بايدن يعبث بينما تحترق القدس
دافيد هيرست
حينما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، فإن الرئيس الأمريكي يتحول تدريجياً إلى نسخة طبق الأصل من ترامب..
بهدوء ودونما همس، تبدو سياسة الرئيس الأمريكي جو بايدن في الشرق الأوسط أقرب إلى تلك الحركة البهلوانية التي يسميها المشاركون في سباق السيارات لفة الفرامل اليدوية.
فهذا هو بايدن ينحرف بعيداً عن أجندته التي تعهد بها، ألا وهي إبرام صفقة النووي مع إيران، ويترنح باتجاه تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل، ذلك الجزء الذي لم يكتمل من اتفاقيات أبراهام التي تم التوصل إليها في عهد الرئيس دونالد ترامب.
بعد القيام بهذه الحركة البهلوانية، سوف يتعذر تمييز سياسة بايدن في الشرق الأوسط عن سياسة سلفه ترامب. صحيح أن قطر لن تكون تحت الحصار، ولكن إيران سوف تبقى خاضعة لأقصى العقوبات، وسوف يتركز اهتمام الولايات المتحدة على ارتباطات إسرائيل المتنامية مع دول المنطقة.
بكل ما اشتملت عليه من طموحات تجارية سافرة – دعماً للمستبدين غير الشرعيين مقابل الفوز بقطعه الفضية الثلاثين – سوف لن تغادرنا تركة ترامب في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من تنديده بالحاكم الفعلي في المملكة العربية السعودية، بل وبالمملكة السعودية نفسها باعتبارها دولة "منبوذة"، فيبدو أن بايدن حريص كل الحرص على الاستمرار في التعامل مع المنبوذين، سائراً على خطى ترامب كما تسير النعاج خلف راعيها.
وأوضح مؤشر على ذلك هو ما فعله بايدن بمسودة الاتفاق على إعادة الاعتبار للصفقة النووية مع إيران، والتي انسحب منها ترامب بشكل أحادي قبل أربعة أعوام. كانت نتيجة أحد عشر شهراً من المحادثات مع إدارتين إيرانيتين متعاقبتين أن تخرج الولايات المتحدة في نهاية مارس/ آذار بما وصفه متحدث باسم الخارجية الأمريكية بالعدد الصغير من القضايا العالقة.
منذ ذلك الوقت ورئيس فريق المفاوضات الأمريكي بوب مالي يتعرض للتنديد في وسائل الإعلام الأمريكية التي وصفته بالمتساهل جداً مع إيران. بل ما كان من بايدن إلا أن قطع الطريق على مقترحه برفع اسم الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية، وبدت الصفقة بأسرها متجهة نحو المجهول.
في آخر تصريح علني له، قال مالي إن فرص التوصل إلى صفقة باتت في أحسن أحوالها ضعيفة. أما فيما وراء الكواليس، فيعرب مالي عن شعوره بالإحباط – ولا يعني ذلك بحال أن كل ذلك الإحساس بالإحباط موجه نحو إيران.
إشارات متضاربة
تسود الحيرة الجانب الإيراني، وذلك أن قضية التصنيف كمنظمة إرهابية أجنبية هي العنصر الحاسم في الصفقة. يكاد هذا التصنيف يكون بلاغياً لا أكثر، ولن يؤثر اتخاذ قرار برفعه في العقوبات التي تفرضها الخزانة الأمريكية على الحرس الثوري الإيراني، والتي ستستمر على حالها. ولكن هذه ليست القضية الوحيدة. فالجانب الأمريكي ما فتئ يتقلب ويرسل إشارات متناقضة في ما يخص القضيتين الأهم في هذه الصفقة: التحقق ورفع العقوبات.
دعونا نكون واضحين: لو تم إبرام هذه الصفقة فإن إيران ستكون قد وافقت بموجبها على شحن جميع ما لديها تقريباً من يورانيوم مشبع بنسبة ستين بالمائة إلى خارج البلاد مقابل الكعكة الروسية الصفراء.
فجأة توقف الجميع عن الحديث عن ذلك. لم يعد أحد يتكلم عن قدرة إيران على التوصل إلى "اختراق نووي"، والتي قيل لنا إنه قد يتحقق خلال أيام. لو كانت الغاية الحقيقية هي منع إيران من امتلاك القدرة على إنتاج قنبلة نووية، فها هي الولايات المتحدة تنسحب من صفقة ثبت أنها هي التي من شأنها أن تحرم إيران من امتلاك القدرة على تحقيق ذلك.
لو كانت الولايات المتحدة وإسرائيل قلقتين بالفعل، كما تدعيان، بشأن فرص إيران في إنتاج قنبلة نووية، وما سيتمخض عن ذلك من انتشار للسلاح النووي في منطقة الخليج، فلماذا إذن ينسحب أحد الأطراف من الصفقة بينما تشيد الأطراف الأخرى بما يفعله؟
بالمناسبة، نشر الصحفي المطلع جيداً باراك رافيد خبراً مفاده أن أحد كبار ضباط الجيش الإسرائيلي، اللواء المتقاعد درور شالوم، أخبر المسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية أثناء زيارة أخيرة إن الولايات المتحدة أخطأت حينما انسحبت من الصفقة مع إيران في عام 2018، مبيناً أن هذا الانسحاب قرب إيران أكثر فأكثر من إنتاج السلاح النووي.
لو اتبعت هذا المنطق، فلم ترغب في توقيع الصفقة كما هي عليه الآن؟
بالطبع، يمكن للإيرانيين أن يقولوا إن برنامجهم للتخصيب النووي كان دوماً حجة تذرع بها الغرب لفرض العقوبات، وذلك أن الغاية الحقيقية من تلك العقوبات هو إحداث تغيير في النظام داخل إيران – ولا أعتقد، بناء على هذا الدليل، أنهم مخطئون فيما يذهبون إليه.
جزيرتان غير مأهولتين
إلا أن الصفقة التي وضعت على الرف ليست العلامة الوحيدة على التغير في سياسة بايدن. بل لقد دخل مسؤولوه على قضية انتقال ملكية جزيرتين غير مأهولتين، تحتلان موقعاً استراتيجياً، من مصر إلى المملكة العربية السعودية.
عندما قررت مصر قبل خمسة أعوام نقل ملكية جزيرتين في البحر الأحمر متنازع عليهما، تيران وصنافير، إلى المملكة العربية السعودية، اشتعلت الاحتجاجات في القاهرة. فقد أسخطت تلك الحركة المصريين، الذين رأوا في الصفقة تنازلاً للمملكة مقابل استمرارها في تقديم الدعم المالي لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي المفلس.
في البداية لم يكن للأمريكان يد في الموضوع. أما الآن فهم ضالعون فيه، وليس أي أمريكان، وإنما مسؤول واحد بعينه: إنه بريت ماكغيرك، منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا، والذي حسبما يصفه الناس الذين يعرفونه جيداً ويعملون معه "يضرم النار بالبيت ثم يظهر وبيده خرطوم المياه لإطفاء الحريق". يقال بأن ماكغيرك يقود محادثات سرية بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر بشأن نقل ملكية الجزيرتين.
تتحكم تيران وصنافير بمضيق تيران، وهو ممر مائي حيوي يفضي إلى ميناء العقبة في الأردن وميناء إيلات في إسرائيل. تم نزع السلاح من الجزيرتين بموجب معاهدة السلام التي أبرمت في عام 1979 بين إسرائيل ومصر، والتي تمنح إسرائيل صلاحية البت في العمل المستمر لقوة حفظ سلام متعددة الجنسيات مهمتها مراقبة الجزيرتين لضمان بقاء الممر المائي مفتوحاً.
يقال إن إسرائيل لديها شروطها الخاصة بها، فهي تريد من المملكة العربية السعودية السماح لخطوط الطيران الإسرائيلية بالعبور من الأجواء السعودية لاختصار رحلاتها الجوية إلى الهند وتايلاند والصين، وكذلك السماح برحلات جوية مباشرة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية لنقل الحجاج المسلمين إلى كل من مكة والمدينة.
يدفع كل ذلك بشكل متسارع في اتجاه تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، وهي الجوهرة المفقودة من تاج اتفاقيات أبراهام.
تهميش الفلسطينيين
كما بات معلوماً الآن، كان ولي العهد السعودي، والملك القادم، محمد بن سلمان، قد حدد التطبيع غاية أولى في سياسته الخارجية.
وكان السبيل الذي انتهجه الأمير الشاب من أجل كسب اعتراف البيت الأبيض به وبناء علاقة مع عائلة ترامب هو التودد لرئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك بنيامين نتنياهو في لقاءات سرية جمعتهما.
إلا أن والده، الملك سلمان، مازال قابضاً على مبادرة السلام العربية التي تقدمت بها المملكة العربية السعودية قبل أكثر من عقدين وماتزال تفاخر بها ، وهي المبادرة التي تتعهد باعتراف عربي بإسرائيل ولكن شريطة أن تتوصل إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين.
كانت تلك آخر فرصة جادة للتوصل إلى صفقة سلام إقليمية، إلا أن إسرائيل تجاهلتها حينذاك، ثم جاءت اتفاقيات أبراهام لتقلب المبدأ رأساً على عقب، من خلال تهميش الفلسطينيين، الذين لم يعد لمصيرهم أي اعتبار في الصفقات التي أبرمت مع إسرائيل من قبل كل من الإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين والمغرب.
ها هو بايدن، الذي بدأ عهد إدارته بترديد ما كان لدى الملك سلمان من مخاوف تجاه اتفاقيات أبراهام، يبدي وبشكل متزايد رغبة في عناق غير مقدس يحتضن من خلاله نجله محمد بن سلمان. من غير المحتمل أن ينجح ذلك، فمازالت المملكة العربية السعودية تصر على بقاء روسيا شريكة في ترؤس تحالف أوبيك زائد، كما أن محمد بن سلمان لن يفوت فرصة لاحت أمامه لإبقاء بايدن معلقاً.
بالطبع، سوف يقوم بايدن خلال زيارته القادمة إلى إسرائيل والخليج بممارسة الشعائر المتعارف عليها، ومنها الاجتماع بالرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي مازال يرفض التقاعد أو السماح للفلسطينيين بإجراء انتخابات حرة.
إلا أن الغاية الحقيقية لتلك الزيارة ليست الحفاظ على خرافة أنه بالإمكان إعادة إطلاق المباحثات بين قيادة فلسطينية ميتة ومؤسسة سياسية إسرائيلية ترفض حتى تصور إمكانية قيام دولة فلسطينية في القلب من دولة يهودية تتحكم بالحيز الواقع بين النهر والبحر.
إن الهدف من الجولة هو الدفع باتجاه تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل.
الهوة الآخذة في الاتساع
لم يحدث من قبل أن كانت الهوة بهذا الاتساع بين هذا النمط من الحنكة السياسية والواقع في الميدان. لا يمنح حق إبداء الرأي لأي سعودي أو فلسطيني أو مصري في الصفقات التي تبرم من فوق رؤوسهم، والتي سيكون لها أعمق الأثر في حياتهم – لأنهم لو منحوا ذلك لكان مصير زعمائهم مثل مصير معمر القذافي الذي أعدم على يد الرعاع.
خلال الشهور الأخيرة، قتل 14 إسرائيلياً على يد مهاجمين لا يرتبطون بأي من المجموعات الفلسطينية المسلحة ولا يوجد ما يربط الواحد منهم بالآخر. وهذا عدد يفوق عدد من ماتوا بسبب الصواريخ التي أطلقتها حماس بعد أن هاجمت إسرائيل قطاع غزة في العام الماضي.
الواقع بالنسبة للجيل الجديد من الفلسطينيين لا يتعلق بأي زعيم سيصوتون له ولا بما يعلقونه من آمال على قدرة هذا الزعيم ضمان قيام دولة فلسطينية.
ولا يعني شيئاً بالنسبة لهم تعيين مسؤول كبير في حركة فتح مثل حسين الشيخ خليفة محتملاً لمحمود عباس. فمؤهلات حسين الشيخ للوصول إلى السلطة – أنه كان وزيراً مكلفاً بالتنسيق الأمني مع إسرائيل – هي نفسها السبب الذي من أجله يستحيل أن يحصل على ثقة الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
إن الخيار الوحيد الذي بقي لديهم هو أي شكل من المقاومة سوف يمارسونه ضد الاحتلال، إذ لم يعد لديهم أمل في الحصول على التحرير بأي وسيلة أخرى، ولذلك فخيارهم هو واحد من اثنين لا ثالث لهما: إما الموت الآن بسرعة في هجمات تشن على المستوطنين، أو الجنود أو المدنيين، الإسرائيليين أو الموت ببطء تحت نير الاحتلال.
لا تملك لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة ولا أي دولة عربية جواباً لهم. فأن تعد تقريراً عن الصراع، كما كانت تفعل شيرين أبو عاقلة لصالح الجزيرة، يعني التعرض للقتل على يد قناص إسرائيلي، وهي الجريمة التي تسعى الجزيرة حالياً لإحالتها إلى محكمة الجنايات الدولية باعتبارها جريمة حرب.
وأن تسير في جنازتها وأن تشيعها إلى مثواها الأخير يعني أن تتعرض للضرب وإطلاق الرصاص على يد قوات الشرطة الإسرائيلية. وأن ترفع العلم الإسرائيلي يعني منح رخصة لاستخدام القوة الفتاكة من قبل من يحظون بحراسة قوات الشرطة الإسرائيلية أثناء تنظيمهم مسيرات داخل الأحياء الفلسطينية وهم يرفعون الأعلام الإسرائيلية.
عندما طلب منه تحديداً التنديد باعتداء الشرطة الإسرائيلية على حاملي النعش، أعطى بايدن جواباً يشبه ما كان يصدر عن ترامب من إجابات، حيث قال: "لا أعرف كل التفاصيل، ولكني أعرف أنه ينبغي التحقيق في الأمر."
قنبلة أكثر قوة
عندما ووجه ترامب بالدليل على أن وليه محمد بن سلمان هو الذي أمر بقتل الصحفي جمال خاشقجي صدر عنه شيء مشابه، حيث قال: "من المحتمل أن ولي العهد كان على علم بهذا الحادث المأساوي – لربما عرف ولربما لم يعرف! وقد لا نتمكن بتاتاً من معرفة جميع الحقائق المحيطة بجريمة قتل جمال خاشقجي."
كلا الرئيسين الأمريكيين يتعمدان بشكل دائم الإشاحة بعيداً ببصرهما من أجل الحفاظ على التحالف مع أقل القوى استقراراً في الشرق الأوسط: إسرائيل والمملكة العربية السعودية. ولكن إلى متى يا ترى سيتمكن بايدن من الإشاحة بعيداً ببصره عن الأحداث التي توشك أن تقع في القدس؟
سوف تندفع يوم الأحد مسيرة الأعلام الإسرائيلية عبر الحي المسلم من البلدة القديمة، فيما يعرف بيوم مسيرة الأعلام في القدس. وهي نفس المسيرة التي أشعلت في العام الماضي فتيل الحرب مع غزة والاشتباكات بين عصابات المستوطنين المسلحين والفلسطينيين في المدن المختلطة في كل أرجاء إسرائيل ونجم عنها قتل 232 فلسطينياً، بما في ذلك 54 قاصراً و 38 امرأة.
للقدس تاريخ طويل في إشعال فتيل الحروب، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الحروب الصليبية وحرب القرم. إن إجراءات مثل تهويد القدس الشرقية المحتلة، وما بات الآن مداهمات أسبوعية تقوم بها الشرطة الإسرائيلية داخل المسجد الأقصى، والمطالبات بتفكيك قبة الصخرة، والاعتداءات على الفلسطينيين الذين يلوحون بعلمهم الوطني – كل ذلك يجعل من المدينة قنبلة أخطر بكثير من برنامج التخصيب النووي الإيراني.
أضف إلى ذلك أن قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وما تبعه من رفض إدارة بايدن الوفاء بوعدها بإعادة فتح القنصلية للفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة، يفقد واشنطن القدرة على تقييد إسرائيل ومنعها من المضي قدمها فيما تخطط لفعله في المدينة.
لقد أخذت السياسة الخارجية الأمريكية على حين غرة مرات عديدة خلال العقود الثلاثة الماضية. فقد فوجئت الولايات المتحدة بنتائج غزوها للعراق، وفوجئت بالانهيار السريع في كابول بعد بذل كل الوقت والمال الذي أنفق في سبيل ترويضها، وفوجئت بغزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا.
إلا أنك لن تجد عاقلاً يزعم بأنه سوف يفاجأ باندلاع انتفاضة ثالثة حول القدس، وما ينبغي أن يفاجئ ذلك إدارة بايدن.
ستة عشر شهراً كانت المدة التي احتاجها بايدن حتى يتحول إلى ترامب آخر في الشرق الأوسط. ولو كان نيرو حياً اليوم لتبسم ضاحكاً وهو يرى بايدن يعبث بينما تضرم النيران في القدس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق