة التونسية التي خرج من رحمها الربيع العربي، فالرجل يسير عكس عقارب ساعة التاريخ للتأسيس لحكم استبدادي جديد، يقود معه بلاده نحو مأزق خطير، فمنذ انقلابه في 25 يوليو / تموز من العام الماضي، وهو يؤسّس لتثبيت سلطته المطلقة وسط أزمة اقتصادية خانقة، تتصف بركود اقتصاديً غير مسبوق، وارتفاع قياسي في نسبة التضخم، ومعدلات بطالة عالية.
مؤشّراتٌ سلبيةٌ تدفع سعيّد إلى المضي في التأسيس لدكتاتوريته غريبة الأطوار
ومثل كل الدكتاتوريات، يبرّر سعيّد إجراءاته الأحادية والاستبدادية برغبته في إنقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية التي ازدادت تفاقما منذ حيازته السلطة، ويعلق أسبابها على فشل الطبقة السياسية التي يريد أن يُقصيها من كل دور في الحياة السياسية المقبلة تحت حكم دكتاتوريته الجديدة.
لقد أظهر طوال الفترة السابقة من انقلابه ازدراءه كل مكونات الدولة الديمقراطية، همّش الأحزاب السياسية وقضى على التعدّدية، وقمع الصحافة، ومنع التظاهر، وسن قوانين طوارئ تمنحه احتكارا مطلقا للسلطة، واختزل رأي الشعب في استشارةٍ افتراضيةٍ عبر الإنترنت. ويجب انتظار أن يكشف لنا عن النسخة الجديدة من الدستور الذي يعكف على كتابته لتتضح جليا معالم ديكتاتوريته الجديدة، والتي لن تختلف كثيرا عن "جماهيرية" الدكتاتور الليبي السابق معمّر القذافي، لأن ما يجمع بين الرجلين في السلوك والأفكار أكثر مما يفرّق بينهما.
لقد استفاد سعيد، في التأسيس لسلطاته الاستبدادية، من صمت الغرب، أو عدم مبالاته بما يجري في تونس، ومن حالة التدهور العارمة التي يعيش على إيقاعها المحيط الإقليمي لبلاده والذي يشهد تنامي الأنظمة الاستبدادية وتقويتها وانتصار الثورات المضادّة، ومن التحوّلات الإستراتيجية الكبرى التي يتوقع أن تُحدثها الحرب في أوكرانيا، وبدأت تجلياتها الكبرى تظهر في المنطقة العربية من خلال التقارب بين الأنظمة العربية المضادّة لثورات الربيع العربي، مع إيران وتركيا، والتطبيع العربي المتسارع مع إسرائيل، والانسحاب التدريجي لأميركا من لعب أدوار أساسية في المنطقة العربية. وعلى المستوى الداخلي، يستغل الرئيس سعيّد حالة الأزمات الاجتماعية والصحية المستمرة، والنمو الاقتصادي البطيء، وانشغال الناس بالدرجة الأولى بمستوى معيشتهم المتدهور، وخوفهم من المخاطر المحدقة بحالة الاستقرار الهشّة التي تعيشها بلادهم في ظل حالة احتقان اجتماعي حادّ، تنبئ بانفجار الوضع في كل لحظة. تضاف إلى ذلك حالة التشرذم السياسي والمشاحنات المستمرة بين الفرقاء السياسيين والفاعلين المدنيين داخل البلاد.
إذا كانت التجربة الديمقراطية قد فشلت مؤقتا في تونس، فإن التأسيس لدكتاتورية جديدة سيكون مصيره الفشل المحتوم
كلها مؤشّراتٌ سلبيةٌ تدفع الرئيس سعيّد إلى المضي في التأسيس لدكتاتوريته غريبة الأطوار، واضعا نقطة النهاية لقصة نجاح تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، ومنهيا كل الأحلام الكبيرة التي بشّرت بها الثورة التونسية قبل 11 عاما. السبب الرئيس في كل ما تعيشه اليوم تونس من تردٍّ على جميع المستويات هو فشل تجربة عدالتها الانتقالية، وقد سبق أن فصل الكاتب في هذه النقطة في مقال سابق نشر في "العربي الجديد"، فكل التجارب الديمقراطية التي خرجت من رحم ثورات شعبية أو اجتماعية، أو نهضت على أنقاض أنظمة دكتاتورية، في إسبانيا وتشيلي وجنوب أفريقيا وبولونيا ودول عديدة في "الاتحاد السوفييتي" سابقا انبثقت من عدالة انتقالية حقيقية، عرفت كيف تدفن الماضي وتؤسس لتجارب جديدة أقامت قطيعة حقيقية مع كل ما سبقها. كما أن انصراف وعي الطبقة السياسية، التي سرعان ما نسيت حالة القمع التي كانت تعيش تحتها في عهد الدكتاتور المخلوع، وعدم استعجالها الإصلاحات السياسية والاقتصادية الهيكلية، واستغراقها في مناوشاتٍ سياسيةٍ عقيمة، تحولت، في بعض الأحيان، إلى مشاجرات بالأيدي داخل البرلمان وعلى بلاتوهات القنوات التلفزية، كلها عوامل نفّرت الناس من السياسة والسياسيين، ونمّت منسوب فقدان الثقة لدى شرائح واسعة داخل المجتمع التونسي من كل ما هو حزبي أو سياسي.
"كتلة الغضب" الشعبية هذه هي التي انتخبت الرئيس سعيّد، وهي التي خرجت تبارك انقلابه في يوليو/ تموز الماضي، وهي نفسُها التي يعوّل عليها لترسيم دكتاتوريته الجديدة في الاستفتاء المرتقب خلال أقل من ثلاثة أشهر. ولكن إذا أخلف سعيّد الوفاء بوعوده في محاربة الفساد، وفشل في تحقيق إصلاحاته الدستورية، وإيجاد حل للمشكلات الاقتصادية الهيكلية الأساسية، فإن "كتلة الغضب" التي دعمته بالأمس وتدعمه اليوم سوف تستعيد وعيها بعدما تكتشف أن خطابه المناصر للفقراء والمناهض للفساد استنفد كل شعاراته الشعبوية، وعندها سينقلب السحر على الساحر، وسيجد سعيّد نفسه أمام خيارين، إما الامتثال لرغبة رفض الشعب قراراته وإصلاحاته، أو الاستمرار في تسلٌّطِه وقمع معارضيه، ما سيعجّل من نضوج شروط ثورة تونسية جديدة، لأن أهم ما اكتسبه المجتمع التونسي خلال السنوات العشر الماضية هو جهاز مناعة قوي ضد الدكتاتوريات، بكل أنواعها وتحت كل المسمّيات المزيفة التي تروّج نفسها باسمها، وهذا ما لمسته خلال آخر زيارة لي لتونس قبل أقل من شهرين، فأغلب التونسيين الذين تحدّثت معهم يبدون غير منزعجين من زوال ديمقراطيتهم، ومقتنعين بقدرتهم على الحفاظ على أهم مكتسبات ثورتهم المتمثلة في حريتهم. فإذا كانت التجربة الديمقراطية قد فشلت مؤقتا في تونس، فإن التأسيس لدكتاتورية جديدة سيكون مصيره الفشل المحتوم، لأن سعيّد ينسى أن من جاء به إلى السلطة هو الديمقراطية التي يحاول الآن تهديم بنيانها من الداخل، للتأسيس لواحدة من أسوأ الدكتاتوريات وأفشلها في تاريخنا المعاصر، لأنها تخاف حتى الإعلان عن نفسها، فما بالك الدفاع عن وجودها!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق