الجمعة، 27 مايو 2022

أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا

 أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا

علي فريد الهاشمي


يقولون أقوالاً ولا يفهمونها
وإن قيل: هاتوا حققوا لم يُحققوا

كتب الأستاذ (القره داغي) كلاماً طويلاً عريضاً (تَمَحَّكَ) فيه بالأصل اللغوي لمصطلح (شهيد)؛ لِيُحَلِّلَ- بذلك التَّمَحُّك- ما يبدو أنَّ ضغطَ الواقعِ قد أجبره على تحليله!!
وقد كنتُ قلتُ من قبل:" في كلِّ شَيخِ فِقهٍ تَعْرِفُه درويشٌ لا تَعْرِفُه؛ يَخْدَعُهُ العَلمانِيوُّنَ عن عقله؛ فَيَظُنُّ إِسْقاطَهُمْ للأصولِ اختلافاً في الفروع؛ فيعاملهم معاملةَ المجتهدِ المُخْطِئِ بَدَلاً مِنْ مُعَامَلةِ المُنافِقِ المُبْطِل، فتكون الفتنةُ بِغفلتهِ أَشدَّ على الناسِ من الفتنةِ بنفاقِهِم.. وَمَن لكَ بالفقيهِ الفقيه!!"
وأظنُّ أنَّ الأمرَّ الآن قد تعدى الغفلة والدروشة إلى التحريف المتعمد بجهلٍ أو بعلم.. والظنُّ- وإن كان أكذب الحديث- إلا أنَّ البعرة تَدُلُّ على البعير كما أنَّ الأثر يدل على المسير!!
وقد هالني تَهليلُ بعض المقاصديين المعاصرين من شيوخ جماعة الإخوان المسلمين لذلك التَّمَحُّك، كما هالني تَهليلُ بعض صبيانهم له أيضاً.. وكنتُ أظنُّ- وبعض الظن إثمٌ أيضاً- أنَّ غالب صبيان الجماعة يختلفون عن غالب شيوخها، فإذا هُمْ هُمْ، أو فإذا هُمْ إياهم؛ (وسيبويه- رحمه الله- أصدق، وغفر الله للكسائي، والمعنى في بَطْنَيِ العقربِ والزنبور)!!
والمَقَاصِديُّون المعاصرون- كما قلتُ من قبل أيضاً- قومٌ ظرفاء؛ تضخمت في أنفسهم- بضغط الواقع- مقاصدُ الشريعة حتى أصبحت المقاصدُ في ذاتها شريعةً خارج الشريعة، وصاروا كأنهم يحفظون(الدينَ) بالكفر، و(النفسَ) بالقتل، و(العقلَ) بالشبهات، و(العِرضَ) بالشهوات، و(المالَ) بالربا.. لقد هدموا البيت وتواصوا بالمفاتيح!!"
***
أراد الأستاذ (القره داغي) الوقوف بمصطلحي (الشهيد والشهادة) عند معناهما اللغوي فقط؛ ليسهل- بعد ذلك- إلباسُهما أو تَلبيسُهُمَا لأيِّ أحدٍ مسلماً كان أو كافراً؛ غير عابئ بالحمولات الشرعية التي ثَبَتَ بها المصطلح حين تَرَحَّل من اللغة إلى الدين، والتي يعرف العَالم والجاهل والصغير والكبير أنها لا يجوز صرفها إلى غير المسلمين؛ بل لا يجوز صرفها إلى المسلمين أصلاً صرفاً جازماً غير مُعَلَّقٍ بالمشيئة!!
والتعامل اللغوي مع المصطلحات الدينية- بهذه الطريقة (القُردَاغِيَّة) مزلقٌ خطيرٌ قد يؤدي- مع الزمن- إلى إسقاط الدين كله، أو تفريغ المصطلحات الدينية من معانيها المقدسةِ التي أنتجت أحكاماً شرعيةً ثابتة، والاكتفاء بالمعاني اللغوية العارية من الأحكام الشرعية!!
ودونكم هذه الأمثلة فتمثلوها لتفهموا المُراد:
الصلاة لغةً: الدعاء.. قال الأعشى يصف الخمر:
وصَهْباءَ طافَ يَهُودِيُّها.... وأَبْرَزَها وعليها خَتَمْ
وقابَلَها الرِّيحُ في دَنِّها.... و(صَلَّى) على دَنِّها وارْتَسَمْ
أي: دعا لها أَن لا تَحْمَضَ ولا تفسُدَ..
فهل سمعتم من قبل أحداً يقول: سأذهب (لدعاء) العصر، أو (لدعاء المغرب)؛ وهو يقصد: لصلاة العصر أو لصلاة المغرب؟!
الزكاة لغةً هي: النماء، والزيادة، والطهارة، والتطهير.. قال الشاعر:
والمالُ (يَزْكو) بك مُسْتَكْبراً.... يَخْتال قد أَشرق للناظرِ
أي: يليق بك أو يطهر بك..
فهل سمعتم من قبل أحداً يقول: سأذهب لأدفع النماء، أو أدفع الزيادة أو أدفع الطهارة؛ وهو يقصد دفع الزكاة؟! وهل رأيتم أحداً من أهلكم دخل بيت الخلاء في منزله بقصد الاستحمام والتطهر، وهو يقول: سأذهب لأتزكى؟!
الصوم لغةً هو: الإمساك، والترك، والوقوف، والصمت، وركود الريح، واستواء الشمس عند انتصاف النهار.. ومعانٍ أخرى كثيرة؛ لكل معنى منها دليلٌ من نثر العرب أو شعرهم؛ مثل قول النابغة عن الخيل:
خيلٌ (صيامٌ) وخيلٌ غير صائمة... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي: قائمة، أو متوقفة عن العلف.. وقول امرئ القيس:
فدَعْها، وسَلِّ الهَمَّ عنْكَ بِجَسْرةٍ.... ذَمُولٍ، إذا (صَامَ) النهارُ وهَجَّرا
أي: إذا اعتدل النهار.. فهل سمعتم أحداً يقول: سأترك غداً، أو سأتوقف غداً، أو سأركد غداً، أو سأستوى غداً، أو سأعتدل غداً.. وهو يقصد الصوم؟!
الحج والعمرة لغةً: القصد والزيارة.. قال المخبل السعدي:
وأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثِيرةً.... (يَحُجُّونَ) سِبَّ الزِّبْرِقانِ المُزَعْفَرا
أَي: يَقْصِدُونه ويزورونه.. وقال أَعشى باهلة:
وجاشَت النَّفْسُ لَمَّا جاءَ فَلُهمُ... وراكِبٌ جاء من تَثْلِيثَ (مُعْتَمِرُ)
أي زائر.. كما أنَّ من معاني العمرة لغوياً- بحسب ابن الأعرابي-: أَنْ يَبْنِيَ الرجلُ بامرأَته في أَهلها، فإِن نقلها إِلى أَهله فذلك العُرْس".. فهل قال لك صديقك يوماً: سأحج إليك الليلة، أو سأعتمر إليك الليلة؛ وهو يقصد زيارتك؟! وهل عاتبتَ صديقاً لكَ على عدم دعوتك لعرسه؛ فتعلل بأنه تزوج في بلد زوجته، وقال: اعتمرت؟!
***
استخدام اللغة بهذه الطريقة ليس له سوى مسمى واحد؛: (الاستهبال).. والاستهبال أخفُّ كلمةٍ يمكن أن تقال في هذا السياق!!
تخيل أن تدخل مسجداً لتصلي فتجد صفاً قائماً يؤدي الصلاة المعروفة، وتجد وراء الصف (فذلوكاً) جالساً رافعاً يديه بهيئة الدعاء معتبراً أنه يُصلِّي!!
تخيل أيضاً أن تدخل مطعماً فتحتاج إلى غسل يديك فتذهب إلى المغسلة لتجد لوحة على باب المغسلة مكتوب فيها: (بيت الزكاة)!!
بهذه الطريقة لن يسقط الدين فقط؛ بل سيسقط المجتمع كله؛ إذِ اللغةُ مجموعة اصطلاحاتٍ لفظية لمعانٍ متخيلة، اصطلح عليها الناس فاستخدموها بغرض التفاهم والتعارف.. والانتقال بين المعاني اللغوية المتعددة للفظ الواحد في وقتٍ واحد دون قرينة أو سياق؛ سيُسقط أسسَ الاجتماع الإنساني كله.. وما أكثر ما قرأنا في مذكرات الساسة العرب- إنْ كان ثمة ساسة عرب- عن معاهداتهم أو مفاوضاتهم المخزية مع اليهود تحديداً، وتلاعب اليهود بالألفاظ والمصطلحات، وتفسيرهم لها على غير وجهها المتعارف عليه؛ طلباً للغدر والتملص من الاتفاقات السابقة، أو تمهيداً للغدر والتملص من الاتفاقات اللاحقة.. فكأنَّ هذ التَلعُّبَ بالألفاظ طَبْعٌ يهودي لم يقتصر على أصحاب السبت الذين تلعبوا بالسبت، ولا على الذين قيل لهم:" وقولوا حِطَّة"؛ فقالوا: حنطة.. بل كُلُّ مَن تلبس به تلبسه من صفات اليهود بقدر ما تلبس به!!
ولعل كثيراً من القراء قرأ بعضَ تَلَعُّبِ مَن يسمون أنفسهم (دكاترة) في آية قطع السارق، أو آية ضرب الناشز بعد الموعظة والهجر.. فقد تسافه هؤلاء حول الآيتين وغيرهما حتى فسروا الآية الأولى لغوياً- وبالقرآن أيضاً- بجرح اليد فقط لا فصل الكف كاملاً؛ معتمدين- استهبالاً- على قوله تعالى عن نسوة يوسف (وقَطَّعْنَ أيديَهُنَّ) أي جرحن أيديهن.. كما فسروا الآية الثانية لغوياً- وبالقرآن أيضاً- بالابتعاد أو السفر أو الارتحال عن الزوجة الناشز؛ معتمدين- استهبالاً أيضاً- على قوله تعالى:" وآخرون (يضربون) في الأرض يبتغون من فضل الله"؛ أي يرتحلون في طلب الرزق!!
وقد كنتُ- ولا زلتُ- أقرأ هذا وأمثاله فأضرب عنه صفحاً معتبراً أنَّ ضغط الواقع يعمل في عقل الإنسان عَمَلَ الخمرة في عقل شاربها؛ فيُخرج منه أخزى ما فيه حتى يتركه عارياً بين الناس غير عابئ ببشاعة عُرْيِهْ.. وأبشعُ العُريِ العُريُ مِن العقل!!
***
حين تقرأ قوله تعالى: إنَّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً"؛ لن يخطر في بالك سوى هيئة الصلاة المعروفة.. وحين تقرأ قوله تعالى: "إن الله وملائكته يصلون على النبي"، أو قوله تعالى:" وصلِّ عليهم إنَّ صلاتك سًكنٌ لهم"؛ محالٌ أن تخطر في بالك هيئة الصلاة المعروفة.. ستفهم معنى صلاةِ الله وملائكتِه على نبيه، وصلاةِ نبيه على المؤمنين؛ على وجه غير الوجه الذي تفهم به معنى الصلاة المعروفة.. القرينة المتخيلة هنا، أو المدسوسة في السياق؛ أحالت المعنى المتعارف عليه في ذهنك إلى معنى آخر متعارف عليه في ذهنك أيضاً!!
وحين تقرأ قوله تعالى:" ويتخذ منكم شهداء" لن يتبادر إلى ذهنك إلا معنى القتل في سبيل الله، بخلاف المعنى الذي ستفهمه حين تقرأ قوله تعالى:" وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس.."؛ فلن يتبادر إلى ذهنك معنى القتل في سبيل الله أبداً.. تماماً كما تقرأ قوله تعالى في سياق آية الدَّيْن:" ولا يُضَارَّ كاتبٌ ولا شهيد"؛ فتفهم معنى كلمة (شهيد) هنا على غير المعنى الموجود في قوله تعالى:" والله شهيدٌ على ما تعملون"!!
ما أكتبه الآن معلومٌ من العقل بالضرورة؛ يفهمه العالم والجاهل والصغير والكبير؛ بيد أننا في زمنٍ دُفعنا فيه دفعاً إلى توضيح الواضحات وتبيين البينات.. وما أسوأ ما دَفَعَنَا إليه زَمَنُنَا!!
***
اترك المصطلحات الدينية جانباً وفكر في المصطلحات العامة التي تستخدمها في حياتك الاجتماعية.. في دراستك أو تجارتك أو صناعتك أو زراعتك أو ثقافتك، أو بين أهلك وأصدقائك.. هل فكرت يوماً كيف انتقل مصطلحٌ بعينه من لفظةٍ لغويةٍ صماء أو موحية لمعنى غير المعنى الذي اصطلح عليه المجتمع؛ إلى المعنى الذي اصطلح عليه المجتمع؟!
خذ مثلاً كلمة (ثقافة) وانظر في المعاجم عن معناها اللغوي الأول؛ ستجدُ مِن معانيها معنى الحذق والمهارة- وهو معنى قريب من معناها الاصطلاحي الآن-، كما ستجد من معانيها معاني الخفة، والظفر، والعمل بالسيف، والآلة التي تُقَوَّمُ بها الرماح.. ومِن معنى الظفر قوله تعالى:" فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم"؛ أي إذا ظفرت بهم فشرد بهم مَن خلفهم.
فالمصطلح الذي تراه أمامك كاملاً متكاملاً الآن، وتستخدمه بداهةً- غير عالمٍ أو غير عابئ بمعناه الأصلي أو معانيه المتعددة-؛ شَدَّ رِحَالَهُ مِن مُرَبَّعٍ خاصٍ في اللغة إلى مُربع خاصٍ آخر-؛ معتمداً على قرينةٍ في مربعه الأول تُشَابِهُ طبيعةَ مُرَبَّعِهِ الثاني.. والقرينة التي دفعت الناس لاشتقاق كلمة (ثقافة) من الفعل (ثَقُفَ) هي قرينة الحِذق في عمل اليد، أو قرينة الاعتدال والتقويم في الرمح، أو قرينة الملاعبة بالسيف؛ والتي تُسمى (مثاقفة).. وعلى المثاقفة العقلية والعلمية- أخذاً وَرَدَّاً- تقوم الثقافة!!
فهذه كلها قرائن استدعت صَكَّ مصطلحٍ من جذرٍ لغوي خاص ليُرْحَلَ به إلى فضاء آخر من فضاءات الاجتماع؛ سياسياً ودينياً وتجارياً وصناعياً وزراعياً.. وما شئت بعد ذلك من مجالات الحياة؛ بسبب تلك القرينة المدسوسة في معناه الأول؛ والتي توافق أو تُشَابِهُ معناه الاصطلاحي الجديد!!
هل هذه هي نهاية رحلة المصطلح؟!
كلا.. فالمصطلح حين يَحُلُّ مستقراً في مربعه الثاني؛ يكتسب صفاتِ ذلك المربع كُلَّهَا، وَيَحملُ حُمولاتِه كُلَّهَا، ويختزلُ أحكامَه كُلَّهَا، ويُكَثِّفُ أفكارَه كُلَّهَا.. فهو تكثيفٌ لفظيٌ لصفاتٍ ومعانٍ وأفكارٍ وأحكامٍ خاصة- دينية كانت أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية- يُعَبِّرُ به أصحابُه عن تلك الصفات والمعاني والحمولات والأفكار والأحكام؛ دون حاجةٍ لشرح تلك المعاني والأفكار؛ لنيابة المصطلح عنهم في شرحها أو تكثيفها أو اختصارها.
فإذا حدث هذا- وهو ما يحدث دائماً- فقد ثبت المصطلح.. وإذا ثبت المصطلح فلا يجوز العبث به؛ إذ لو عُبث به لسقط بفروعه!!
لا يجوز العودة به إلى معناه اللغوي المجرد، كما لا يجوز تحوير معناه الجديد دون سياق، كما لا يجوز صرفه إلى معنى من معانيه اللغوية الأخرى؛ خاصةً إذا كان السياقُ سِياقَ معناه الخاص الذي ثبت به مُرَبَّعُهُ الجديد، وَكَثَّفَ هو- بحروفه- أفكارَ مُرَبَّعِهِ الجديد!!
إذا قلتُ لك: (كَتَبَ محمدٌ القِربَة)؛ فإنه لن يتبادر إلى ذهنك- غالباً- إلا أن محمداً أمسك ورقةً وقلماً وكتب كلمة (القِربَة)..
ورغم صواب ما تبادر إلى ذهنك إلا أنه ليس هو المراد.. فالكَتْبَ لغوياً- بسكون التاء- هو الجمع والضم؛ وكتْبُ القِربة هنا يعني جَمْعُهَا وضَمُّهَا، أو ضَمُّ فِيْهَا كي لا يقطر ما فيها، أو خياطة فِيهَا بِسَيْرَيْن لإحكامِ غلقها وشَدِّهَا.. وبه سُميت الكتيبة (كتيبة)؛ إذ هي قطعةٌ من الخيل، أو جماعة من الجيش مضمومة إلى بعضها على هيئة معينة، و(الكُتْبَة) هي السَّيْر الذي تُخرز به القربة.. ومن ذلك ونحوه جاء معنى (الكتابة)؛ لأنها جمعٌ للحروف والكلمات والجُمل وضمٌ لبعضها إلى بعض في رق واحد أو كتاب واحد!!
حين أُخبركَ بهذا المعنى ستعرف أني تَلعبتُ بك- حاشاكَ وحاشاني- حين استخدمتُ الجذر (كَتَبَ) بمعناه الأول أو بمعناه الآخر وأنتَ فارغ الذهن منه، أو ممتلئ الذهن بالمعنى المتعارف عليه لـلجذر (كَتَبَ)..
الآن.. ماذا فعل في عقلك هذا التلعب؟!
والجواب: لقد أنتج هذا التلعب سقوطاً كاملاً لكل الحمولات العقلية المتعارف عليها للجذر (كَتَبَ) ومشتقاته، مثل: كتابةٍ، وكتاب، ومكتبة، ومكتب، ومكتوب، وكاتب.. لقد سقط كل هذا في ذهنك مرةً واحدة، ليثبت فيه معنى آخر قريبٌ لمعنى الجذر (خَاطَ) ومشتقاته، مثل: خياطةٍ وخَيَّاطٍ ومَخيطٍ، وخيط، وخائط، وأخياط وخيوطة!!
ما الذي سيحدث لك حين تجد لوحةً على دكانٍ مكتوب فيها:(محل كتابة رجالي) لتكتشف أن صاحب الدكان خَيَّاط (فذلوك) عرف أنَّ (كَتَبَ) يمكن أن تحمل معنى (خَاط)؛ فاستخدم كلمة (كتابة) التي اصطلح عليها الناس لعمل معروف؛ ليعبر بها عن معنى (الخياطة) التي اصطلح الناس عليها لعملٍ معروفٍ أيضاً، ثم زاد الطين بلة فسَّمى الإبرة التي يخيط بها (قلماً)- بقرينة الغرز إذ القلم يغرز الورق-، وسمى ماكينة الخياطة (مَقْلَمَة)؟! وما دامت اللغة تحتمل ذلك فلا يحق لأحدٍ الاعتراض على ذلك؛ لأنه- وببساطة شديدة-: (مفيش حَدّ أحسن من حَد)!!
وأنا أسأل العقلاء من القراء:
هل يمكن أن يقوم مجتمعٌ إنساني على هذا وأمثاله؟!
هل يمكن أن يتعايش الناسُ فيما بينهم، أو يتعارفوا بهذا وأمثاله؟!
هل يمكن أن يقوم دين أو سياسة أو تجارة أو صناعة أو زراعة أو حياةٌ أصلاً إذا جاز على العقول هذا وأمثاله؟!
***
ما فعله الأستاذ (القره داغي) قريبٌ جداً مما فعله ذلك الخياط الفذلوك!!
مصطلحُ (شهيد) مصطلحٌ ديني خاص، يحمل حُمولاتٍ خاصة، وله أحكام دنيوية وأُخرويًّة خاصة، ولا يقال إلا في سياقاتٍ خاصة.. وهو في الإسلام خاصٌ بأنواع معروفة؛ أعلاها شرفاً المقتول في سبيل الله، بالإضافة إلى الأنواع الخمسة أو السبعة الأخرى التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كالمبطون والغريق والمرأة تموت بجنينها.. إلى آخره!!
حين تأخذ هذا المصطلح وتُعيده إلى أصله اللغوي، أو تخلط بينه وبين مصطلح آخر قريب من معناه اللغوي، ثم تَسْحبه- بحسب ذلك الأصل- على سيدة غير مسلمة أصلاً، ولا تؤمن بكل تلك الحمولات الإسلامية التي يحملها مصطلح (شهيد)؛ فأنت بذلك تُسقط في عقول المسلمين كُل تلك الحمولات والأحكام والأفكار التي يحملها هذا المصطلح!!
هل هذه السيدة النصرانية سَتُكَفَّنُ في ثيابها دون غسل؟! وهل سيُغفر لها مع أول دفقة من دمها، وترى مقعدها من الجنة، وتُجار من عذاب القبر، وتأمن مِن الفزعِ الأكبر؟! ويوضع على رأسها تاج الوقار يوم القيامة؟! وتشفع في سبعين من أهلها؟!
هل هذه السيدة النصرانية ستكون روحها في حواصل طير خضرٍ تسرح في الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش؟!
كل هذا- وغيره- من أحكام الشهيد في الإسلام.. فهل ستحصل هذه السيدة النصرانية على كل هذا، وهي غير مؤمنة بكلِّ هذا أصلاً؟!
حين نحكم على هذه السيدة بالشهادة فنحن نعطيها كل هذه الأحكام التي لا يجوز لنا أن نحكم بها لمسلم مُعَيَّنٍ؛ فضلاً عن نصراني أو يهودي..
لا يجوز لمسلمٍ كائناً من كان- بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم- أن يحكم لمسلمٍ آخر بالشهادة دون أن يُعَلِّقَ حكمه بمشيئة الله.. فكيف بغير المسلم الذي تأبى عليه مِلَّتُه- إن كان ملتزماً بها- أن يوافق على إطلاق مسميات الملل الأخرى عليه دنيوياً أو أُخروياً!!
ما زاد عمل القره داغي- وهو الذي يُسَوَّقُ للناسِ عَالِماً وفقيهاً- عن إسقاط هذه الأحكام كلها في عقول المسلمين، أو خلخلتها بعد ثباتها؛ لأنه استخدم مصطلحاً ثابت الحمولات والأفكار على غير وجهه، وفي غير وجهه!!
الاستسهال يؤدي غالباً إلى الاستهبال.. وعواقب الاستهبال في الدين وخيمةٌ جداً؛ خاصةً إذا خرجت ممن يُظنُّ فيهم العلم أو الفقه، أو مِمن يشغلون مناصب في هيئاتٍ دينية لا يُعرفُ ما هو عملها بالضبط.. اللهم إلا (تقييف) الفتاوى على مقاسات الحكام، أو على مقاسات ما يطلبه المستمعون، أو على مقاسات ضغط الواقع!!
إذا عُبث في الأصل سقط بفروعه.. ومصطلح الشهادة مصطلحٌ دِينيٌ تَرَحَّلَ من اللغة إلى الدين؛ فحمل شرفَ الدين وقُدْسِيَّتَه، ثم ثبت بذلك الشرف على ذلك الشرف، وبتلك القدسية على تلك القدسية.. فلا يجوز لأحدٍ رَدُّهُ إلى معناه اللغوي، ثم سَحْب هذا المعنى اللغوي على مَن لا يؤمن- أصلاً- بشرف الدين أو قدسيته.. هذا عبث لا طائل منه، وهوانٌ لا شرف فيه..
وقد رأينا من بعض المسلمين عجباً.. فقد بدأ الأمر بالترحم، ثم بالشهادة، ثم بصلاة جنازة، أو بطلب دعاء في صلاة جنازة، ثم بالوقوف على قبرها والدعاء لها بالدرجات العلا من الجنة وقراءة الفاتحة على روحها.. كما رأينا مَن المسلمين مَن يكتب قائلاً: إنَّ رَبَّاً لا يُدخِلُ شيرين الجنة لن يدخلكم أنتم الجنة.. ومَن يكتب: "جنة ليس فيها شيرين لا أريد أن أدخلها".. بل رأينا وسمعنا خطيباً على مِنبرٍ قيل- ولم أتثبت- أنه في (غزة) يقول بحماس شديد:" شيرين لا تخضع لحساباتكم البعيدة عن الوطن والنضال ومقاومة الاحتلال، شيرين ليست ككل شيرين".. وفضلاً عما في هذه الجملة من الحُمق المضحك والسَّفَهِ المُبكي؛ فإن فيها وجهاً خطيراً من وجوه الكفرِ يجعل الوطن والنضال والمقاومة عقائدَ تُعتقد وأوثاناً تُعبد، ثم يحصر الولاء والبراء فيها وعليها، مُسْقِطَاً ما عداها.. وظني أنَّ الخطيبَ جاهلٌ لا يعرفُ معنى كلامه، أو غَلَبَهُ الحماس على عقله؛ فأساء التعبير كما أساء الحماس!!
***
إنَّ هذا الحال من التردي المتدرج الذي يَحْرصُ العلمانيون واللادينيون ومَن تَابَعهم من المتأسلمين على إشاعته بين الناس؛ لا حَدَّ له سوى القاع.. فهو كالانزلاق من قمة جبلٍ جليدي؛ لن يَرُدَّكَ- في تَرَدِّيْكَ مِن أعلاه- سوى قاعه.. أو هو- كما صَوَّرَه الشيخ رفاعي سرور رحمه الله - كالنزولِ على سُّلَمٍ كهربائي؛ لا يُكلفكَ النزول عليه سوى وضع قدمك على أول سُلّمَةٍ فيه؛ لينزلَ بك وأنتَ واقف.. أو: وأنتَ تَظُنُّ أنكَ واقف!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق