هل تسير مصر باتجاه سيناريو الدولة الفاشلة؟خليل العناني
تمرّ مصر حاليا بأزمة مالية واقتصادية طاحنة ناتجة عن ارتفاع حجم الدين الخارجي الذي بلغ مستويات غير مسبوقة تقترب من نحو 150 مليار دولار (هناك شكوك بأن حجم الديون الفعلي أكبر من ذلك بكثير)، وكذلك ارتفاع حجم الدين العام الداخلي إلى مستويات قياسية حيث تجاوز 5 تريليونات جنيه مصري، وهو ما يعادل 108% من إجمالي الناتج المحلي. في الوقت نفسه تشهد مصر تراجعًا متزايدًا للاستثمارات الأجنبية وهروبًا لرؤوس الأموال الساخنة وذلك نتيجة لتراجع الفرص التنافسية في مصر بسبب الهيمنة العسكرية على القطاعات الاقتصادية المختلفة، وكذلك قرارات المجلس الفدرالي الأميركي برفع سعر الفائدة أكثر من مرة في الأسابيع الماضية، وهو ما يعني اجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات من الخارج خاصة من الاقتصادات الناشئة وعلى رأسها مصر. يأتي ذلك في وقت خسر فيه الجنيه المصري ما يقرب من 14% من قيمته أمام الدولار الشهر الماضي بعد القرار المفاجئ للبنك المركزي المصري برفع الفائدة على الودائع المحلية والأجنبية، ومن المتوقع أن تتراجع قيمة الجنيه في الأسابيع المقبلة.
ويمكن تفسير الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر بجملة أسباب أولها وأهمها الفشل الذريع للسياسات الاقتصادية (إذا افترضنا أن هناك بالفعل سياسات واضحة وليست مجرد رغبات وأحلام) التي اتبعها نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ وصوله إلى السلطة عام 2014 حتى وقتنا هذا، والتي تعتمد بالأساس على ما سماه الباحث الأميركي روبرت سبرنجبورج بالاقتراض الشره وغير المحدود الذي قام به السيسي في السنوات الثماني الماضية وذلك من أجل تمويل مشروعاته وخططه الاقتصادية.
صاحب هذا الاقتراض الشره غياب في أولويات الصرف والإنفاق؛ فمعظم هذه الأموال والقروض سواء تلك التي أتت من الداعمين الإقليميين لنظام السيسي خاصة السعودية والإمارات، أو من المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي، أو من خلال طرح سندات وأذون خزانة في السوق الدولية، لم تُوضع في مشروعات وبرامج وقطاعات تخدم المواطن البسيط كالصحة والتعليم والمواصلات وغيرها، بل أُنفقت على مشاريع كبرى لا تخدم سوى شريحة وفئة قليلة جدا من الأثرياء الداعمين للنظام.
للحرب الجارية تداعيات وخيمة على قطاع السياحة في مصر الذي سوف يتأثر تأثرا كبيرا بسبب تراجع السياحة الروسية والأوكرانية في البلاد، وهو ما يعني تراجع المدخول النقدي من السياحة الذي كان يصل حتى وقت قريب إلى أكثر من 10 مليارات دولار ولكنه تراجع كثيرا في العامين الأخيرين بسبب فيروس كورونا وحاليا بسب الحرب الدائرة بين موسكو وكييف.
ولعل أبرز هذه المشروعات هو مشروع العاصمة الإدارية الجديدة التي وصلت تكلفتها إلى أكثر من 50 مليار دولار، ولم يكتمل بناؤها حتى الآن بسبب عدم كفاية التمويل، أو مشروع القطارات الفارهة التي تربط المناطق القديمة في القاهرة بالعاصمة الجديدة مثل قطار "المونوريل" والقطار السريع الذي من المفترض أن يربط بين منطقة العين السخنة في شرق البلاد والعلمين في غربها، وتبلغ تكلفتهما معًا نحو 23 مليار دولار، فضلا عن مشروعات البناء والإسكان التي يبدو أنها تعاني نقصًا شديدًا في الإقبال عليها من المواطنين بسبب ارتفاع أسعارها (تتحدث بعض الإحصاءات الرسمية أن هناك ما يقرب من 12 مليون وحدة سكنية في مصر خالية ومغلقة)، ويجب ألا ننسى حجم الأموال التي أُنفقت على توسعة قناة السويس والتي تجاوزت 60 مليار جنيه مصري من دون أن تحقق عائدًا يذكر.
ثانيًا: أدت الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تداعيات كبيرة جدا على الاقتصاد العالمي بخاصة في ما يتعلق بارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة والمواد البترولية في جميع أرجاء العالم. وفي دولة مثل مصر تعتمد اعتمادا كبيرا على الاستيراد الخارجي لمعظم موادها الغذائية والبترولية بخاصة القمح وزيت الطعام ومواد الطاقة، فإن الآثار على اقتصادها تبدو وخيمة، إذ تستورد مصر أكثر من ثلثي استهلاكها من القمح خاصة من روسيا وأوكرانيا، ويقع عليها أعباء توفير ما يقرب من ربع مليون رغيف خبز يوميا لتغطية احتياجات ما يقرب من 72 مليون مواطن، في حين تبدو الحلول أمام الحكومة المصرية محدودة وفي أغلب الأحوال تأتي على حساب المواطن البسيط الذي يدفع الفاتورة من جيبه ومن قوت يومه.
من جهة أخرى، فإن للحرب الجارية تداعيات وخيمة على قطاع السياحة في مصر الذي سوف يتأثر تأثرا كبيرا بسبب تراجع السياحة الروسية والأوكرانية للبلاد، وهو ما يعني تراجع المدخول النقدي من السياحة الذي كان يصل حتى وقت قريب إلى أكثر من 10 مليارات دولار ولكنه تراجع كثيرا في العامين الأخيرين بسبب فيروس كورونا وحاليا بسب الحرب الدائرة بين موسكو وكييف، وهو ما يضيف أعباء جديدة على الاقتصاد المصري ليس فقط من حيث تراجع مداخيل السياحة من العملة الصعبة، ولكن أيضا من ناحية انقطاع وتراجع الوظائف وأعداد العاملين في هذا القطاع الحيوي.
ثالثًا: أدى الانفاق الهائل للنظام الحالي على السلاح في السنوات الثماني الماضية الذي بلغ نحو 44 مليار دولار إلى الضغط على خزانة وميزانية البلاد على نحو غير مسبوق؛ فقد أصبحت مصر ثالث أكبر مشتر للسلاح في العالم بعد السعودية والهند عام 2020 وذلك حسب تقرير معهد "ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام"، كما عقد نظام السيسي عشرات الاتفاقات العسكرية مع دول مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وأميركا في السنوات الماضية من أجل شراء مواقفها السياسية، وذلك على حساب مصالح الشعب المصري بخاصة طبقاته الفقيرة.
لذلك تطرح الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية في مصر أسئلة عديدة حول تداعياتها ليس فقط على بقاء النظام، بل أيضا على تماسك الدولة والمجتمع، ومدى انزلاق مصر باتجاه سيناريو الدولة الفاشلة الذي يعني عجز الدولة المصرية عن سداد قروضها ومن ثم إعلان إفلاسها من جهة، وفشل الدولة ومؤسساتها في تلبية الاحتياجات الأساسية لمواطنيها من مأكل ومشرب ومسكن من جهة أخرى؛ وهو سيناريو لا يمكن استبعاده في ظل استمرار السياسات نفسها والشخوص والعقول التي تدير البلاد ليس بمنطق الدولة، ولكن وفق منطق "العزبة" التي لا يحاسبهم ولا يراقبهم ولا يراجعهم فيها أحد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق