الاثنين، 2 مايو 2022

«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (5 – 10)

«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (5 – 10)


د. حاكم المطيري 
أستاذ التفسير والحديث - جامعة الكويت

«الشهيد البنا.. والطريق المسدود»

بين يدي الموضوع:

اللهم إنا نسألك الثبات على الحق، والعزيمة على الرشد، والصواب في الرأي، والعدل في القول..

اللهم آتِ أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها مولاها..

وأعوذ بك اللهم أن أبخس لعامل عمله، ولمجتهد حقه، وإنما الغاية والغرض من هذه المقالات كشف شبه دعاة «الواقعية السياسية» و«الإسلام الأمريكي» و«حراس معبد راند» من خلال:

١- عرض المناهج والطرق التي حاول المصلحون نهجها لإنقاذ الأمة من هذه الحملة الهمجية الصليبية، والحضارة المادية الغربية، التي اجتاحت العالم الإسلامي بجيوشها ونظمها وقوانينها وأفكارها، منذ هزيمة جيشها الإسلامي العثماني في الحرب العالمية الأولى، وإلغاء خلافتها، وانتهاء استخلاف الله لها، وسقوط عواصمها الدينية والسياسية: إسطنبول، وبغداد، ودمشق، والقدس، والمدينة، ومكة، تحت نفوذ الحملة الصليبية المعاصرة!

٢- وبيان كيف حاول كل مصلح فيها أن يرمي بسهم من رأيه وجهاده، وجهده واجتهاده، لدفع هذا العدو التاريخي للأمة ودينها ووجودها، وكيف تفاوتت تلك الآراء والمذاهب والرؤى في بيان المخرج من هذه المحنة، وأيها أجدى نفعا، وأصح منهجا، وأحسن أثرا، في حياة الأمة وشواهد التاريخ وواقع الأمم!

وكيف تسللت من خلال تلك الاجتهادات شبهات «الواقعية» و«المقاصدية» لتنتهي سياسيا وفكريا برفض «الفكرة الإسلامية» نفسها التي تقوم على أسس «الأمة الواحدة» و«الخلافة الراشدة» و«حاكمية الشريعة» لصالح الفكرة الصليبية الغربية: «الديمقراطية» و«الدولة الوطنية» الوظيفية في ظل مرجعية «الشرعية الدولية»!

وكيف تواطأت الجماعات الوظيفية وشيوخها عقودا على تحريم الثورة وتجريمها والتحذير منها، فحجرت على الأمة وشعوبها واسعا من الرأي، وضيقت مسالك الاجتهاد السياسي باسم الإسلام، حتى استشرى الباطل، وتنفّذ المحتل، ولم يكن للأمة ما تدفع بها عن نفسها، حتى تصرّف فيها عدوها الخارجي فصادر سيادتها، وحريتها، وثروتها، وضاقت بها حياتها، فلما حدثت ثورة «الربيع العربي» أواخر سنة ٢٠١٠م قدرًا، ولم يكونوا استعدوا لها، ركبوا موجتها، وأعادوا النظر في مشروعيتها، ولم يكونوا على علم بطبيعتها ومآلاتها، وكيف تجري سننها، حتى وثقوا بعدوهم، وأسلموا له قيادهم وقيادها عبر التفاهم معه على حساب شعوبهم، فلما مستهم البأساء والضراء فيها بعد الثورة المضادة سنة ٢٠١٣م، عادوا إلى التحذير منها!

ونسوا أن الثورات الشعبية نتيجة حتمية لانغلاق المجتمع وانهياره، وعجز السلطة عن إدارته، وإعلان سياسي عن وفاته أو ولادته، فهي فعل مجتمعي طبيعي كما ولادة الإنسان وموته، وليست الثورة فعلا اختياريا، ولا حكما شرعيا تكليفيا مقدورا لمن أراده، كما الجهاد في سبيل الله! ولا هدفا يخطط له ذوو الرأي فتحدث كما خططوا لها!

 فلا القول بوجوب الثورة يحدثها ويوقعها، ولا الفتوى بتحريمها تحول دونها وتمنعها!

 بل حدوث الثورة فعل رباني قدري، يجري وفق سنن كونية، كانفجار سدود الأنهار، عند تراكم الطمي في مجرى النهر حتى يضيق به؛ فيأتي الطوفان، ليفتح الطريق أمام الماء من جديد!

﴿قُل هُوَ القادِرُ عَلى أَن يَبعَثَ عَلَيكُم عَذابًا مِن فَوقِكُم أَو مِن تَحتِ أَرجُلِكُم أَو يَلبِسَكُم شِيَعًا وَيُذيقَ بَعضَكُم بَأسَ بَعضٍ انظُر كَيفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُم يَفقَهونَ﴾ [الأنعام: ٦٥]

٣- ومعرفة أسباب القصور والخلل، وكيف انتهى الحال اليوم بالجماعات الإصلاحية بعد مئة عام من أخذها بهذا المنهج أو ذاك، وتخليها عن ثوابت الشرع ومحكماته، باسم «الضرورة» وعجز الأمة ابتداءً، ثم باسم «المصلحة» وتطور العصر! ثم باسم “طاعة ولي الأمر” زمن الصحوة! ثم باسم «المقاصدية» بعد الربيع العربي! ثم باسم «الواقعية» بعد الثورة المضادة اليوم!

وكأنما الشيطان يوحي إليهم في كل فترة، ويعرض لهم في كل مرة؛ ليصدهم عن الكتاب وهداياته، لإعراضهم عنه في واقعهم، واغترارهم بعقولهم، واتباعهم أهواءهم، واتخاذهم “تمثال الحرية” الأمريكي قبلة! وديمقراطيته نموذجا! ونظامه الدولي مرجعا!

﴿سَأَصرِفُ عَن آياتِيَ الَّذينَ يَتَكَبَّرونَ فِي الأَرضِ بِغَيرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤمِنوا بِها وَإِن يَرَوا سَبيلَ الرُّشدِ لا يَتَّخِذوهُ سَبيلًا وَإِن يَرَوا سَبيلَ الغَيِّ يَتَّخِذوهُ سَبيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُم كَذَّبوا بِآياتِنا وَكانوا عَنها غافِلينَ﴾ [الأعراف:١٤٦].

٤- وكشف قدرة هذا العدو الدولي على احتواء الدول الوظيفية، والقوى الثورية المعارضة لها، فضلا عن الجماعات السلمية التي تعيش في ظله، وتحت كنفه، وقدرته على توظيف برامج علمائها ومشاريعهم الإصلاحية في خدمة مشروعه الاستعماري، في كل مرحلة من مراحل الصراع معه، بحكم سطوته وضعفها، ووحدته وتشرذمها، وعلمه بها وبحالها، وجهلها به وبنفسها!

فلا ينبغي أن يتكلم في هذا الأمر العظيم من لم يحط بأحوال الأمة ورجالها وعلمائها وزعمائها في هذا العصر خبرا، ولا يشهد عليهم إلا بعلم موثوق تبرأ به ذمته يوم القيامة، وليس للأهواء السياسية والمذهبية هنا مجال، ولا للحب والبغض مدخل، وإنما هي الشهادة بعلم، والحكم بعدل، أو السكوت والنجاة!

ولا أكتب ما أكتب هنا لقص التاريخ وأحداثه وأخذ العبرة منها، فما ثمة بعدُ تاريخ يروى! بل واقع ما زال يدمى، وقتلى وثكلى، وشعوب مظلومة، وأمة مكلومة!

فما زالت الأمة وشعوبها في الحقبة التاريخية نفسها منذ مئة سنة لم تخرج منها ولم تتجاوزها، بل ما تزال تعيش أحداثها وكربها وفواجعها، وتدفع لعدوها ثمن هزيمتها في الحرب العالمية الأولى -وثمن معاهداته، واتفاقياته التي فرضها عليها- من حريتها وسيادتها ومقدساتها وثرواتها، وما تزال تفعل هذه المعاهدات -حتى اليوم- فيها فعلها، وتشكل واقعها السياسي والاقتصادي والديني والثقافي والفكري!

ولا أكتب ما أكتب هنا لرفع أحد ومدحه، أو خفض أحد والغض من قدره -حاشا لله أن أنازع الله فيما اختص به من رفع من يشاء وخفض من يشاء، أو أن يكون لي غرض غير النصح للأمة- بل لكل علماء الإسلام ودعاته ومصلحيه ومجاهديه في نفسي المكانة الأسمى، حبا وإجلالا، وتقربا بذلك إلى الله زلفي، بما شرط على أهل الإيمان من الحب والدعاء لمن سبقهم بالإيمان ﴿وَالَّذينَ جاءوا مِن بَعدِهِم يَقولونَ رَبَّنَا اغفِر لَنا وَلِإِخوانِنَا الَّذينَ سَبَقونا بِالإيمانِ وَلا تَجعَل في قُلوبِنا غِلًّا لِلَّذينَ آمَنوا رَبَّنا إِنَّكَ رَءوفٌ رَحيمٌ﴾ [الحشر:١٠].

 وإنما أكتب لبيان الفجوة بين ما دعا إليه أولئك المصلحون لتغيير واقع الأمة واستئناف الحياة الإسلامية من جديد، وما انتهى به حال من انتحلوهم، واختطفوا دعواتهم، وأعادوا إنتاج خطابهم جهلا أو قصدا على نحو مختلف جذريا كما أراده (معهد راند) باسم «الواقعية» و«المقاصدية»!

فإذا هم «حراس المعبد» وجزء من مشروع الحملة الصليبية نفسه لتغيير واقع الأمة وسلخها من دينها وهويتها، والحيلولة بينها وبين دينها، واستعادة خلافتها، وانتزاع سيادتها وحريتها، باسم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والنظام الدولي ومؤسساته وقراراته!

حتى غدت «اليونسكو» هي من تضع مناهج التعليم وتشكل الثقافة والدين!

ومنظمة «الصحة» هي من تلزم المسلمين بإغلاق مساجدهم، وتعطيل حجهم ومناسكهم، وتغيير هيئات صلواتهم، حفاظا على أبدانهم، وهدم أديانهم!

فإذا أعظم شئون الأمة السياسية وهي «الخلافة» و«وحدة الأمة» تصبحان مرحلة تاريخية عفي عليها الزمن حسب «الإسلام الأمريكي الوظيفي»!

 فلا يتحدث عن وجوب استعادتها إلا المثاليون الحالمون، أما الإسلاميون الواقعيون فهم يراعون العصر وتطوره! ويؤمنون بالدولة الوطنية وفق حدود سايكس بيكو، وفي ظل المرجعية الدولية، ووفق القرار الأمريكي الأوربي الروسي الذي يمنحهم السلطة ويسلبها منهم في جنيف وباريس وموسكو وواشنطن ولندن!

فقد بات أمر السلطة وتقسيم حصصها بينهم في دولهم الوظيفية من اختصاص دوائر المخابرات الأوربية، ومبعوث القوى الدولية!

وإذا أعظم شئون الأمة الدينية وأخص خصائصها وهي مساجدها وصلواتها وحجها تخضع كلها لمؤسسات الطاغوت الدولي، فلا يحتاج لفرض توصياته لإغلاق مساجدهم كلها حتى الحرمين والمسجد الأقصى إلا إلى «الفتوى الوظيفية» فإذا المسلمون بلا دين ولا حرية! يُضربون بالسياط كضرب الأنعام! وُيطردون من مساجدهم كطرد الأغنام! ويمنعون من جماعاتهم وجُمعاتهم!

وإذا السويديون المسيحيون والماديون يعيشون حياة طبيعية في أسواقهم وكنائسهم لا يعيشها أهل التوحيد في بلدانهم ومساجدهم بعد أن اجتالتهم الشياطين فزادتهم رهقا! (اجتالتهم = استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه).

وإذا الأنظمة الوظيفية وجماعات «الإسلام الأمريكي» تتسابق أيها أسرع التزاما بقواعد النظام الدولي وأحرص على تنفيذ توصياته والدعوة إليها ليكون أهلا للحكم في بلده!

وهو انحراف إستراتيجي يصل إلى تحريف دعوة أولئك المصلحين في أصل أصولها، كما حرف بولس النصرانية أو أشد! وكما حرف مجمع نيقيا المسيحية حذو القذة بالقذة!

ولولا أن الله حفظ هذا الدين كتابا وسنة وإجماعا، وأن كل دعاته عبر كل عصوره إنما يجددون بالعودة إليه، وكل أحد يؤخذ منهم ويرد عليه، بحسب قربه وبعده عن مصادر التشريع فيه، لكانت هذه الدعوات المعاصرة اليوم أديانا جديدة لا علاقة لها بالإسلام، ولا هداياته، ولا أحكامه، ولا مقاصده، بل هي كالإسلام المغولي في أول عهده، لا يعرف منه إلا الأذان، حيث المرجعية السياسية والتشريعية والحكم والقضاء هو بالياسق الجنكيزخاني!

وكما كانت بريطانيا وراء ظهور الطائفة القاديانية في الهند ورعايتها لها بدعوى «السلمية» ونبذ «التطرف»، للوقوف في وجه حركات الجهاد الإسلامي، بإعادة إنتاج خطاب ديني يتوافق مع سياسة الإمبراطورية البريطانية آنذاك، فقد استطاعت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية أيضا إعادة إنتاج خطاب ديني جديد «وإسلام أمريكي» -سواء عبر المؤسسات الإسلامية وهيئات الفتوى الرسمية كـ«رابطة العالم الإسلامي»، أو الشعبية كـ«اتحاد علماء المسلمين»- يتوافق مع سياستها في إدارة النظام العالمي الجديد!

وليس التوظيف -حين نحذر منه أو نتحدث عنه في بعض ما كتبنا- إلا قدرة هذا العدو التاريخي على توجيه الأمة ودولها وجماعاتها وطاقاتها نحو تحقيق أهدافه فيها، ومشروعه لها، وبأيدي أحزابها وجماعاتها ودولها وأنظمتها القومية والإسلامية على حد سواء، حتى جعلها أداته التي يقتل بها شعوبها، وهي من يجزّئ به أرضها، ويقطع أوصالها، سواء كان ذلك بقصور في الوعي منها في فهم طبيعة هذا العدو وأدواته تارة، أو عجز خارج عن إرادتها تارة، أو خيانة من كثير من زعمائها وشيوخها تارات أخرى، طمعا في الحكم والسلطة والثروة ولو تحت ظل الحملة الصليبية يستوي في ذلك الوطني والقومي والإسلامي!

فليس المراد عند إطلاق وصف «التوظيف» -كما وضحناه مرارا- وصم كل أحد بخيانة، أو اتهام كل أحد بسوء نية، أو خبث طوية، وإنما كشف لما هو في حقيقته تنفيذ لما يريده العدو بالأمة ودولها وشعوبها، وما يحقق أهدافه فيها، من حيث يشعر بذلك من يقومون به أو لا يشعرون، وسواء كانوا مكرهين أو مختارين، وسواء كانوا مجتهدين معذورين، ومخلصين مأجورين، أو مفتئتين ظالمين، ومفسدين مأزورين!

ونحن نعلم من حال فضلاء هذا العصر وخيارهم، وحال من قبلهم، مدى الإكراه الذي وقعوا جميعا تحته، وحاولوا الاحتيال للخروج مما هم فيه بكل وسيلة، في ظل اجتياح الحملة الصليبية العالمَ الإسلامي كله، وفقد المسلمين لأول مرة في تاريخهم للخلافة والقوة والسلطة، فإذا الخلفاء والأمراء والزعماء والعلماء والشعراء والأدباء في السجون والمنافي في أقاصي الأرض على حد سواء، كالأمير عبد القادر الجزائري، والقائد أحمد عرابي، والوزير الشاعر سامي البارودي، والشيخ محمد عبده، وأمير الشعراء أحمد شوقي، ومن جاء بعدهم في كل قطر ومصر إسلامي، حتى نُفي السلطان عبدالمجيد آخر خليفة عثماني، ونفي الشريف حسين إلى قبرص بعد أن اعترض على سياسة بريطانيا التي انحاز إليها، وقاتل تحت لوائها!

ولا يكاد يوجد زعيم مسلم في هذا العصر ثار على المحتل الأوربي والحملة الصليبية، أو اعترض على سياستها لم يقتل، أو يسجن، أو ينفي من الأرض، فمنهم من قضى نحبه فيها، ومنهم من عاد، وقد أشفي على الموت، وأشرف على القبر، فاضطروا كما يضطر كل مكره إلى مداراته، واعتزلوا الحياة السياسية حفاظا على شرفهم ودينهم، ومنهم من شاركوا فيها تربصا بالعدو، واقتناصا للفرص السانحة للانقضاض عليه، يُعرف هذا من حالهم، ويشهد لهم به مقالهم، وليس كذلك من انحاز إليهم، وقاتل معهم، ومكّن لهم!

وليس أيضا كل من اضطر للعمل مع العدو، ووظّفه في خدمته، على حال واحدة، فمنهم من أهل الشرف والمروءة من كان أميرا أو وزيرا قبل أن تُحتل بلده، فواجه واقعا جديدا يعجز عن دفعه أو تغييره، فجعل همّه خدمة شعبه ودينه، والدفع عن أمته بحسب قدرته، والتخفيف من كربتها، وفك أسيرها، وإغاثة ملهوفها، يُعرف هذا من تاريخهم، ومواقفهم وسيرتهم، وما شاع من ذكرٍ حسنٍ عنهم، ومنهم من جعل غايته عرشه وشهوته، فاستباح مع العدو دماءها وأموالها، أو وصل أصلا للحكم والسلطة بإعانة العدو المحتل إياه، ومساعدته له، وعلى ظهر دبابته، ليقوم بخدمته!

فإذا كان الأول مضطرا معذورا، وقد يكون مشكورا مأجورا بحسب حاله، فالثاني بلا خلاف مجرم مرتد خائن لله ورسوله ودينه!

وليس كل ما كان يريده المصلحون من تغيير الواقع، أو خططوا له ونووه، صرحوا به أو كتبوه، بل أسروا أكثره وكتموه، فقد كانت تلك الفترة -وما زالت- من أشد الفترات في تاريخ الأمة قسوة وفتنة، حتى أخفي كثير منهم ما في نفسه، وطوى على ذلك سره، مع ما قاموا به من خدمة الأمة ودينها حسب استطاعتهم، ولقد أدركنا من علماء الأمة ومصلحيها من كانوا يبثون لنا في حال الاختلاء بهم من شجونهم وآرائهم الخاصة في الواقع ما لا يصرحون فيه أمام الملأ، بل لا يعرفه حتى أخصّ خاصتهم، خشية حدوث الضرر، أو إثارة الفتن!

كما ليس كل من تصدى لشأن الأمة العام وابتلي به من أهل التقوى والفتوى أحاط علما بواقعها وخطط أعدائها، فلا يُحتج بكل آرائه، ولا يُتخذ قدوة فيها، ولا يُغض من مكانته، ولا يُبخس حقه!

وانظر إلى ما خفي على الشيخ محمد رشيد رضا!

بريطانيا ودعوة الشيخ رشيد رضا الإصلاحية:

لقد عمت دعوة الشيخ محمد رشيد رضا الإصلاحية العالم الإسلامي كله عبر مجلة “المنار”، وكان من أخبر الناس ببريطانيا وخططها، ومن ألد أعدائها، وقد سخر مجلة “المنار” ٣٦ سنة لفضح مؤامراتها، وتحذير الأمة منها، ووقف مع الخلافة العثمانية حتى سقوطها، وكان من أجرأ الناس بالصدع بالحق، وقد قال عنه بعد وفاته وكيله وابن عمه السيد عبد الرحمن عاصم -في المنار ٣٥/ ٤٨٠-: (كان السيد يدرك من أسرار السياسة وغوامضها ما يقصر عنه كثيرون من المشتغلين بها، وآراؤه المنشورة في عهد السلطان عبد الحميد، والاتحاديين، وفي أيام غيرهم مؤيدة لذلك، وقد تحمل الأذى في سبيل نصحه إياهم، وطعن فيه رجال من إخوانه، ثم تبين لهم بعد سنين أن رأيه هو الصواب، وكتبوا منتقدين الذين كانوا يدافعون عنهم، فالسيد لغلبة الصدق والإخلاص والصراحة عليه، كان يصلح أن يستشار في السياسة)!

وقد وقف الشيخ رشيد رضا بكل ما أوتي من قوة ضد الشريف حسين ودعوته للثورة على الخلافة العثمانية، وضد انحيازه لبريطانيا، ثم ضد إعلانه نفسه خليفة بعد إلغاء الخلافة العثمانية!

وقد كتب سنة ١٩٢٥م -في مجلة المنار عدد ٢٥/ ٢٣٠- عن تسمية الشريف حسين نفسه بالخلافة: (كان الشريف حسين، ولا يزال، يمني نفسه بملك عظيم تؤسسه له الدولة البريطانية؛ جزاء له على “ثورته العربية”، وموالاته لها في قتال الترك، بأن تجعله خليفة للمسلمين، وملكًا على البلاد العربية المؤلفة من جزيرة العرب كلها والعراق، وسورية، وفلسطين، وتمده بالمال والسلاح؛ لتوطيد سلطانه في هذه البلاد تحت حمايتها، وبمساعدة رجالها، وكان يعتقد أن حلفها أقوى من الحلف الألماني، ولذلك لم يقبل ما عرضته عليه الدولة العثمانية من الاستقلال بضمان ألمانية، وكان يهنئها [أي بريطانيا] بكل فتح في البلاد العربية: القدس، وبغداد، ودمشق، ولذلك سمى نفسه ملك العرب!

وبعد احتلال سورية اعتقد أن أحلامه جاء تأويلها، وكان يشتهي أن يزور البلاد السورية بعد توطيد سلطانه فيها، وتكرر وعده لأناس من أهلها بذلك، وفي جريدته “القبلة” حتى إنه صرح بأن سيزور كل بلد وقرية فيها؛ أي: ليراه جميع أفراد رعيته، ويتمتعوا ببهاء جلاله وعزته.

أفلت ملك سورية من قبضة وهمه:

(أولًا) بقرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن فيه استقلال جميع البلاد السورية دون الحجاز وغيره.

(وثانيًا) بتنفيذ إنكلترة وفرنسة لما كانتا قد اتفقتا عليه من اقتسام بلاد الحضارة العربية: سورية، والعراق بينهما، ورأى أن ملكه لم يتجاوز إمارة الحجاز التي كانت له من قِبَل الدولة العثمانية، على أنها منقوصة الأطراف، غير تامة الحدود، على ما يدعي – فكان المعقول أن يتناسى ذلك الوعد أو الوعود ويتحول عنها، ولكن الرجل يحيا حياته السياسية بشيئين:

(أحدهما) نفسي، وهو الأماني والأوهام.

(وثانيهما) عملي، وهو الدعاية (البوربغندة) التي لم يحذق من شؤون سياسة هذا العصر غيرها، وهو قد أوتي غريزة الثبات والإصرار التي هي أعظم الغرائز مساعدة لصاحبها على النجاح، إذا هو طلب الأمور بأسبابها، وأتاها من أبوابها.

أصر على تسمية نفسه بملك العرب، وأمكنه بالدعاية أن يحمل بعض أصحاب الجرائد في سورية وغيرهم أن يتبعوا جريدته “القبلة” في تحليته بهذا اللقب، وبلقب المنقذ، وإن كان الحق الواقع المشاهد أنه لم ينل بلقب ملك العرب تصرفًا ولا سيادة على شبر من أرض العرب، لم يكن تحت سيادته قبله، وأنه لم ينقذ بلدًا من بلاد العرب، ولا قرية من سيادة أجنبية ولا مهلكة، فإن كان أحد يسمي انتقال البلاد السورية والعراقية بمساعدته من سيادة الدولة العثمانية المؤلفة من الترك والعرب وغيرهم إلى سيادة إنكلترة وفرنسة إنقاذًا، فلا أنقذه الله من الذل في الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، على أن هذا الإبسال الذي سماه إنقاذًا لم يقع إلا بترجيح دولة الولايات المتحدة لإحدى كفتي الحرب على الأخرى لا بترجيحه..) انتهى كلامه!

وقال أيضا عن عدم شرعية بيعة الشريف بالخلافة وأنها بيعة صورية لا حقيقة له، بل أزرت به، وبمقام الخلافة التي هي أشرف المقامات الشرعية الشريفة:

(إننا لنقول والحزن يملأ قلوبنا: إن الترك قد فضحوا العالم الإسلامي بما فعلوا بخلافتهم شرًّا مما فضح به الملك حسين بمبايعته الأولى والثانية؛ إذ ظهر للإفرنج أن مبايعة الملايين لرجل بالخلافة ليس إلا كلامًا لغوًا لا يترتب عليه عمل يذكر!

وقد أدرك الإنكليز ذلك قبل غيرهم، فلم يبالوا بمبايعة الجماهير من مسلمي مصر والهند لخليفة تركي [عبد المجيد الثاني بويع ١٩٢٢م بعد انتهاء الخلافة فعليا واحتلال إسطنبول]، ولا مبايعة أهل فلسطين لخليفة عربي [الشريف حسين بويع بالخلافة ١٩٢٤م]، وقد عدّ العقلاء منهم، ومن غيرهم اهتمام فرنسة بمبايعة مسلمي سورية رعونة وخفه من رجالها هنالك، ولو كانت إنكلترة تعتقد أن هذه البيعات حقيقية، يترتب عليها ما في كتب الشرع من الأحكام الشرعية؛ لبذلت كل نفوذها في إبطالها، ولما تجرأ الملك حسين حينئذ على التصدي لها، فإن أول ما يترتب عليها قتاله إياها في فلسطين؛ لإخراجها منها، وهي الآن ترجو أن تنتفع من الخلافة الحجازية حتى بتوطيد نفوذها فيها، على أن يكون للخليفة وأولاده شركة في ذلك!

ولما طفقت السلطة الفرنسية في سورية تعارض مسلميها في المبايعة لحسين، والدعاء له في خطبة الجمعة احتجوا عليها بأنها تمنعهم من حريتهم الدينية المحضة، وذلك أنهم عالمون بأنهم لم يكونوا بهذه المبايعة تابعين له في السياسة، ولا الإدارة، ولا الحرب، ولا القضاء، ونحن نزيد على ذلك أنهم غير تابعين له في صلاتهم، ولا صيامهم، ولا زكاتهم، حتى ما هو من شأن الخليفة من ذلك: كتعيين الأئمة، والخطباء للصلاة، وأخذ مال الزكاة!

وأما الدعاء للخلفاء في خطبة الجمعة فليس من أركانها، ولا من شروط صحتها، فلم يبق لفرنسة عذر في معارضة القوم في مبايعتهم، ولا في الدعاء له في خطبهم، وما تكرهه من قوة نفوذه الروحي بذلك، فالمعارضة لهم أشد تأثيرًا في زيادته.

ومما يؤيد قولنا في رأي مسلمي سورية في الخلافة أنها أمر ديني لا علاقة له بالسياسة -ما يقوله ويكتبه بعض المصريين في ذلك بعد أن كان من مبايعتهم لعبد المجيد أفندي ما كان، ثم من اقتراح بعضهم دعوته للإقامة بمصر، فأنصاره يعدون معارضة الحكومة المصرية لهم في الدعوة له اضطهادًا للحرية الدينية، ولو كانوا يفهمون معناها الشرعي ويريدونه، لعلموا أن عملهم يقتضي إسقاط الحكومة المصرية، وجعلها تابعة لعبد المجيد أفندي!

وهل هذا إلا أساس السياسة الذي تبني عليه جميع أركانها؟!

أما والله لو كنت أعلم أنه يرجى منهم [يعني الشريف حسين وأبناءه] إخراج فرنسة من سورية على أن تكون مستقلة دون نفوذ أجنبي آخر، ولو تابعة للحجاز، لبذلت كل ما أستطيع في تأييدهم ومساعدتهم على ذلك بدلًا من مجاهدتهم على تمكين نفوذ الأجانب فيها وفي غيرها، فإنني أعلم أن ملك الحجاز لا يستطيع أن يستبد في سورية، ولا أن يحول دون حريتها.

ووالله لو كنت أعلم أنهم يستطيعون جعل جزيرة العرب وغيرها مملكة واحدة خاضعة لهم وحدهم بدون نفوذ أجنبي لتمنيت نجاحهم على ما أعلم من ظلمهم واستبدادهم؛ لاعتقادي أنهم لا يستطيعون الاستبداد بهذه الأمة بعد جمع كلمتها وتوحيد حكومتها، وأن المصلحة في ذلك أرجح من المفسدة في كثرة الحكومات المتعادية.

ثم والله لو كنت أعلم أنه يرجى من حسين جمع كلمة المسلمين كلهم أو أكثرهم أو عدة شعوب منهم باسم الخلافة على الحق والإصلاح؛ لوددت تقمصه إياها، ولو نهض بها كما يجب لبذلت وسعي في تأييده، وإن كنت أعلم أنه فاقد لسائر شروطها، وحسبي هذا منها لو حصل، ولكنني أعتقد أنه يخشى ضره، ولا يرجى نفعه، وقد بينت هذا بالبراهين الكثيرة)!

 انتهى كلام رشيد رضا وهو يؤكد مدى سخط العرب وعلمائهم على الشريف حسين لانحياز للحملة الصليبية البريطانية الفرنسية على الخلافة العثمانية، وخطورة موضوع الخلافة، وكيف استخف به فريقان وما يزالان يستخفان بها حتى اليوم:

الفريق الأول: من يرون أنه بالإمكان ادعاؤها ببيعة جماعة أو أهل بلد، ولو لم يبايعه أكثر المسلمين، ولو بلا شوكة له ولا قوة تتحقق بها شروط الإمامة العامة فعلا!

والفريق الثاني: الذين نفوا وجوبها، وعدّوها مرحلة تاريخية مضت، وشريعة انقضت، ولن تعود، لا لشيء إلا لأنهم أشربت قلوبهم حب الديمقراطية، والنظم الغربية الأوربية، وتصوروا أن التاريخ انتهى عندها، وألقى عصى التسيار بأرضها!

وقد نعى رشيد رضا على أهل فلسطين وعلى الحاج أمين الحسيني استعجالهم بالبيعة للشريف حسين قبل توفر شروط الخلافة الشرعية، فقال أيضا في بيان حكم هذه البيعة:

(فالحكم الشرعي أن من صحت إمامته وجبت طاعته في قتال من شذ عن جماعته، والمفروض أنهم أهل الحل والعقد في الأمة، وأولو الأمر منها، فإذا أمكنه بالدعاية والدنانير الإنكليزية أن يجعل هذا الهزل جدًّا، وهذا الباطل حقَّا، وعجز معشر العلماء الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم أن يظهروا الحق للناس، أفلا يخشى أن يقضي بخلافته الباطلة على ما للعرب من هذه القوة الباقية، فيتغلغل الأجانب فيما بقي من الجزيرة المقدسة التي أحاطوا بها بمساعدته ومساعدة ولديه عبد الله وفيصل من الشمال والشرق، كما يحيط بها البحر من الجنوب والغرب؟ فما لإخواننا هؤلاء لا يتفكرون، ويرون العبر بأبصارهم ولا يعتبرون.

أما كان يجب عليهم أن يترووا في درس هذه المسألة، وأن يقترحوا على الرجل اقتراحات يجعلون تنفيذها شرطًا مقدمًا على عقد البيعة، إن قنعوا بعد التروي بترجيح مبايعته؟ بلى وأهم ما كان يجب عليهم أخذ الميثاق عليه فيه وانتظار تنفيذه؛ الأمور الآتية:

أولا: نبذ الحماية البريطانية التي تقيد بها فيما يسميه مقررات النهضة [وهي اتفاقية الحماية بين بريطانيا والمملكة الحجازية]، وعدم تقييد البلاد بمعاهدة أخرى تجعل للأجانب نفوذًا في البلاد..

إن مبايعة هذا الرجل بالإمامة العظمى باطلة شرعًا من بضعة وجوه، وأنها على بطلانها شرعًا، ضارة قطعًا، وإن أكبر عار وخزي على أمتنا أن توجد فيها كل هذه المهلكات، ولا يتصدى أحد لإنكارها والتحذير منها!

ولا يحسبن أحد أننا علمنا الأجانب بما كتبنا ما لم يكونوا يعلمون، ويا ليت الذين يظنون ذلك يعلمون ما يعلمه الأجانب من «أحكام الخلافة» وأحوال المسلمين فيها!

إننا نعلم أن الإنكليز قد استكتبوا في سنة ١٩١٤ كثيرًا من علماء الأقطار الإسلامية هذه الأحكام، وألفوا لجنة أو لجانًا لدرسها، وقد اطلعت مرة على نصوص فيها، كتبها لهم بعض كبار علماء الأزهر، ولا أدري من طلب لهم ذلك!).

انتهى ما ذكره الشيخ رشيد رضا عن مدى تدخل المحتل البريطاني في أخطر شئون الأمة، وأخص خصائصها وهي الخلافة

وقال عنه في المنار ٢٥/ ٥٩٣: (لم يفعل أحد في القديم ولا في الحديث شرًّا مما فعله أمير مكة الشريف حسين وأولاده، فقد تجاوز جهلهم، وفساد عقولهم وأنفسهم كل حد؛ بأن أحدثوا ثورة عربية؛ لمساعدة الدولة البريطانية وأحلافها على إسقاط الدولة العثمانية، واستبعاد الشعوب العربية بإغراء هذه الدولة التي بيّن لنا السيد الحكيم [جمال الدين الأفغاني] بعض أفعالها في ثل عروش الدولة الشرقية [الإسلامية في الهند وأفغانستان]، وأساليبها في الطرق الاستعمارية، وخداعها للملوك والأمراء بالوعود الكاذبة، والعهود الغارّة، ما لا يدع مجالًا لثقة أبلد البلداء بها، وقد استولى الإنكليز وأحلافهم من الفرنسيس على سائر البلاد العربية العامرة، ذات الغلات الوافرة، من حدود مصر إلى خليج فارس، ولا يزالون هؤلاء الخونة المتحلون بلقب الشرفاء يوطدون سلطة الاحتلال في تراث سلطنتي العرب الكبريين -سورية والعراق- ويمكنونها من الإحاطة بالحجاز ونجد، حتى لا يبقى للأمة العربية ملجأ مستقل في هذه الأرض)!

وقد فرح رشيد رضا بزوال سلطان الشريف حسين عن الحجاز وخروجه منه، وبضم ابن سعود للحرمين سنة ١٩٢٥م، ظنا منه أن ابن سعود غير تابع لبريطانيا، ولا خاضع لنفوذها!

وقد حرص ابن سعود على كسب رشيد رضا ومجلته «المنار» إلى صفه، بعد أن اقترح الشيخ رشيد إقامة مؤتمر إسلامي في مكة لبحث موضوع الخلافة، وحماية الحجاز من الاحتلال الأجنبي، وجمع كلمة المسلمين لحماية الحرمين، واستجاب ابن سعود لدعوته هذه وعقد المؤتمر لمناقشته في مكة، حتى اتهمته الصحف المصرية بأنه إنما وقف مع ابن سعود لأنه يمول مجلة «المنار»، وقد رد على ذلك في المنار عدد ٢٧/ ٥٤٨ بعنوان «علاقتنا بابن سعود دينية إصلاحية»، وفي عدد ٢٨/ ١ بعنوان «علاقتنا بالإمام ابن سعود سلطان نجد والحجاز»..

 وقال في العدد ٢٧/ ٧٩١: (ولما بدأ صاحب هذه المجلة [يقصد نفسه] بدعوة أمراء الجزيرة العربية وأئمتها للتآلف والتحالف على حفظ بلادهم من التدخل الأجنبي وتقويتها وترقيتها سنة ١٣٣٠ه الموافق ١٩١١م، كان الإمام يحيى حميد الدين أول من أجابه منهم باستعداده للاتفاق والتعاون مع إخوانه أمراء الجزيرة، إلا أنه استثنى جاره بالجنب السيد الإدريسي، واحتج على عدم إمكان الاتفاق معه، وإطفاء ما كان بينهما من نار الحرب بأنه حالف أعداء الله الطاليان- بهذا الضبط – وكان يرى أن هذا العمل لا يبيحه الشرع ولا يتفق مع مصلحة العرب).

وقد خفي على الشيخ رشيد رضا دور بريطانيا في نجد، ووقوفها خلف ابن سعود منذ كان لاجئا في الكويت، حتى جهزت من خلال مبارك الصباح جيش «الصريف» لحرب ابن رشيد وإشغال حايل، لإعادة ابن سعود إلى الرياض، وفق مشروع إستراتيجي بريطاني للسيطرة على شرق الخليج العربي، وكان مدحت باشا والي بغداد أول من حذّر من خطورة هذا المخطط البريطاني على نجد وجزيرة العرب، إذا وصل نفوذها إلى الكويت، كما في مذكراته وتقاريره التي كتبها لإسطنبول سنة ١٨٧٥م!

وقد بلغ من ثقة رشيد رضا بابن سعود أن أرسل إليه -كما ذكر السيد عاصم- كتابا يقول فيه: (ولا أزال كذلك أجاهد معكم ما دمتم تجاهدون في سبيل الله وإعزاز دينه.. وموضع العبرة أن الله تعالى قد استخلفكم في الأرض التي فضلها على كل أرض لينظر كيف تعلمون.. ومن كتاب آخر: وقد عاهدناكم على أن نؤيدكم، ونخدمكم في إقامة السنة، وهدم البدع، وإحياء الإسلام على منهاج السلف في أمور الدين ومستحدثات الفنون العصرية في أمور الحرب والعمران..)!

وقد خفيت علاقة الشيخ رشيد رضا بتلميذه الشيخ حسن البنا، وعلاقته بجماعة «الإخوان المسلمون»، لخشيته من أن تتربص بريطانيا بها، وتقطع الطريق عليها، كما كان يعلم من سياستها في كل بلد إسلامي احتلته، وخشيتها من قيامه هو بأي عمل جماعي منظم، حتى إذا مات فجأة سنة ١٩٣٥م بعد زيارته للأمير سعود بن عبدالعزيز في السويس قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية! فإذا الذي يشرف على إصدار مجلة «المنار» بعد توقفها مدة تلميذه الشيخ حسن البنا، فيصرح في افتتاحيته لها بأن جماعته «الإخوان المسلمون» هي امتداد لدعوة شيخه رشيد رضا «دعوة الإرشاد»!

مع أن البنا لم يسبق له أن كتب في «المنار»، ولم يرد لاسمه ذكر قط في المنار ولا لجماعته طوال سبع سنين منذ تأسيس الجماعة حتى وفاة الشيخ رشيد!

وقد كتب الأستاذ عبد الله أمين في أول عدد فيها بعد تولي الشيخ حسن البنا إدارة تحريرها ٣٥/ ٢٧ مبينا ضرورة استئناف صدور «المنار» كصوت لدعوة إصلاحية واحدة: (وإذن لم يكن العالم الإسلامي، ولا الإسلام نفسه في غنى عن «المنار»، فإن المسئول عن إصداره وإحيائه هم أنصاره وأحباؤه، فقد أصبح أمانة في أعناقهم دون غيرهم من المسلمين، لا تبرأ ذمتهم منه إلا إذا أحسنوا القيام عليه وأصدروه، فإذا قام بذلك ولو واحد منهم فقد سقط عن الباقين؛ لأنه من فروض الكفاية)!

فكان ذلك المحب هو حسن البنا، وكانت جماعة «الإخوان المسلمون» هم أنصاره ومحبوه!

 فظلت العلاقات خفية بين الجماعة ومؤسسها حسن البنا، وشيخه رشيد رضا، إلى وفاته!

 وقد أوصى الشهيد البنا نفسه بالمحافظة على السرية في مذكراته “الدعوة والداعية” كما قال في مقدمته لها: (أوصي الذين يعرضون أنفسهم للعمل العام، ويرون أنفسهم عرضة للاحتكاك بالحكومات ألا يحرصوا على الكتابة، فذلك أروح لأنفسهم وللناس، وأبعد عن فساد التعليل وسوء التأويل)!

وقال: (لا أدري لماذا أجد في نفسي رغبة ملحة في كتابة هذه المذكرات، بعد أن أعرضت عن ذلك إعراضا تاما على أثر عثور النيابة على مذكراتي الخاصة سنة ١٩٤٣م وما لقيت من المحقق من عنت وإرهاق في غير جدوى، ولا طائل، ولا موجب، إلا تحميل الألفاظ غير ما تحمل، واستنباط النتائج التي لا تؤدي إليها المقدمات، بحجة أن هذه هي مهمة النيابة العمومية باعتبارها سلطة اتهام)!

وقد كان الشيخ رشيد رضا وراء تأسيس «جمعية الشبان المسلمين» سنة ١٩٢٧م، (حوّلها السيسي إلى جمعية الشباب العالمية) وهو الأب الروحي لها، وكان الشيخ حسن البنا عضوا في الجمعية منذ تأسيسها وممثلا للشباب فيها.

وقد أشاد الشيخ رشيد رضا بالجمعية التي يعدها أفضل الجمعيات الإسلامية في مصر آنذاك، فقال في مجلة المنار ٢٨/ ٧٨٨: (أحمد الله تعالى أن وفق المسلمين في مصر إلى تأليف هذه الجمعية، ولم يسرني تأليف جمعية بعد جماعة «الدعوة والإرشاد» كتأليف هذه الجمعية التي طال تفكري في شدة حاجة المسلمين إليها، وتحدثي مع أهل الرأي في السعي لها، وقد مكثت سنين أبحث عن تاريخها وتطورها وتعاليمها السرية، وعز علي أن أختار طائفة تنهض بتأسيسها ثم تقوم بأعبائها، وكلفت الأستاذ توفيق دياب الخطيب المشهور في أيام الحرب الكبرى أن يبحث في المسألة، وهل يمكن لنا تأليف جمعية للمسلمين كجمعية الشبان المسيحيين مع مراعاة قانونها في اجتناب السياسة أم تعارض السلطة العسكرية [البريطانية] في ذلك؟ ثم علمت منه ومن غيره عدم الإمكان في ذلك الزمان، على أنني لم أهتد بعد عودة الحرية إلى البلاد إلى رجال ينهضون بهذا العمل الجليل، ويستقلون بهذا الحمل الثقيل، ولكل قدر أجل، فلما استعدت البلاد بتطورها له ظهر ظهورًا طبيعيًّا بتداعي بعض شباب المدارس العليا إليه، وهم أحق وأولى وأجدر به، فتأسست الجمعية ولله الحمد، وتأسس مجلس إدارتها ولله الحمد، فرئيسهم عبدالحميد بك سعيد، والوكيل الأستاذ الشيخ عبدالعزيز جاويش، وأمين الصندوق الأستاذ أحمد باشا تيمور، وأمين السر الأستاذ محب الدين الخطيب، فهم لعمري أولو كفاءة وكفاية، وجد وعناية، تغني شهرتهم عن الثناء عليهم، وفقهم الله تعالى وسائر أعضاء الإدارة ومساعديهم المصلحين).

حاجة بريطانيا للدعوة الدينية السلمية لملء الفراغ الديني:

وقد كان المسئولون البريطانيون يدركون أهمية وجود الجمعيات والجماعات الدينية السلمية لملء الفراغ الديني في العالم الإسلامي، تحت إشرافهم ومراقبتهم، ويحذرون في تقاريرهم من خطورة الفراغ الديني في المناطق الإسلامية التي تخضع لنفوذ بريطانيا، خشية أن يملأ فراغها عالم مجاهد، فيدعو الشعوب إلى جهادها -انظر كتابي «حصار المدينة»- كما جرى في الهند درة التاج البريطاني، وكذا في السودان.

وهو ما حرص على تفاديه المندوب السامي البريطاني بمصر، خاصة بعد أن أصبح أدموند اللنبي هو القائد العسكري لمنطقة سوريا وفلسطين والحجاز، بعد دخوله القدس محتلا، ودمشق ١٩١٧م، واستسلام المدينة المنورة لقواته ١٩١٩م، فأصبحت شئون الحجاز والحرمين من اختصاص المكتب البريطاني العربي في القاهرة!

وبهذا نجحت الحملة الأوربية الصليبية في تحقيق أهم أهدافها منذ قرون، وهو استعادة القدس، كما حققت بريطانيا حلمها التاريخي في جعل مكة تحت نفوذها، لتوجيه الرأي العام الإسلامي من خلال منبر الحرم المكي، بدعوى أن بريطانيا كان يخضع لها أكبر عدد من المسلمين في العالم وذلك في الهند ومصر، ومن مسئوليتها تجاههم تأمين طرق الحج لهم، ومنع تأثير الدعاية عليهم في مكة من قبل دعاة الجهاد ضد بريطانيا!

وفي الوقت الذي ستقضي فيه بريطانيا على كل حركة جهادية مسلحة قد تهدد وجودها، ستفتح الطريق للجماعات السلمية، التي ستظل تحت مراقبتها الدائمة، وعرضة لاختراقها الدائم، وهو ما حدث وما يزال يحدث في كل بلد إسلامي يخضع لنفوذ الحملة الصليبية حتى اليوم.

القضاء على الحركة الجهادية النجدية:

وقد قررت بريطانيا في مؤتمر جدة بتاريخ ٥/ ٧/ ١٩٢٨م – وبحضور الشيخ حافظ وهبة المصري مستشار الملك عبد العزيز بن سعود وكان رئيس الوفد السعودي في ذلك المؤتمر- القضاء على حركة «إخوان نجد» الجهادية المسلحة، بعد أن وظفتها بريطانيا منذ ١٩١٢م إلى سنة ١٩٢٧م، لاستكمال مشروعها في السيطرة على الجزيرة العربية كلها!

وكان الوفد البريطاني في ذلك المؤتمر -كما ورد في «الإخوان السعوديون» لجون س ٢٠٩- برئاسة جلبرت كلايتون، والنقيب جون جلوب، لتحديد الحدود بين العراق ونجد، وقد طلب حافظ وهبة توقيع معاهدة لتسليم اللاجئين السياسيين من نجد، وقد تعهدت بريطانيا في هذا المؤتمر بعدم السماح لفيصل الدويش قائد الإخوان باللجوء السياسي في حال ما إذا قرر ابن سعود قتاله، وهذا هو الشيء الوحيد الذي أسفرت عنه المفاوضات التي دامت عشرة أيام!

وبعد ذلك المؤتمر في جدة مباشرة، تدهورت العلاقات بين قادة الإخوان في نجد وابن سعود حيث كانوا -كما يقول جون س ٢١٢- (يتهمونه بأنه قد باع نفسه للنصارى والإنجليز، وأنه تحالف معهم، على حساب التزامه من قبل بنشر الإسلام، ومحاربة الكفار)!

لقد أدركت بريطانيا بأن إخوان نجد هم العقبة أمام مشروعها في فرض خرائط سايكس بيكو، وتحديد الحدود بين دوله الوظيفية، حيث كان الإخوان النجديون يرفضون خضوع ابن سعود لبريطانيا، وتنفيذه لسياساتها، كما كانوا هم القوة المسلحة الأشد خطرا على الوجود البريطاني في جزيرة العرب كلها، كما يقول ديكسون في كتابه «الكويت وجاراتها» ١/ ٣٠٧ والذي كان مباشرا لتلك الأحداث بصفته وكيلا سياسيا لبريطانيا في الكويت: (ومهما كان الأمر فمشاعر قبائل الإخوان في نجد كانت تغلي.. وادّعوا أن إمامهم أصبح أداة في أيدي الإنجليز، وكان هناك خطر حقيقي من ثورة تقوم بها قبائل نجد بقيادة فيصل الدويش وسلطان بن حميد، لأن كلا القائدين يطالب ابن سعود بأن يثبت إيمانه بالله عن طريق إعلان الجهاد)!

لقد كان من أكبر أسباب السخط والعداوة التي أبداها الإخوان لشريف مكة هي تحالفه مع بريطانيا، فاكتشفوا بعد فوات الأوان بأن ابن سعود نفسه كان تحت حماية الإنجليز، وحليفا لهم، في الوقت الذي كانوا هم الذين وحدوا نجد والحجاز، نصرة للإسلام، وحماية للحرمين من الإنجليز والنصارى الذين جاء بهم الشريف؟!

وعلى حد قول جون س: (لقد كان الإخوان يتمتعون بشعبية بين كثير من رعايا ابن سعود نظرا لنجاح فيصل الدويش وسلطان ابن بجاد في الحملة التي قاما بها بين القبائل والتي مفادها أنهما يمثلان مصالح الإسلام الشرعية، وأنهما كانا يدافعان عن قضية الدين، في حين أن ابن سعود بعد أن استولى بفضل شجاعتهم على الحجاز باع نفسه للإنجليز وللنصارى)!

دور حافظ وهبة في تشكيل الجناح الدعوي السعودي:

وفي تلك الأثناء كان الشيخ حافظ وهبة المصري -وهو مهندس العلاقات السعودية البريطانية منذ ١٩٢٠م، وأصبح سفيرا للسعودية في لندن سنة ١٩٣٠م ولمدة ثلاثين سنة وعضوا في شركة أرامكو- يعمل على تشكيل جهاز دعوي وإعلامي إسلامي، وفق الشروط البريطانية، يواكب المرحلة الجديدة، بعد القضاء على «إخوان نجد» كحركة دعوية جهادية انتهى دورها بتفاهمات «مؤتمر جدة»، وسيقوم حافظ وهبة مباشرة بعد هذا المؤتمر بثلاثة أشهر بزيارة لمصر ولجمعية «الشبان المسلمين» ويرشح اسم حسن البنا للتدريس في الحجاز!

وفي هذه السنة نفسها أيضا أغسطس ١٩٢٨م، سيبدأ الشيخ محمد حامد الفقي -رئيس أنصار السنة بمصر- بإصدار مجلة «الإصلاح» من مكة المكرمة، وبدعم مالي وسياسي مباشر من الملك عبد العزيز بن سعود الذي شرط عليه كما ذكر الفقي -في عددها الأول ص ٥-(ألا تتعرض الصحيفة للشؤون السياسية العامة أو الخاصة)!

مما يؤكد أن هذا النشاط والعمل الدعوي والإعلامي في مصر مرتبط بما يجري في الحجاز ونجد من تحولات كبرى، بعد أن أصبح ابن سعود تابعا لإدارة المكتب العربي البريطاني والمندوب السامي في القاهرة، بضمه الحجاز لنجد، بعد أن ظل ربع قرن تابعا لحكومة الهند البريطانية التي تشرف على إدارة الخليج العربي وشرق الجزيرة العربية عبر وكلائها السياسيين في بومبي أولا، ثم في بغداد بعد احتلال العراق سنة ١٩١٧م!

كما يؤكد أن بريطانيا كانت بصدد إيجاد البديل الدعوي السلمي عن إخوان نجد الذين كانوا يمثلون الجناح الدعوي الجهادي في جزيرة العرب والذي قررت بريطانيا إنهاءه في مؤتمر جدة ١٩٢٨م!

وقد زار الشيخ حافظ وهبة الكويت بعد ذلك لبدء الحرب الدعائية والإعلامية ضد الإخوان الثوار لتشويه سمعتهم، كما ذكر ديكسون في كتابه (الكويت وجاراتها 1 /330): (وفي 19 تشرين الثاني وصل الشيخ حافظ وهبة ممثل ابن سعود في لندن إلى الكويت، وبدأت حملة دعاية مضادة واسعة النطاق ضد الثوار).

بريطانيا وتوظيف العالم الإسلامي لتأسيس النظام الدولي:

وفي الوقت الذي كانت بريطانيا وأوربا تواجه أخطر حرب في تاريخها كله، وتتصدى لجيوش هتلر وألمانيا النازية التي احتلت فرنسا وأكثر دول أوربا في الحرب العالمية الثانية، وكادت تحتل إنجلترا نفسها، كان تشرشل رئيس وزراء بريطانيا يؤسس من لندن وبروح إمبراطورية صليبية (الحكومة العالمية) سنة ١٩٤٢م مع الرئيس الأمريكي رزفلت، لإدارة العالم بعد انتهاء الحرب التي لم يضمنوا بعد فيها النصر إلى تلك الحظة!

ويؤسس أيضا من القاهرة النظام العربي الوظيفي (الجامعة العربية) سنة ١٩٤٥م، الذي أشرف هو نفسه على تأسيس دوله منذ سنة ١٩٢١م في مؤتمر القاهرة -بما في ذلك تأسيس الملكية في مصر- الخاضعة للتاج البريطاني، لإدارة مستعمراتها في العالم العربي!

 وفي ظل الدولة المصرية الوظيفية للمحتل البريطاني؛ أسس الشيخ حسن البنا سنة ١٩٢٨م «الإخوان المسلمون»، وكان يراهن على قوة هذه الجماعة التي ستحمل المشروع الإسلامي، ويراهن على العمل السلمي، لبناء الإنسان المؤمن أولا، وإقامة المجتمع المسلم ثانيا، وعلى التعاون مع الملك والسلطة لتحقيق هذا الإصلاح، في ظل الاحتلال البريطاني، الذي بات يملك خبرة واسعة في إدارة الشعوب الإسلامية، والتحكم فيها، وتوظيف قواها لتعزيز وجوده، بعد أن قضى على آخر إمبراطورية إسلامية في الهند وعاصمتها دلهي سنة ١٨٥٧م، وعلى آخر ملوكها بهادر شاه، وأخمد الثورة فيها، واستطاع توظيف الفتوى نفسها والحركات الدينية لمواجهة كل حركات الثورة والجهاد في الهند، وأصبح المكتب الهندي البريطاني في بومباي هو الذي سيتولى شئون الخليج العربي وشرق الجزيرة العربية، وسيوقع الاتفاقيات السرية مع شيوخ الموانئ!

وبعد الهند توج الاحتلال البريطاني هذا النصر التاريخي، باحتلال مصر سنة ١٨٨٢م، ثم بهزيمة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، واحتلال القدس ١٩١٧م، ودمشق، ثم بغداد، وإسطنبول، ثم المدينة، ودخول الحجاز تحت حماية بريطانيا، حيث أصبح غرب الجزيرة العربية كذلك تابعا سياسيا وإداريا للمكتب البريطاني في القاهرة، وصار شرقها -الخليج ونجد- تابعا لمكتب بغداد التابع لحكومة الهند البريطانية!

وبعد أن ضم ابن سعود الحجاز رسميا لسلطانه سنة ١٩٢٥م بترتيب بريطاني -بعد أن خرج الشريف حسين عن الخطوط الحمراء وقام بالإعلان عن نفسه خليفة للمسلمين- أصبح ابن سعود فعليا تحت إدارة المكتب العربي في القاهرة التابع للندن، والذي قرر في اجتماع جدة ١٩٢٨م القضاء على حركة (إخوان نجد)، بعد خروجهم عن سلطة ابن سعود، فكانت معركة السبلة مطلع سنة ١٩٢٩، فتم بالطيران البريطاني -انظر كتابي «عبيد بلا أغلال»- القضاء على الثورة في نجد، وعلى القوة العسكرية الجهادية الوحيدة التي كان يمثلها «إخوان نجد»، والتي كان يقدر عددها بثلاثمائة ألف مقاتل، مما يشكل خطرا على الوجود العسكري البريطاني في المنطقة!

وفي هذا الفترة نفسها سيؤسس الشيخ البنا جماعة «الإخوان المسلمون»، بنفس الاسم، كجماعة دعوية سلمية، وبإذن رسمي من الحكومة المصرية الخاضعة للمحتل البريطاني آنذاك!

ولحاجة ابن سعود في الحجاز إلى دعوة دينية تملأ الفراغ الذي أحدثه القضاء على «إخوان نجد»، وحاجته للإعلام الذي يواجه به خصومه الهاشميين الذين خرجوا من الحجاز، وصاروا يحكمون سوريا، ثم العراق، والأردن، تحت حماية بريطانيا أيضا؛ وجد ابن سعود بغيته في الشيخ محمد رشيد رضا الذي كانت دعوته الدينية الإصلاحية ومجلته «المنار» هي الأوسع تأثيرا على الإطلاق في العالم الإسلامي، وكان رضا قد وقف مع الخلافة حتى سقوطها، وكفّر الشريف حسين لوقوفه مع بريطانيا ضد الخلافة العثمانية، وكتب بيانا للعالم الإسلامي يحذر فيه من وقوع الحجاز تحت النفوذ البريطاني، وقد فرح بسقوط مملكة الحجاز وخروج الشريف حسين من مكة، وبضم ابن سعود للحجاز، ظنا منه أنه لا علاقة له ببريطانيا، وأن من خرجوا عليه من «إخوان نجد» كانوا صنيعة للإنجليز وليس العكس!

توظيف الجمعيات الإسلامية المصرية لخدمة المشروع البريطاني في الحجاز:

وقد كانت علاقة الشيخ البنا بالشيخ رشيد رضا ومحب الدين الخطيب وعبدالعزيز جاويش وثيقة، وكانت علاقته بجمعية «الشبان المسلمين» وطيدة، وكان عضوا فيها منذ تأسيسها سنة ١٩٢٧م، فاستجاب لدعوة شيخه محمد رشيد رضا، ودعوة شيخه محب الدين الخطيب بالعمل في الدعوة بالحجاز، والانتداب للتدريس فيه، حيث الحاجة الشديدة فيه إلى الدعاة من مصر، وذلك في السنة نفسها التي أسس فيها البنا جماعته سنة ١٩٢٨م وهو ابن ٢٢ سنة، حيث يقول في مذكراته «الدعوة والداعية» ص ٩٠ بعنوان «إلى الحجاز»: (لم تنقطع صلتي بجمعية «الشبان المسلمين» طوال هذه الفترات، فكنت أبعث إليها بكثير من التقارير والملاحظات، وكان القائمون عليها يشعرون تمام الشعور بهذه الصلة الروحية التي تربطنا رغم البعد عن القاهرة، ومن ذلك أن فضيلة الشيخ حافظ وهبة مستشار جلالة الملك ابن سعود حضر إلى القاهرة رجاء انتداب بعض المدرسين من وزارة المعارف إلى الحجاز ليقوموا بالتدريس في معاهدها الناشئة، وكانت الطبقة المثقفة ترى في نهضة الحجاز الجديدة أملًا من آمالها وأمنية من أمانيها، فاتصل الشيخ حافظ وهبة بجمعية «الشبان المسلمين» لتساعده في اختيار المدرسين، فاتصل بي السيد محب الدين الخطيب وحدثني في هذا الشأن فوافقت مبدئيا، وكتب إلي بعد ذلك الأستاذ محمود علي فضلي سكرتير «الشبان المسلمين» حينذاك بتاريخ ١٣/ ١٠/ ١٩٢٨م هذا الخطاب:

«عزيزي البنا أفندي: أهديك أزكى سلامي وتحياتي، وأرجو أن تكون بخير. سبق أن كلمكم الأستاذ محب الدين الخطيب عن مسألة التدريس بالحجاز، وقد أرسل إلينا عبد الحميد بك سعيد لإخبارك بتحرير طلب لوزير المعارف «عن طريق المدرسة» تبين فيها رغبتك في الالتحاق بمدرسة المعهد السعودي بمكة، على أن تحفظ لك الوزارة مكانك بمصر وتمنحك علاواتك عند الرجوع مثل باقي إخوانك، وأملي أن تبادروا بإرسال الطلب حتى يمكن عرضه على مجلس الوزراء سريعا. وختاما تقبلوا فائق تحياتي».

وجاءني بعد ذلك الخطاب التالي بعد الديباجة من الدكتور يحيى الدرديري المراقب العام للجمعية بتاريخ ٦ نوفمبر سنة ١٩٢٨م، «هذا ونرجو التفضل بالحضور يوم الخميس المقبل الساعة ٧ مساءً بإدارة الجريدة [مجلة الفتح] وذلك لمقابلة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حافظ وهبة مستشار جلالة الملك ابن آل سعود للاتفاق معه على السفر وشروط الخدمة للتدريس في المعهد السعودي بمكة، وفي انتظار تشريفكم تفضلوا بقبول وافر تحياتي وأسمى اعتباراتي».

وفي الموعد التقينا وكان أهم شرط وضعته أمام فضيلة الشيخ حافظ ألا أعتبر موظفا يتلقى مجرد تعليمات لتنفيذها، بل صاحب فكرة يعمل على أن تجد مجالها الصالح في دولة ناشئة هي أمل من آمال الإسلام والمسلمين، شعارها العمل بكتاب الله وسنة رسوله وتحري سيرة السلف الصالح، وأما ما عدا ذلك من حيث المرتبات والامتيازات المادية وما إليها فلم أجعله موضع حديث فيما بيننا، وقد أظهر سروره لهذه الروح ووعدني أنه سيقابل وزير الخارجية ويتفاهم معه في هذا الشأن ويفيدني. وعدت إلى الإسماعيلية فكتب إلى فضيلته بتاريخ ١٢ نوفمبر سنة ١٩٢٨م هذا الخطاب: «عزيزي الأستاذ حسن البنا: تحية واحتراما وبعد: فقد قابلت اليوم صاحب المعالي وزير الخارجية وتكلمت معه فيما يتعلق بمسألتكم فأخبرني بأنه يرى من المستحسن مقابلتكم معه كي يسلمكم خطابا لوزير المعارف الذي هو على أتم استعداد لمساعدتكم ومساعدة كل من يريد السفر من الموظفين.»!

انتهى كلام الشهيد البنا، فقد جاء الشيخ حافظ وهبة مستشار الملك عبد العزيز بن سعود في زيارة لمصر في شهر ١١ سنة ١٩٢٨م -بترتيب بريطاني- لتوفير الدعاة من مصر لملء الفراغ الذي سيحدث قريبا في جزيرة العرب، وذلك فقط بعد ثلاثة أشهر من مؤتمر جدة الذي قررت فيه بريطانيا وابن سعود القضاء على حركة «الإخوان المسلمين» في نجد!

حسن البنا ودعوته للإصلاح:

وقد عبّر الشيخ حسن البنا عن دعوته وأهدافها ووسائلها في كتبه ورسائله، وكان يرى وجوب استعادة الخلافة الإسلامية من جديد، على أساس متين من بناء الفرد المسلم، والمجتمع الإسلامي، وتحكيم الشريعة، وكان يشيد برواد النهضة الحديثة في مصر الذين لو سار الإصلاحيون على خطاهم لتحقق ما يصبون إليه، فيقول في مذكراته ص ١٣٢ تحت عنوان «في سبيل النهضة»: (يجب أن تكون دعامة النهضة التربية، فتربى الأمة أولًا، وتفهم حقوقها تماما، وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق، وتربى على الإيمان بها.. على هذه القواعد بنى مصطفي كامل، وفريد، ومن قبلهما جمال الدين، والشيخ محمد عبده، نهضة مصر، ولو سارت في طريقها هذا ولم تنحرف عنه لوصلت إلى بغيتها أو على الأقل لتقدمت.. ولإفهام الناس هذه الحقيقة قامت جمعية «الإخوان المسلمين»..).

وقال تحت عنوان «سبيل نهضتنا» بعد أن نعى على الأحزاب السياسية والجمعيات الإسلامية ما هي فيه من تناحر وذلك عام ١٩٣٨م (لا نهوض لأمة بغير خلق – فإذا استطاعت الأمة أن تتشبع بروح الجهاد، والتضحية، وكبح جماح النفوس والشهوات أمكنها أن تنجح…

إن نهضتنا لا تزال مبهمة، لا وسائل لها، ولا غايات، ولا مناهج، ولا برامج!

سل أي زعيم سياسي: رئيس الوفد، أو رئيس الأحرار، أو رئيس حزب الشعب، أو رئيس حزب الاتحاد، عن المنهج الذي أعده للنهوض بالأمة والسير بها إلى نوال أغراضها..

لا شيء أبدا.. كل ما في الأمر تطاحن على الحكم، وتقرب من العدو [بريطانيا]، وانتظار لما يلقي إليهم من فضلات مائدته، على حساب مصر، وأهل مصر.

قل مثل ذلك تمامًا في الزعماء الإصلاحيين الدينيين!

سل الجمعيات الإسلامية عن برامجها؟ لا شيء كذلك!

يظهر أن النهضة في فجرها كانت خيرًا وأقوم سبيلًا.

كان مصطفي كامل ورجاله [الحزب الوطني] يريدون إعداد الأمة لكفاح طويل تتحرر فيه نفوسها وأخلاقها، فلا تلين لها قناة.. نادى مصطفي بوزارة المعارف الأهلية، ووضع جاويش [عبدالعزيز] مشروع المدارس التهذيبية الليلية للعمال وطبقات الشعب، واستقل عبد الرحمن الرافعي بالتأليف في حقوق الأمة، فكان من ذلك كتابه الذي رأيته، فهي سلسلة منظمة متصلة الحلقات، تتلاقى أطرافها عند ميدان واحد، أما الآن فقد نبغ زعماء أغرار لم يحنكوا بتجارب الزعماء فرضوا من الغنيمة بالإياب!

وكان جمال الدين، ومحمد عبده، والكواكبي يسيرون بالناس دينيًا وخلقيًا إلى ناحية مثمرة هي تصحيح العقائد، وتقويم الأفكار في ناحية جمعياتنا الإسلامية، والآن لا بد من توزيع متناسق لفروع النهضة..).

ويقول البنا أيضا في أول عدد يصدر من مجلة “النذير” سنة ١٩٣٨م بعد أن توقفت مجلة «الإخوان المسلمون» التي صدرت من سنة ١٩٣٣ – ١٩٣٦م وأشرف على إدارتها شيخه محب الدين الخطيب وكان يطبعها في المكتبة السلفية له: (أيها الإخوان تجهزوا: منذ عشر سنين بدأت دعوة الإخوان المسلمين خالصة لوجه الله، متقفية أثر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، سيد الزعماء، وأهدى الأئمة، وأكرم خلق الله على الله، متخذة القرآن منهاجها، تتلوه، وتتدبره، وتقرؤه، وتتفحصه، وتنادي به، وتعمل له، وتنزل على حكمه، وتوجه إليه أنظار الغافلين عنه من المسلمين، وغير المسلمين.

كذلك كانت وستظل دعوة «إسلامية محمدية قرآنية» لا تعرف لونا غير الإسلام، ولا تصطبغ بصبغة غير صبغة الله العزيز الحكيم، ولا تنتسب إلى قيادة غير قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تعلم منهاجًا غير كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..

والإسلام عبادة وقيادة، ودين ودولة، وروحانية وعمل، وصلاة وجهاد، وطاعة وحكم، ومصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر و«إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».

أقول لكم فاسمعوا: سننتقل من دعوة العامة إلى دعوة الخاصة، ومن دعوة الكلام وحده، إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال، وسنتوجه بدعوتنا إلى المسئولين من قادة البلد وزعمائه ووزرائه وحكامه وشيوخه ونوابه وأحزابه، وسندعوهم إلى مناهجنا، ونضع بين أيديهم برنامجنا، وسنطالبهم بأن يسيروا بهذا البلد المسلم بل زعيم الأقطار الإسلامية في طريق الإسلام في جرأة لا تردد معها، وفي وضوح لا لبس فيه، فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم، وإن لجئوا إلى المواربة والروغان وتستروا بالأعذار الواهية والحجج المردودة فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام، سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين..

وإن لنا في جلالة الملك المسلم أيده الله [الملك فاروق] أملًا محققًا، وفي الشعب المصري الذي صقلته الحوادث ونبهته التجارب ومعه الشعوب الإسلامية المتآخية بعقيدة الإسلام نظرًا صادقًا، وتأييد الله ومعونته قبل ذلك وبعده فإلى الأمام دائما..).

وقد ذكر البنا في مذكراته -ص ٣١٧- توليه لإدارة المنار بعد وفاة شيخه رشيد رضا فقال: (في مساء الخميس ٢٣ من جمادى الأولى سنة ١٣٥٤ هج الموافق ٢٢ أغسطس ١٩٣٥م، توفي السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامية، بعد أن دخلت في عامها الخامس والثلاثين، وصدر من هذا المجلد عددان هما الأول والثاني، وتوقفت عن الصدور بعد أن ظلت طوال هذه المدة مدرسة أنجبت الكثير من رجال النهضة الإسلامية الحديثة، ثم استأنفت نشاطها بعد فترة، وصدر العدد الثالث من المجلد الخامس والثلاثين في المحرم سنة ١٣٥٥هـ الموافق مارس سنة ١٩٣٦م وكذلك العدد الرابع، ثم توقفت المجلة عن الصدور مرة ثانية، وقد عز على الإخوان أن يخبو ضوء هذا السراج المشرق بالعلم والمعرفة من اقتباس الإسلام الحنيف، فاعتزموا أن يتعاونوا مع ورثة السيد رحمه الله على إصدار المنار من جديد، وقد تم الاتفاق على ذلك وصدر العدد الخامس من السنة الخامسة والثلاثين في غرة جمادى الآخرة سنة ١٣٥٨ هـ الموافق ١٨يوليو سنة ١٩٣٩م: أي قبل نشوب الحرب العالمية الثانية بعدة أشهر، وتلاه خمسة أعداد أخرى تمت بها السنة الخامسة والثلاثون من المجلة، ثم صدر أمر الحاكم العسكري في حكومة حسين سرى باشا بإلغاء الترخيص، وإن من واجب ورثة السيد أن يعهدوا إلى إحدى الهيئات أو بعض العلماء باستئناف صدورها من جديد ففي ذلك خير كثير إن شاء الله..).

وقد بدأ البنا يتواصل بشكل مباشر مع الخارج سواء الهيئات الإسلامية أو الحكومات، وذلك في أغسطس ١٩٣٥م حيث أرسل أول وفد إلى سوريا وفلسطين ولبنان كما ذكر تحت عنوان (دعوتنا في الأقطار الشقيقة).

 وقد ذكر في لائحة تنظيم الحج وإلزام أعضاء الجماعة به طلب الدعم المادي والمعنوي من الحكومتين المصرية والحجازية لحجاج الإخوان المسلمون، كما في مذكراته ص ٢٤٧. فكان حجّه الأول سنة ١٩٣٦م.

 وذكر البنا -في ص ٣١٤- أن أول لقاء مع مصطفي النحاس كان في أغسطس ١٩٣٥م، لإقرار التعليم الديني وجعله إلزاميا في المدارس الحكومية.

كما ذكر -في مذكراته ص ٢٩٠- أن أول دعم حكومي لجماعته كان في مايو سنة ١٩٣٧م.

وذكر -في ص ٣٢٣- يوم إعلان الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩م فقال يذكر تهدئته شباب الجماعة عن القيام بأي عمل ضد بريطانيا آنذاك: (ولا زلت أذكر يوم ٣ سبتمبر وأنا بإسنا وقد أعلنت الحرب العالمية الثانية، وفي عصر هذا اليوم انتقلنا إلى أصفون المطاعنة، واستقبلنا هنا بإطلاق البنادق، ونظرت إلى الإخوان وقلت لهم: على رسلكم يا إخوان ليس الميدان هنا! وليس اليوم، وإن يطل بكم زمن فسترون الكثير، فاصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون).

وقال عن موقف الجماعة من وزارة علي ماهر في تلك الفترة -ص ٣٢٣- كما نشرته افتتاحية مجلة «النذير» أغسطس ١٩٣٩: (ما موقف الإخوان المسلمين من الوزارة الجديدة؟ وقبل أن نجيب على هذا السؤال نود أن نمهد بالحقيقة الثابتة، وهي أن الإخوان المسلمين ليسوا حزبا من الأحزاب يؤيد أو يعارض تبعا لمصلحة حزبية أو جريا وراء منفعة شخصية، ولكن الإخوان المسلمين دعوة إسلامية محمدية اتخذت من الله غايتها، ومن الرسول صلوات الله عليه وسلامه قدوتها، ومن القرآن دستورها، ولها برنامج واضح الحدود، ظاهر المعالم، يرمى إلى تجديد الإسلام في القرن الرابع عشر، وصبغ الحياة المصرية بالصبغة الإسلامية، وهيمنة تعاليم القرآن على جميع مظاهر الحياة: من تشريع واجتماع وسياسة واقتصاد، كما يرمي إلى تحرير كل شبر في الأرض فيه نفس يردد «لا إله إلا الله محمد رسول الله» صلى الله عليه وسلم، وأخيرا نشر الإسلام ورفع راية القران في كل مكان حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. هذا برنامج ضخم لا يدانيه برنامج من برامج الأحزاب إن كان لها برامج ومناهج! وهو في نظر الكثيرين لون من ألوان الخيال، وضرب من ضروب الخيال، ولكنا نؤمن به، ونثق في أنفسنا معتمدين على تأييد الله، فموقفنا إذا من وزارة على باشا ماهر هو موقفنا من أية وزارة، موقف قديم لا يتغير بتغير الوزارات، ولا يتبدل بتبدل الوزراء، فمن أيد الفكرة الإسلامية وعمل لها واستقام في نفسه وفي بيته وتمسك بتعاليم القران في حياته الخاصة والعامة كنا له مؤيدين مشجعين، ومن عارض الدعوة الإسلامية ولم يعمل لها بل وقف في سبيلها أو حاول التنكيل بها كنا له أعداء وخصوما، ونحن في كلتا الحالتين إنما نؤيد ونعارض ونحب ونكره في الله).

وقد رفع خطابا إلى علي ماهر -ص ٣٢٩- يمد له يد التعاون في مواجهة تداعيات الحرب العالمية الثانية جاء فيه: (يا صاحب الرفعة إن موقف مصر الدولي يجب أن يكون واضحًا صريحًا، ويجب ألا تتورط الحكومة في شيء لا شأن لها فيه ولا صلة لها به. إننا أمة مستقلة تمام الاستقلال بحكم القانون الدولي، وبيننا وبين إنجلترا معاهدة تحالف قبلها من قبلها تحت ضغط ظروف وأحوال خاصة لا على أنها غاية ما ترجوه مصر، ولكن على أنها خطوة في سبيل تحقيق الأهداف المصرية السامية. وتنص المادة ٧ من هذه المعاهدة على أن مساعدات مصر إلى إنجلترا إنما تكون داخل البلاد المصرية، ومحصورة في حدود معينة، ولقد ظلت مصر وفيه كل الوفاء بهذه التعهدات، وعملت في ذلك أقصى ما يمكن أن تعمل، فكل زيادة على هذا لا يمكن أن يقبلها مصري، أيا كان لونه الحزبي أو السياسي، وكل زيادة على هذا تفريط وتضييع لحقوق هذا الوطن وجناية على هذه الأمة الناهضة الوفية.

فالإخوان المسلمون وهم الذين يرون في المعاهدة المصرية الإنكليزية إجحافا كبيرا بحقوق مصر واستقلالها الكامل يريدون من حكومة مصر ألا تتجاوز هذه الحدود المرسومة على ما فيها من إجحاف بأية حان، ومهما كانت الدوافع إليه).

ثم يختم مذكراته بخطابه إلى علي ماهر يشكر له وقوفه مع قضية فلسطين، ويحثه على التفاهم مع بريطانيا لحلها حلا سياسيا، يرضي الطرفين، ويقول في آخره: (فالمسعى السياسي لحل قضية فلسطين أهم بكثير من هذا المسعى الإغاثي على جلاله ورحمته، ولعل الظروف الحالية هي أنسب الظروف لإعادة النظر في هذه القضية، وليس عليكم يا رفعة الرئيس إلى أن تكاشفوا الساسة البريطانيين بوضوح وجلاء بحقيقة الموقف، وتطلبوا إليهم حل القضية الفلسطينية على هذه القواعد:

1- إيقاف الهجرة اليهودية القانونية إيقافًا تامًا، وأخذ المهربين بأقصى الشدة حتى تظل الغالبية في فلسطين عربية.

2 – العفو الشامل عن كل المعتقلين والمبعدين والمجاهدين، والسماح بالعودة للمهاجرين، وفي مقدمتهم سماحة زعيم فلسطين المفتي الحاج محمد أمين الحسيني، وإن أي مهاجر لا يرض أن يعود إلى الوطن إلا إذا أعلى هذا الحق لسماحة المفتي.

3 – إظهار عطف الحكومة المصرية على أسر المهاجرين بمنحهم الإعانات والتسهيلات التي تعوض عليهم بعض ما فقدوا من أرواح وأموال، وتضمن لهم الراحة في معيشتهم وظروف حياتهم.

4- اعتراف الحكومة البريطانية باستقلال فلسطين عربية مسلمة، والتعاقد معها تعاقدًا شريفًا على نحو ما حدث في مصر والعراق مثلا.

ونحن نعتقد أنكم بذلك تقدمون لبريطانيا خدمة جليلة بقدر ما تخدمون عرب فلسطين، فالفائدة للطرفين معا، ونعتقد كذلك أنكم إذا جليتم للساسة البريطانيين حقيقة شعور الشعب المصري وهو بلا شك صورة من شعور غيره من الشعوب الإسلامية، وأقنعتموهم بأن بريطانيا حين تفعل هذا تقر إلى أبعد حد بالتأييد القلبي والعملي من الشعوب الإسلامية والعربية كلها، وتسد الباب على الطاعنين عليها، وتقدم بذلك دليلا على أنها تقدر العدالة والإنصاف؛ كان ذلك سببا للعمل من جديد على إنصاف فلسطين الباسلة والاعتراف بحقوقها كاملة. وفقكم الله للخير ويسره على يديكم)!

فلم يكن الشيخ البنا هنا يرى الدخول أصلا في حرب مع المحتل البريطاني الذي يحتل فلسطين والقدس ومصر نفسها، بل يرى التفاهم معه، والالتزام بمعاهدة ١٩٣٦م التي رفضها الشعب المصري، وأدت لفقده الثقة بالوفد وبمصطفي النحاس!

هذا كله في الوقت الذي كان سيد قطب يرى بأن الحرب العالمية الثانية كانت أفضل فرصة لثورة الشعب المصري على بريطانيا نفسها، وتحرير مصر من قبضتها، ويرى بأن تفويت هذه الفرصة دليل خور في الروح المصرية، وعجز في قياداتها السياسية كما صرح بذلك في مقاله “ويلات السلم”!

وقد دعا الشيخ البنا الشعوب الإسلامية صراحة إلى عدم الإخلال بالتزاماتها تجاه دول الحلفاء -بريطانيا وفرنسا- أثناء الحرب العالمية، وذلك بعد توليه إدارة مجلة “المنار” التي كانت تصنع الرأي العام الإسلامي وتوجهه آنذاك، فقال في عدد ٣٥ / ٤٧٥ أغسطس ١٩٣٩م بعنوان “موقف العالم الإسلامي السياسي”: (لقد قدمنا أن العالم الإسلامي قضت عليه ظروف وأوضاع ان يرتبط بالدول التي تسمي نفسها ديمقراطية وهي إنجلترا وفرنسا ارتباطا وثيقا، وأن تشتبك مصالحه بمصالحها اشتباكا قويا، وقد برهنت الحكومات والشعوب الإسلامية من جانبها أنها وفية لهذه المصالح، مقدرة للموقف تمام التقدير، منزهة عن العبث والكيد الرخيص والاستغلال الذي لا يتفق مع الشرف الدولي والنزاهة النبيلة، وأخذت الحكومات المتعاهدة مع إنجلترا كمصر والعراق تنفذ تعهداتها بكل إخلاص.

ومع هذا كله فإلى الآن لم تقدم الدول الديمقراطية دليلا واحدا على تقديرها لهذا الموقف النبيل من الشعوب الإسلامية، واكتفت بأن تتناولها ببعض كلمات المديح والإطراء في الخطب والمقالات التي لا تقدم ولا تؤخر، فسوريا الجنوبية (فلسطين) لا تزال قضيتها حيث هي، لم يؤثر فيها تصريح المفتي الأكبر بالثناء على فرنسا، ولا كتابه للحاكم البريطاني، ولا تصريح المجاهدين أنفسهم بأنهم لن يطعنوا إنجلترا من الخلف، ولن يستغلوا اشتغالها بالحرب الأوربية في الاتفاق مع خصوصها أو التقرب إليهم، وكان أقل مقتضيات رد الجميل في مثل هذا الموقف أن تأمر الحكومة الإنجليزية حالا بالإفراج عن المعتقلين، والتصريح بالعودة للمبعدين، والعفو الشامل عن المسجونين، وإعادة النظر في سياستها بالنسبة للحقوق العربية الواضحة.

وسوريا الشمالية لا يزال الأمر فيها على ما كان عليه، ولم تظفر إلى الآن من فرنسا حتى بوعد منها أنها ستعود إلى الإنصاف والعدل، بل حوكم كثير من رجالاتها، وحكم عليهم بأحكام قاسية شديدة تقبلوها راضين هادئين.

وسوريا الوسطى (لبنان) تغير فيها نظام الحكم تغيرا تاما ولو إلى حين كما يقول المندوب الفرنسي، وأوقف دستورها، وحكمت حكما أجنبيا مباشرا أو ما يقرب منه.

وكان من واجب الدول الديمقراطية أن تنتهز هذه الفرصة فتعدل سياستها مع هذا القطر الشقيق وبخاصة فرنسا التي شهدت أن أول دم أهدر على أرضها وللدفاع عن حدودها أمام خط ماجينو إنما كان دم المسلمين العرب من المغاربة الجزائريين والسنغاليين.

إن شعوب العالم الإسلامي قسمان: قسم تحت سلطان الحكم الأجنبي المباشر، وهذا لا يملك أمر نفسه ولا يستطيع أن يختط لنفسه طريقا خاصة، فهو تحت رحمة الأقدار، ونسأل الله أن يتداركه بلطفه ورحمته.

وقسم قد تحرر ولو بعض الحرية، فمن واجبه في هذه الظروف العصبية -حكومات وشعوبا- أن يكون دائم اليقظة والتنبه للحوادث والمفاجآت، فلا يتورط في خطوات وخصومات هو في غنى عنها ولا تعود عليه بشيء، وليلتزم الحدود التي رسمتها له الاتفاقات والمعاهدات، وعليه أن ينتهز هذه الفرصة للإسراع في إعداد العدة وتقوية نفسه تقوية تنفعه في المستقبل وتحفظ عليه كيانه واستقلاله بعد أن تضع الحرب أوزارها، وعليه كذلك أن يكون مطمئنا هادئا، فإننا إن لم نستفد من هذه الحرب القائمة فلن نخسر فيها أكثر مما يخسر غيرنا، والصلح خير لنا، والحرب ليست بضارة بنا {وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم})!

انتهى كلام الشيخ البنا ورأيه فيما ينبغي من تفاهم بين الدول الأوربية الديمقراطية ودول العالم الإسلامي الذي يخضع لها، وهو ما لم يكن يقبله سيد قطب ولا كل دعاة الثورة والجهاد في العالم الإسلامي آنذاك، فقد دعا الشيخ البنا الشعوب الإسلامية في الدول الإسلامية وحكوماتهم إلى الهدوء وعدم الاخلال بمعاهداتهم مع المحتل البريطاني الفرنسي حتى تنقضي الحرب، كما دعا الشعوب الإسلامية الخاضعة لدول غير إسلامية إلى تسليم أمرهم إلى القدر، وترقب اللطف الرباني! وهو كل ما تحتاجه بريطانيا وفرنسا!

سيد قطب وعوائق النهضة:

وقد بدأت بريطانيا فعلا بالاتصال المباشر بجماعة (الإخوان المسلمون) سنة ١٩٤٢م، في السنة نفسها التي كان تشرشل يؤسس مع روزفلت لقيام (الحكومة العالمية)!

بينما كان الشهيد سيد قطب رحمه الله يدعو إلى الثورة والجهاد والكفاح، ويراهن على الأمة وشعوبها ووعيها، وقدرتها على التغيير، إذا وعت واقعها، وعرفت عدوها، وأنها مهما وهنت فإنها لا تموت، وكان يرى العقبة أمام الشعوب والثورة تتمثل في:

١- الدول والأنظمة الوظيفية التي تخدم المحتل الغربي وتحقق مصالحه، والتي يفرضها الاستعمار ويحميها بجيوشه وقواعده واتفاقياته، كما عبّر عن ذلك سيد صريحا في الرسالة مقاله “الكتلة الإسلامية في الميزان الدولي” عدد ٩٤٩ بتاريخ ١٠/ ٩/ ١٩٥١م:

(هذه الكتلة المتصلة الحدود من شواطئ الأطلنطي إلى شواطئ الباسيفيكي؛ والتي تضم مراكش، وتونس، والجزائر، وليبيا، ومملكة وادي النيل [مصر والسودان]، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، والمملكة العربية، واليمن، وتركيا، وإيران، وأفغانستان، وباكستان، وإندونيسيا.

هذه الكتلة التي يربو عددها على مائتين وخمسين مليونا من السكان؛ والتي تملك أغنى منابع البترول والمواد الخامة؛ والتي تتحكم بمواقعها الاستراتيجية في مواصلات العالم.

هذه الكتلة تملك أن يكون لها وزن، حتى ولو كانت مجردة من السلاح؛ وتملك أن تجعل كل كتلة من الكتلتين المتنازعتين [الرأسمالية الغربية والشيوعية الشرقية] تفكر مرتين قبل الإقدام على حرب، تجتاح فيها هذه المناطق الشاسعة، التي تقوم حاجزا بين الكتلتين لا تلتقيان إلا باجتياحه.

هذه الكتلة تملك هذا كله إذا وصلت درجة اليقظة فيها إلى الحد الذي تقف به في وجه الدعايات المزيفة التي يقوم بها دعاة كل من الكتلتين فيها!

 إذا هي عرفت كيف تجبر حكامها والمستغلين فيها على انتهاج سياسة قومية خالصة!

إذا هي نظمت اقتصادياتها وإمكانياتها وخلصتها من الاستعمار الاقتصادي الذي يمكن له فيها حكامها أو أصحاب رؤوس الأموال المستغلين الذين لا يهمهم وطن ولا قومية ولا دين!

وأنا أكتب هذا للشعوب، لا للحكومات، أكتبه للجماهير، لا للمستغلين، وأنا مؤمن بالشعوب والجماهير في تلك الرقعة العريضة من الأرض، وأياما كانت عوامل الضعف والفرقة، وعوامل الضغط والكبت، فإن واجب الدعاة ألا يفقدوا إيمانهم بالشعوب، فالشعوب تملك متى تريد، تملك أن تسبب المتاعب للأقوياء ولحلفائهم من أهل البلاد، تملك أن تكلف هؤلاء وهؤلاء عنتا دائما لا يأمنون معه الاندفاع، ولا يحمون ظهورهم معه من الاضطراب والانتقاض.

ولقد آن للشعوب أن تضع حدا لذلك العبث الآثم الذي يزاوله حكامهما والمستغلون فيها، وأن تقرر مصائرها بأيديها، وتقطع كل يد تعبث بهذه المصائر لغاية خاصة لا تعنى هذه الشعوب!

لقد ضاعت فلسطين على مذبح المنافسات بين عدة بيوت حاكمة، لا لأن قوى الأمة العربية -أيا كانت ضعيفة- عجزت عن الوقوف أمام حفنة من اليهود، مهما جاءتهم النجدة من الكتلة الشيوعية، والكتلة الرأسمالية. ولو كان في مجموعة الشعب العربي من الحيوية إذ ذاك ما تحطم به أطماع الطامعين، وتضرب على أيديهم العابثة، ما وقعت الكارثة.

إنني أهتف بالجماهير في تلك الكتلة المترامية الأطراف أن تفتح أعينها فلا تسمح مرة أخرى بتمثيل المأساة، ولا تستجيب للمستنفعين فيها، حين يريدون أن يقودوها كالذبيحة لتقف مع هذه الكتلة أو تلك، بينما هي تملك أن تسبب الاضطراب للكتلة التي تدوس أرضها، وتدوس كرامتها؛ وبذلك تملك أن يتمتع العالم بفترة سلام أخرى، تنشأ من تردد كل من الكتلتين في أن تكون البادئة، وأن تكسب بذلك عداء الكتلة الثالثة.

وليس هذه الدعوة التي أدعوها هنا مستحيلة. وما يراها مستحيلة إلا الذين يختانون أنفسهم، ويحتقرون ذواتهم، وييئسون من الشعوب التي تملك كل شيء حين تريد!

إنني يائس من الزعماء، يائس من الحكومات، يائس من مئات أو ألوف خدعتهم الدعاية الرأسمالية أو الداعية الشيوعية -ولكنني لست يائسا من الشعوب- على ما يجثم عليها من جهل ومن ضغط اقتصادي، ومن قنوط في بعض الأحيان. إن هذا كله إلا غاشية سطحية تزول، وستقف هذه الشعوب على قدميها يوما، وستحطم كل من يعترض طريقها من المستعمرين والمستغلين! ونحن في الطريق).

٢- الأحزاب الوظيفية والطبقة السياسية الذين صنعها الاستعمار الغربي، وصدرها لقيادة المجتمعات الإسلامية، وقد كتب مقاله (دم ونار) في مجلة الرسالة عدد ٩٦٨ بتاريخ ٢١/ ١/ ١٩٥٢ حين بدأت إرهاصات الثورة الشعبية على بريطانيا في مصر، فقال فيه:

(الحمد لله الذي بدل قضية هذا الوادي من قضية محادثات ومفاوضات ذليلة مهينة، إلى قضية نار ودم وكفاح أبي عزيز. الحمد لله الذي بدل هذه القضية عداءً صريحا جاهرا للاستعمار وقراصنة الاستعمار.

الحمد لله الذي أخرج هذه القضية من أيدي نفر قليل من السياسيين، والدبلوماسيين، والمستوزرين، والرأسماليين، إلى أيدي الملايين من شعب الوادي أصحاب البلد الحقيقيين.

الحمد لله الذي سخر روبرتسون وإرسكين وأكسهام، لكي يحرقوا مراكبهم مع هذا الشعب، ويركبوا رءوسهم على هذا النحو، ويرتكبوا الحماقة التي أخرجتهم من أمريكا، وأخرجتهم من الهند، وستخرجهم بإذن الله قريبًا من كل شبر من الأرض، دنسته أقدام القراصنة النجسة..

اليوم قضي الأمر، وتثأرت الثارات والأحقاد بين هذا الشعب وبين القراصنة، فاللهم لا سلم بعد اليوم مع هؤلاء السفاكين، ولا معاهدة بعد اليوم مع الفجار، ولا تحالف بعد اليوم مع الأعداء، ولا شيء إلا الكفاح الدامي، وإلا الدماء والنار، بيننا وبين الأوغاد.

ولا يحسبن أحد أنه أقوى من هذا الشعب، ولا أكبر من هذا الشعب، ولا أرفع من هذا الشعب، ولا أعلى من هذا الشعب. ولا يحسبن أحد أنه من الدهاء بحيث يخدع هذا الشعب عن أهدافه الواضحة المرسومة، ولا أنه من الحيلة بحيث يصرف هذا الشعب عن ثاراته المقدسة، ولا من القوى بحيث يقف في وجه التيار..).

وكتب في ٤/ ٢/ ١٩٥٢م في الرسالة عدد ٩٧٠ مقاله “بداية النهاية” فقال: (أيا كانت الظروف والأحوال، فإن الاستعمار الغربي قد بدأ نهايته، بدأها في كل مكان، وبخاصة في العالم العربي الإسلامي الذي يصطدم بالاستعمار اليوم في جبهات متفرقة، ولكنها كانت متصلة، يصطدم به اصطداما ظاهرًا واضحًا في مصر، وفي تونس، وفي مراكش، وفي إيران، كما يصطدم بهد اصطداما خفيًا في العراق، وفي سورية، وحركة الجزائر ما تزال مستمرة، وفي هذه الأيام يقع اصطدام جديد على حدود اليمن، وكلها حركة واحدة للخلاص، وكلها تشير إلى النهاية المحتومة رغم جميع الظروف والأحوال..

وكل من يتصور أن الشعوب سترجع القهقري عن موقفها الذي انتهت إليه، تحت أي ظرف، وتحت أية مناورة، إنما يخطئ في فهم طبيعة الحركات الشعبية، وينسى عبر التاريخ وشواهده، إن كل خطوة يكسبها الشعب لا يمكن أن يتخلى عنها، لأن حركة الشعب هي حركة الزمن، والزمن لا يرجع القهقري، ولا يتحرك مرة إلى الوراء.

ولقد يخفت صوت الشعوب أحيانًا، وتتوارى حركتها، ولكن هذا ليس إلا ستارًا ظاهريًا لحركات خفية إلى الأمام، حركات تتم في ضمير الشعب، وتنضح في أعماقه، ثم تبدو في صورة فورة جديدة، وقفزة واسعة، يخيل إلى بعض الناس أنها مفاجئة، وليست في حقيقتها إلا امتدادًا طبيعيًا لم تظهر خطواته، لأنها كانت تتم في صمت، في أثناء فترة السكون.

إنها بداية النهاية، فعلى بركة الله فلتسر مصر، ولتسر تونس، وليسر كل بلد يشتبك اليوم في معركة التحرير الخالدة التي أوقدها الله).

٣- كما تتمثل العقبة في نظر سيد أمام تحرر الأمة وشعوبها في الإعلام المأجور، والصحف العميلة، التي اخترق الاستعمار بها وعي الأمة وشعوبها، كما ذكر في مقاله “هل الأدب قد مات” -في مجلة الرسالة عدد ٩٤٣ بتاريخ ٣٠/ ٧/ ١٩٥١م- (إن الصحف المصرية -إلا النادر القليل- مؤسسات دولية، لا مصرية، ولا عربية!

مؤسسات تساهم فيها أقلام المخابرات البريطانية، والأمريكية، والفرنسية، والمصرية، والعربية أخيرًا!

مؤسسات تحرر صفحات كاملة منها بمعرفة أقلام المخابرات هذه لتروج في أوساط الجماهير!

مؤسسات تخدم الرأسمالية العالمية أكثر مما تخدم قضايا الشعوب العربية!

وتخدم الاستعمار الخارجي والجهات الحاكمة قبل أن تخدم أوطانها وشعوبها الفقيرة!

وهذا هو السر في أن الدولة لا تفرض عليها القيود التي تفرضها على الكتب؛ لأن وراءها أقلام المخابرات، ومصالح الرأسمالية العالمية، وهي كفيلة بأن تسندها، وتذلل لها العقبات، وتفسد لها الطريق، لنشر دعايتها المستورة في أطراف البلاد العربية جميعا).

٤- وفي الكتّاب والمفكرين المفتونين بالغرب وحضارته وفلسفاته الوضعية، كما عبر عن ذلك سيد وهو في واشنطن في مقاله “إلى توفيق الحكيم” في مجلة الرسالة عدد ٨٢٨ بتاريخ ١٦/ ٥/ ١٩٤٩م:

(فكرة أريد أن أصححها عن «الفلسفة الإسلامية» كما يصورها ابن رشيد وابن سينا والفارابي، فقد ألممت بهذا في بحثك الممتع الطويل.

إن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها «الفلسفة الإسلامية» بمعنى أنها قد وجدت في أرض إسلامية على يد أفراد مسلمين.

ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها «فلسفة الإسلام» وقد آن أن تصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة!

إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلا انعكاسات للفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي، وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان، هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة.

ما أشبه الدور الذي قام به هؤلاء الفلاسفة الإسلاميون بالدور الذي تقومون أنتم به الآن -أنت وجيل التمهيد من الشيوخ- فتنة بالفلسفة الإغريقية، ومحاولة لتفسير الإسلام على ضوء هذه الفلسفة، والإسلام يحمل فكرة مستقلة مختلفة في طبيعتها الأصلية، عن طبيعة الفكرة الإغريقية من الأساس!

من أذهانهم لا من قلوبهم استمدوا فلسفتهم، وهكذا تعملون!

لهذا وجدت تلك الفلسفة اهتمامًا وعناية من الأوربيين ورثة الإغريق؛ لأنهم قادرون على فهمها والإحساس بها، أما فكرة الإسلام الصميمة الكلية عن الكون والحياة والإنسان فهي شيء آخر لم تصوره تلك الفلسفة، ولم يتمثله الأوربيون. وتبعًا لذلك لم يتمثله المحدثون من المسلمين الذين يتلقون كل ثقافتهم عن الأوربيين!

ومالي ألومكم أنتم، والأزهر ذاته لا يدرس في كلياته إلا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام!

أنا واثق أن سيكون لنا «أدب خالد»؛ وأن ستكون لنا حياة فكرته وإنسانية ملحوظة، ذلك يوم نؤمن بأنفسنا، يوم نشعر أن لدينا ما نعطيه، يوم نستلهم طبيعتنا الأصلية، يوم نهتدي في ذواتنا إلى النبع العميق).

وقد شنّ سيد بعد الثورة مباشرة حملة شعواء على الأقلام المأجورة للغرب في مقاله “الرجل الأبيض عدونا” قال فيه محذرا من الكتّاب المأجورين: (كتّاب خانوا أماناتهم للوطن، وخانوا أماناتهم للإنسانية، فوقفوا أقلامهم طويلًا على تمجيد فرنسا، ومع ذلك فإن بعضنا لا يزال يهتف لهم، ويعدهم روادًا للفكر في الشرق! إنني أفهم أن تهتف لهم فرنسا، أو أن تهتف لهم إنجلترا، أو أن تهتف لهم أمريكا.. أما أن نهتف لهم نحن العرب فهذا هو الهوان البشع، الذي لا يقدم عليه فرد وله كرامة!

إن مكان هؤلاء اليوم كان ينبغي أن يكون مكان الجواسيس والخونة والطابور الخامس، لا مكان التمجيد والتقدير والاحترام.

كل رجل غمس قلمه ليمجد فرنسا، أو يمجد إنجلترا، أو يمجد أمريكا.. هو رجل منخوب الروح، مستعمر القلب، لا يؤتمن على النهضة القومية، ولا يجوز أن يكون له مكان في حياة هذه البلاد بعد نهضتها..).

٥- كما عدّ سيد قطب توقف الأزهر عن القيام بمسئوليته العلمية والاجتهاد فيها سببا من أسباب تأخر النهضة في العالم الإسلامي، وعجز الفكرة الإسلامية عن القيام بدوره السياسي والاجتماعي والتشريعي، ومواجهة الأفكار والنظم العالمية الجديدة التي تتصارع على العالم الإسلامي، وكتب في ١٨/ ٦/ ١٩٥١م في الرسالة عدد ٩٧٣ مقاله «للأزهر رسالة لكته لا يؤديها» قال فيها: (هذا المعهد العظيم العريق، الذي قام حارسًا على الثقافة العربية، والثقافة الإسلامية، زهاء ألف عام.. لم ينته دوره بعد، ولم تكمل رسالته. ودوره الذي ينتظره كبير، ورسالته التي تناديه ضخمة.

ولكنه لا يؤديها!

لقد أدى الأزهر دوره في تلك الأجيال المتعاقبة التي انحسر فيها المد الإسلامي، ووقف جريانه؛ وانطوى فيها العالم الإسلامي على نفسه، وانزوي عن الركب المندفع إلى الأمام، وراح يجتر ما أنبتته النهضة وما خلفته، فيستهلكه ولا يزيد عليه.

أدى الأزهر دوره في هذه الحقبة فوقف حارسًا على ذلك التراث، يؤدي وظيفة الحارس، ولا يضيف للتراث شيئًا يذكر، ولم تكن هذه بالمهمة الهينة في ذلك الأوان، ولا بالقليلة القيمة في تاريخ الشعوب…

إن للإسلام فكرة مستقلة معينة عن الحياة، فكرة كلية تمد فروعها إلى كل جانب من جوانب الحياة الإنسانية الكثيرة. وإن للإسلام رأيًا في الشعور والسلوك، في العبادة والعمل، في الاقتصاد، والاجتماع، في سياسة الحكم وسياسة المال، في سياسة الدولة الخارجية والداخلية… في كل باب من أبواب النشاط الإنساني في كل اتجاه.

ورسالة الأزهر الأولى هي أن يعكف على استخلاص هذه الفكرة الكلية، وعلى تنميتها بالبحوث والدراسات في كل حقل من حقول المعرفة، وعلى إعدادها للتطبيق العملي في واقع الحياة اليومية الحاضرة، ثم على الدعوة إليها في النهاية بعد هذه الخطوات.

رسالة الأزهر الأولى أن ينشئ ثقافة إسلامية كاملة مستمدة من الأصول الأولى للإسلام، ومن الحياة النامية المتجددة في كل آن.. هذه الثقافة لن يجدها الأزهر في الحواشي والشروح والتنبيهات والاعتراضات، أو قد يجدها ولكن في حاجة إلى أن تعرض بأسلوب العصر وطريقته، وأن تنمى بالدراسات والإضافات، كي تصبح في متناول الجماهير كلها، وفي حقول الثقافة جميعها…).

٦- كما يرى سيد في مناهج التعليم الحكومي خطرا على الوعي العام، فهي تسهم في تضليل العقل الجمعي، وتزييف الوعي بما يخدم الاستبداد والاحتلال، وكتب مقاله “صيحة في وجه المعارف” عدد ١٠٠١ بتاريخ ٨/ ٩/ ١٩٥٢م -وذلك بعد الثورة وقيام الجمهورية وسقوط الملكية- وجاء فيه: (لقد تركنا أجيالا من التلاميذ والطلاب في خلال مائة وخمسين عاما مضللة، لا تعرف شيئا حقيقيا عن أخطر مرحلة في تاريخ مصر الحديث، بل في تاريخ الشرق كله!

تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن محمد علي أوجد مصر الحديثة من العدم، ولم يكن هذا صحيحا؛ فمصر كانت قبل محمد علي أقوى بكثير في جوانب شتى!

ويكفي أن نعرف أن الفرنسيين عندما استولوا على مصر خاضوا مع الشعب معارك كثيرة وفي كل مكان قبل أن تخضع مصر لهم؛ وظلت الثورات الشعبية تهددهم طوال مدة إقامتهم. وكان ذلك قبل استيلاء هذه الأسرة الملوثة الشاذة على مقاليد الحكم في البلاد. بينما الإنجليز وجدوا الطريق أمامهم مفتوحة بعد نصف قرن فقط، ولم يجدوا مقاومة شعبية تذكر؛ لأن طغيان هذه الأسرة كان قد حطم كبرياء الشعب وروحه المعنوية في أوائل عهد توفيق!

تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن تحطيم محمد علي للحركة الوهابية في الجزيرة العربية كان عملا عظيما. وهو في حقيقته كان جناية تاريخية على النهضة الإسلامية التي كان يمكن أن تبكر مائة عام عن موعدها، لو تركت هذه الحركة تمضي في طريقها، وتبلغ أهدافها في ذلك الحين.

تركنا هذه الأجيال كلها تفهم أن ثورة المهدي في السودان كانت عملا عدائيا بالنسبة لمصر، وأن مصر ردت هذا العمل العدائي وحطمت المهدي وثورته، والحقيقة أن ثورة المهدي في السودان كانت ضد الحكم الإنجليزي في مصر وضد الحكام الخاضعين للاحتلال. وكان هدفها تطهير الوادي من الاحتلال الأجنبي وسيطرة الفكرة الإسلامية على الوادي كله، وكان القضاء عليها هو الخيانة الوطنية التي ارتكبتها حكومة مصر تحت ضغط الاحتلال؛ ثم ظلت هذه ثغرة بين شطري الوادي؛ كما أراد لها الاستعمار أن تكون)!

٧- كما حذر سيد من الطبقة المثقفة، والنخب المتعلمة، التي أصبحت بعد التعليم الحديث غربية الفكر، غريبة الروح والشعور، بعد أن انفصلت عن أمتها ودينها وشعوبها، من خريجي الجامعات الغربية وخريجي مناهجها في العالم العربي، ومن تأثر بهم، وقد كتب سيد في مجلة الرسالة عدد ٩٩٥ بتاريخ ٢٨/ ٧/ ١٩٥٢م مقاله «نقطة البدء» بعد حدوث الثورة في مصر وقيام الجمهورية وجاء فيه: (لقد قال لي محدثي الثائر: دعوا الاستعمار لا تحاربوه الآن. نحن لا يهمنا أن يكون في أرضنا مليون من الجيوش الاستعمارية. إذا كان لدينا عشرة ملايين فقط من المواطنين المتعلمين. إن ألمانيا بالجيوش الروسية والأمريكية والإنكليزية والفرنسية، ولكن الجميع يترضونها، لأن الشعب الألماني شعب متعلم، لا يمكن أن تحكمه جيوش المستعمرين..

وقال: دعوا الكفاح الاجتماعي لتعديل الأوضاع الاقتصادية -وحتى الدستورية- فهذه الأوضاع التي تشكون منها ستعدل نفسها بنفسها يوم يستحيل الشعب المصري أو أي شعب عربي أو إسلامي إلى شعب متعلم..

كنت أريد أن أفهم محدثي أن هذا كله صحيح، ولكن هنالك أشياء أخرى يجب أن تكون في الاعتبار، لولا أنه لم يترك لي فرصة للكلام؟

نعم. إن الاستعمار لا يملك أن يعيش في بلد متعلم..

نـعم إن الحرمان لا يمكن أن يدوم في شعب متعلم..

نعم إن الطغيان لا يمكن أن يقوم في وطن متعلم..

نعـم. كل هذا صحيح؛ ولكن بقي أن نعرف: من هو الشعب المتعلم؟ ومن هو الفرد المتعلم؟

إنني أومن بقوة المعرفة، أومن بقوة الثقافة، ولكني أومن أكثر بقوة التربية…

إنـني أنظر في تاريخ الاستعمار، فلا أكاد أجد له إسنادا إلا من المتعلمين!

كل الرجال الذين قدموا للاستعمار خدمات ضخمة، الذين مهدوا للاستعمار ومكنوا له، الذين كشفوا له عورات البلاد ومقاتلها، الذين تولوا عنه تحطيم معنويات الوطن وقواه الكامنة، الذين جعلوا أنفسهم ستارًا لمساوئ الاستعمار ومخازيه.. كلهم.. كلهم كانوا من المتعلمين!

كذلك كان الذين مهدوا للطغيان وأعانوه استمرءوا سلطان الجبابرة وهم يؤدون ضريبة الذل والعبودية..

الذين استغلوا النفوذ للإثراء على حساب الشعب..

الذين أفسدوا ضمير الشعب بالمحسوبية والرشوة والسرقة والغش..

الذين خانوا الوطن والأمانة والخلق والضمير..

كلهم كانوا كذلك من المتعلمين!

نعم. إنه لو كانت الشعوب أو كثرتها من المتعلمين ما أمكن للسماسرة أن يسلموا البضاعة بهذا اليسر وهذه السهولة. هذا صحيح. ولكنه صحيح كذلك أن (الصنف) المتعلم الذي تخرجه المدارس في بلادنا اليوم، ليس هو الذي يقف في وجه التيار، وليس هو الذي يستعصي على السماسرة، بدليل أن كثرته يجرفها تيار العبودية والذل والفساد، دون أن ترفع رأسها، ودون أن تدافع عن كرامتها، بل عن إنسانيتها..

إن أنشودة (أكل العيش) هي النشيد القومي للجميع! وأكل العيش ممكن في ظلال الكرامة لو أرادها الجميع.

إن التعليم الذي نزاوله في مصر، ومعظم البلاد الإسلامية، تعليم فاشل، بل تعليم قاتل. إنه تعليم بلا تربية، بل تعليم يكافح التربية. إن المدارس والجامعات تخرج لهذه الأوطان فتاتًا آدميًا وحطامًا بشريًا. تخرج له عبيدًا. نشيدهم القومي الخالد هو أنشودة (أكل العيش)…

نعم يجب أن ينتشر التعليم؛ ولكن أي تعليم؟ يجب أن يقوم هذا التعليم على أسس ثقافية سليمة، وعلى أسس تربوية سليمة. نعم وينبغي أن تكون له مثل، وأن تكون به روح.

وإلى أن يقيض الله لوزارة المعارف رجالا يؤمنون بهذا ويقدرون في الوقت ذاته على مقاومة الميكروبات الاستعمارية الكامنة في وزارة المعارف، في صورة كبار الموظفين!

إلى أن يقيض الله لوزارة المعارف أولئك الرجال، فليس أمامنا لمكافحة سموم الأجهزة التعليمية الحاضرة إلا المحاضن الخاصة، التي تتلقف الشباب الضائع، والحطام المفتت، فتعيد صياغته في قوالب جديدة سليمة، وفي جو روحي نظيف. لترد هذا الشباب الضائع الحائر رجالا كرامًا على أنفسهم، كرامًا على أوطانهم، كراما على ربهم…

وهذا ما يحاوله.. «الإخوان المسلمون»..).

انتهى كلام سيد قطب الذي أصبح فجأة بعد ثورة الضباط الأحرار وقيام الجمهورية مباشرة سنة ١٩٥٢م موجها فكريا لجماعة “الإخوان المسلمون” السلمية التي لم يكن يراها في المشهد الثوري قبل ذلك!

كيف حدث هذا كذلك؟

وما أسبابه الموضوعية؟

وهل سينجح سيد في نفخ الروح الثورية في جماعة إصلاحية سلمية؟

هذا ما سنحاول بيانه، فما زلنا مع المثالية والواقعية، وما زال للحديث بقية!




«الواقعيون.. ووحي الشيطان» (4- 10)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق