شبّيحة العفو الرئاسي.. حرّاس المسلسل
وائل قنديل
ماذا تقول كلّ هذه الحشود المكلفة بالقتال من أجل منح جدارة درامية وشرعية أخلاقية وموثوقية سياسية لمسلسل الاختيار؟ وماذا يعني قيادة رأس الدولة (نجم المسلسل)، ومؤلفه لهذه الحشود المتوّثبة لنهش كل من يطعن في صدقية المسلسل، ويكشف ما فيه من عوار في التأليف والإخراج، والبناء الدرامي بشكل عام؟ وما دلالة أن تكون القضية الأولى على جدول أعمال الوطن ترويج المسلسل، ليس باعتباره عملًا دراميًا، يحتمل اختلاف وجهات النظر، وإنما بوصفه مصدرًا لشرعية النظام ونشيدًا وطنيًا مقرّرًا على الجميع، عمال وفلاحين وطلبة ومثقفين؟
سؤال آخر: كيف يرى إعلام عبد الفتاح السيسي نفسه بعد تسع سنوات، انتهت من دون أن يحقّق هذا الإعلام له مبتغاه وإقناع الناس بسرديته الكذوب عمّا جرى، فكان قرارُه بإنتاج مسلسلٍ من أجزاء، في كلّ جزء ثلاثون حلقة، ليؤدي المهمة التي فشل فيها الإعلامان، المقروء والمرئي، ثم يقول، في نهاية المطاف، إنّ المسلسل بألف ساعة حوار وألف كتاب؟
بصرف النظر عن أنّ ما فشلت فيه الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى لم ولن تنجح فيه الدراما، لأنّ الرواية المطلوب تسييدها كاذبة وغير مقنعة من الأصل، فإنّ كل ما يجري أمامك هو شهادة رسوب لجيوش الإعلام، بمختلف تشكيلاتها، ودرجاتها، من المكارثية الناعمة إلى الفاشية الخشنة.
منتهى الخلل الفكري غير المسبوق أن يتصوّر أحدٌ أنّ منشورًا سياسيًا دعائيًا، من تأليف النظام الحاكم وإنتاجه، يعاد نشره على مدار ثلاثين يومًا على ألسنة ممثلين، يمكن أن يكون مقنعًا أو مشبعًا، دراميًا، للجمهور، أو أن يقوم بوظيفة كتابٍ أو ألف كتاب، وألف صحيفةٍ مما تردّد على مدار السنوات التسع الماضية ما قاله المسلسل، عن طريق ممثلين نجوم مرصوصين كألواح الخشب، يؤدّون كما يؤدّي جندي الأمن المركزي في طابور الهتاف.
الأصل في أي عمل فني أو إبداعي أنه من أجل الجمهور، يخاطبه ويطلب ودّه، وينتظر رأيه فيه ويحترم هذا الرأي، ويقبل الاختلاف عليه وحوله، أو حتى رفضه والسخرية منه، فلم يحدُث في تاريخ الإبداع المقروء والمكتوب، أنّ سلطةً استطاعت إجبار جمهور على التفاعل مع منتج رديء أو تافه، أو أنّ كاتبًا أو مطربًا أرادته السلطة نجمًا فصار نجمًا، ويمكنك أن تنظر هنا إلى حالة المطرب محمد ثروت، الذي أرادوه مطربًا جماهيريًا، مثلما كان عبد الحليم حافظ في الزمن الناصري، فلم يستطيعوا فرضه على ذوق الناس.
لكن صناع "الاختيار" يريدون تفاعلًا تحت التهديد، وإعجابًا بإرهاب الناس وتخويفهم، حتى وصلوا إلى حالةٍ بائسة، ليس من المستبعد أن يخترعوا فيها تهمة جديدة يساق الناس بها إلى المحاكمة والسجن، تهمة "ازدراء المسلسل"، واعتبار كلّ من لا يعجبه العمل الدرامي بالإرهاب، والانتماء إلى جماعة محظورة.
الأمر ذاته تجده، فيما تسمّى لجنة العفو الرئاسي، التي تضمّ في عضويتها شخصياتٍ تبدو أقرب إلى الشبّيحة في خطابها الفاشي الإقصائي، على نحو يجعلها بعيدةً للغاية من كونها لجنة حقوقية، تعتمد حقوق الإنسان معيارًا قيميًا لنشاطها، لتكتشف أنها، بهذا الخطاب الإقصائي، أقرب إلى لجنةٍ أمنيةٍ، أو لجنةٍ إلكترونية من تلك التي توزّع الاتهامات بالإرهاب على كل من يبدي ملاحظة على عملها.
يكتب أحد أعضاء اللجنة، المفترض أنها تنظر بمعيار العدل وحقوق الإنسان، لا بمعيار دراما "الاختيار 3"، متهمًا كل من ينتقدون تشكيل اللجنة وطريقة عملها بأنهم إرهابيون يتبعون جماعة إرهابية، ويقول بالنص "بات واضحا لكل ذي عقل أن هذا الهجوم مبرّر جدا من جانب جماعة الإخوان الإرهابية وحلفائهم الهاربين في إسطنبول وعدد من الدول واللذين يقيمون اللطميات على المحبوسين ويتاجرون بهم ويجمعون ملايين الدولارات من التبرّعات تحت مزاعم الإنفاق على المحبوسين وأسرهم، وهو ما لا يحدُث في الواقع على الإطلاق، وهذه الأموال يتم إنفاقها على هؤلاء الهاربين في الخارج .. لذلك، فإن نجاح لجنة العفو سيؤدّي إلى غلق حنفية التمويل والتبرعات التي يحصلون عليها".
هذا الخطاب، فضلًا عن أنه أكثر قبحًا وفاشيةً من خطاب الشبّيحة والبلاطجة، فإنه يشتمل على مجموعة من الجرائم القانونية، التي تضع صاحبها تحت طائلة المحاكمة، لو كان هناك فعلًا دولة تتمتّع بالحد الأدنى من احترام الدستور والقانون، فالمحامي المزهوّ باختياره عضوًا في لجنة العفو السيساوي، يتهم كل ناقد بالفساد المالي والسياسي، إلى جانب الإرهاب، وهو واثقٌ أنه يعلن ذلك، وهو في مأمن من المحاسبة، لأنه يكتب بحبر سلطةٍ تحميه وتسلّطه على خصومها.
لكن الأهم في ذلك كله أنّه كاشفٌ وفاضحٌ ما تُسمّى لجنة العفو، وإظهارها على وجهها الحقيقي، مجرّد خط إنتاج ملحقٍ بورشة تصنيع أحطّ أنواع الفاشية والمكارثية، التابعة لمؤسسة 30 يونيو، لصاحبها عبد الفتاح السيسي، ليتضح أنّ دور هذه اللجنة هو استكمال ما جاءت به دراما المسلسل، وتحويله إلى أفعال وممارسات على الأرض، من خلال الاستمرار في قلب الحقائق، وإظهار ضحايا الجريمة الشاملة إلى مجرمين وأعداء، ينبغي أن يكونوا محرومين من العدل والحرية إلى الأبد، لا يشملهم عفو، ولا مكان لهم تحت مظلة محاكمات نزيهة وعادلة، وكما كان القتل والسجن والإقصاء على الهوية، يأتي العفو والإفراج كذلك على الهوية، من دون النظر إلى ملابسات القبض والمحاكمة والسجن.
مضمون خطاب هذا الشبّيح يقول بوضوح، كما قالت "30 يونيو"، إنه يكفي أن يكون المواطن إخوانيًا، أو مدافعًا عن حق الإخوان في الحياة والعدل، ليصبح بنظرهم إرهابيًا ومتاجرًا ومتموّلًا.
خطابٌ يليق بفاشيست صغار يجدون أنفسهم في كنف فاشيةٍ كبيرةٍ وغير مسبوقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق