هل اكتشف حزب الشعب التركي لتوه أعظم المفسرين في تاريخ الجمهورية؟
في الشهر الماضي وقبل دخول شهر رمضان بفترة وجيزة عقد رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو بالتعاون مع رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو ووالي المدينة جانان كافتانجي أوغلو حلقة نقاش بعنوان "محمد حمدي يازر الإيلماليلي" في مدينة إسطنبول.
كانت هذه المناسبة مثيرة للاهتمام بالنظر إلى أن حزب الشعب الجمهوري معروف ببعده عن الدين وتطبيق أكثر السياسات العلمانية صرامة عبر تاريخ الجمهورية التركية التي شملت حظر الأذان ومنع قراءة القرآن وتعليمه باللغة العربية، وقد فعل ما فعل باسم العلمانية، ثم يعقد حلقة نقاش تحت اسم أشهر عالم تفسير!
لمعرفة سبب اختيارهم الإيلماليلي بالذات نجد أن في أعماله ما هو مناسب ومفيد لهم في ما يتعلق بسياسات الحزب، فكتاب الإيلماليلي بعنوان "دين الحق لغة القرآن" هو عبارة عن تفسير يواكب قرار البرلمان التركي في السنوات الأولى للجمهورية والذي يقتضي قراءة القرآن وإلقاء الخطب باللغة التركية حصرا، وهذا يعني أنه ليس مجرد تفسير للقرآن وإنما هو أيضا شاهد حي على تاريخ نموذجي للدين والعلمانية في تلك الفترة.
تتغير الكثير من المعطيات في تركيا، وقد اعتاد الجميع على ذلك بالفعل، ولكن ما لم يكن متوقعا هو أن تتغير توجهات حزب الشعب الجمهوري إلى هذا الحد، ومن المحتمل أن يكون النظام الرئاسي أحد الأسباب التي تفسر هذا التغيير، فبالنظر إلى أن حزب الشعب الجمهوري لن يتمكن من الوصول إلى سدة الحكم دون الحصول على نسبة 50% من الأصوات، وبما أنه لن يستطيع الوصول إلى السلطة بسياساته العلمانية الكلاسيكية الصارمة فلا بد أن قياداته تدرك أنه ينبغي إظهار مرونة أكثر في التعامل مع الأوساط الدينية.
إن حزب السعادة -الذي أسسه أربكان- وحزب المستقبل -الذي أسسه أحمد داود أوغلو الذي انشق عن حزب العدالة والتنمية- وحزب ديفا -الذي أسسه علي باباجان والذي انشق أيضا عن حزب العدالة والتنمية- في تحالف الآن مع حزب الشعب الجمهوري، وفي هذه الحالة يستلزم أن تكون خطابات حزب الشعب مرنة بما يكفي لجذب الناخبين من الشق المحافظ.
يمكن فهم حلقة النقاش هذه على أنها إشارة إلى قطع حزب الشعب الجمهوري مع السياسات العلمانية الصارمة، ولكن حمدي يازر الذي تم اختياره لإيصال هذه الرسالة مفسر غني عن التعريف في تركيا.
ولمن لا يعرف محمد حمدي يازر الإيلماليلي فهو أشهر علماء الأتراك المسلمين، اشتهر بالإلهيات والمنطق والتفسير وترجمة القرآن والفقه والفلسفة، كانت له بعض النشاطات السياسية وانحاز إلى حزب الاتحاد والترقي والتوقيع على فتوى تجيز خلع السلطان عبد الحميد في خطأ اجتهادي، وكتب هذه الفتوى بناء على طلب الاتحاد والترقي، ترأس دار الحكمة الإسلامية في 1918، ثم أصبح وزيرا للأوقاف ثم نائبا في البرلمان، دخل بعد ذلك في عزلة خاصة درس فيها لمدة 20 عاما حتى توفي في مايو/أيار 1942.
ولمعرفة سبب اختيارهم الإيلماليلي بالذات نجد أن في أعماله ما هو مناسب ومفيد لهم في ما يتعلق بسياسات الحزب، فكتاب الإيلماليلي بعنوان "دين الحق لغة القرآن" هو عبارة عن تفسير يواكب قرار البرلمان التركي في السنوات الأولى للجمهورية والذي يقتضي قراءة القرآن وإلقاء الخطب باللغة التركية حصرا، وهذا يعني أنه ليس مجرد تفسير للقرآن وإنما هو أيضا شاهد حي على تاريخ نموذجي للدين والعلمانية في تلك الفترة.
بالطبع إذا بدؤوا في قراءة هذا الكتاب فلا ينبغي أن نثبط عزيمتهم، بل لا بد من الدعاء لهم حتى يستمروا في القراءة وحتى يتمكنوا من فهمه ورؤية عمقه الفكري، وليكن لهم نصيب من بركته، ولكن أولا ما رأيكم بإلقاء نظرة فاحصة على القصة الحقيقية وراء مشروع التفسير الذي عمل عليه الإيلماليلي؟
إن القصة الحقيقية وراء هذا المشروع هي تطبيق "سياسة دينية" من شأنها أن تجعل الناس يبتعدون عن دينهم من خلال جعل العبادات والمصادر الدينية باللغة التركية، إلا أن الجانب الأكثر إثارة من هذه القصة هو الفرق الجذري بين ما كان متوقعا وبين النتيجة.
لقد صدر تبرير رسمي لتأدية العبادة باللغة التركية مفاده أن أبناء الأمة التركية يجب أن يصلّوا باللغة التي يفهمونها ويقرؤوا الكتب الدينية بلغتهم الأم، وصارت الأرضية جاهزة لهذه السياسة لدرجة فرض رفع الأذان باللغة التركية، وكانت مثل هذه الحجج مقنعة دائما وتم على إثرها غرس الكثير من الأفكار في الأمة وقد نجحوا في ذلك، فقراءة الأتراك للقرآن الكريم والأحاديث النبوية باللغة التركية ستجعلهم يعتقدون أن دينهم قائم على الهراء والخرافات الملفقة، وبذلك سيبتعدون عن الدين شيئا فشيئا لتتم تنشئة أجيال علمانية وضعية من كافة الأعمار.
لقد تمخض عن تلك السياسات فكر غارق في وهم التنوير ليس لديه أدنى شك في أن جميع المصادر الإسلامية أو الديانات الأخرى قائمة على أساطير وخرافات، إن هذا المشروع هو محاولة لإضفاء الشرعية على السياسات العلمانية لدى أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بهذا الدين، والهدف منه إعطاء تبرير لا يمكن للإسلاميين الاعتراض عليه.
في الواقع، عندما تتقدم هذه السياسة بخطى ملموسة مع 4 مشاريع كبيرة سيكون من المفهوم عدم اعتراض أي أحد على تلك المبررات، خاصة بين أولئك الذين قبلوا بوظائف في أحد هذه المشاريع، ولو ألقيت الخطب باللغة التركية كان محمد عاكف إرصوي سيقبل بعرض ترجمة القرآن، ومحمد حمدي يازر الإيلماليلي بتفسير القرآن، وبابان زاده أحمد نعيم بترجمة وتفسير صحيح البخاري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق