السبت، 28 مايو 2022

حريق القاهرة 1952م.. ماذا حصل في السبت الأسود؟

حريق القاهرة 1952م.. ماذا حصل في السبت الأسود؟

قلم التحرير

  • الزمان/ السبت 29 ربيع الآخر ـ 1371هـ
  • المكان/ القاهرة ـ مصر
  • الموضوع/ اندلاع حريق هائل بالقاهرة بعد مظاهرات عارمة بالبلاد

سؤال نبدأ به كلامنا والإجابة عليه تحدد مسار الحديث وأيضًا العمل، هل هناك بلد محتل مهما كانت عقيدته وفي أي مرحلة من مراحل التاريخ القديم والمعاصر تحرر عن طريق المفاوضات؟ بالله عليكم هل يعلم أحد منكم اسم هذا البلد وكيف تحرر ومتى تحرر؟


الإجابة الأكيدة التي لا نعرف سواها، بالطبع والقطع ‘لا يوجد’، فأيما بلد احتلت أراضيه ونهبت ثرواته وانتهكت محرمات لم ولن يتحرر إلا بالكفاح والمقاومة والجهاد، وأي طريق آخر غير ذلك، فهو طريق مسدود ملتو على رأس شيطان اسمه يتغير ولكنه في النهاية واحد، فتارة ‘المفاوضات’ وتارة ‘اتفاقيات السلام’ وتارة ‘فك الارتباط’ وتارة ‘المقاومة السلبية’ وهكذا. تظل قضية الأمة معلقة الدائرة الجهنمية للمفاوضات، ومصير الشعوب متوقف على ما يقال في الحجرات المغلقة حيث الاتفاقيات السرية التي لا يعلم معظم بنودها، وإن أولى خطوات التحرر تكون بالكف بهذه الطرق العقيمة لنيل الاستقلال.

حصاد المفاوضات المرير



احتلت إنجلترا مصر سنة 1882م، وجعلت من مصر سجنًا كبيرًا، ومزرعة أكبر، ومنجمًا كبيرًا لحلب الخيرات والمنافع لصالحها، وقضت على أي محاولة للمقاومة والتحرر، وساعدها في ذلك شيوع الروح الانهزامية داخل أوساط الشعب المصري بفعل الصدمة الحضارية التي تلقاها الشعب المصري مرة بعد مرة، وبداية سريان التقليد الأعمى للغرب وصدقت عليهم مقولة ابن خلدون رحمه الله: ‘ويل للمغلوب من الغالب’.


وكان من أهم أسباب بقاء الإنجليز بمصر لفترة طويلة، مع عدم تعرضهم لأدنى خسارة في جانب الأرواح، إيمان الكثير من ساسة مصر الذين كانوا في جملتهم من صنائع الإنجليز تعلموا ببلادهم واتبعوا نهجهم وسبلهم في الحياة، حتى صاروا من فصيلة الإنجليز السمر إيمانهم بأن أنسب الطرق لنيل الاستقلال هو المفاوضات السلمية مع الاحتلال.


منذ أن تولت حكومة الوفد العلمانية الوزارة بمصر في أوائل القرن العشرين 1915م وذلك برئاسة سعد زغلول ـ أقرب حلفاء إنجلترا بمصر والرجل الوحيد الذي أثنى عليه الكلب الإنجليزي ‘كرومر’ عندما طرد من مصر سنة 1907م ـ، انتهجت سبيل المفاوضات وأصرت عليه بل ما قامت  ثورة 1919م  إلا من أجل الضغط على إنجلترا للجلوس على مائدة المفاوضات.


استمرت المفاوضات قائمة منذ سنة 1919 حتى سنة 1951م أي قرابة الاثنين والثلاثين عامًا، ما حققت المفاوضات فيه شيئًا يذكر، وكلها كانت إما فاشلة، وإما تنتج معاهدات هزيلة ضعيفة من باب ذر الرماد في العيون مثل تصريح 28 فبراير سنة 1922م ومعاهدة 1936م، ولم يكن هناك مقاومة مسلحة تقريبًا عدا الخلايا السرية لشباب الحزب الوطني ذي الاتجاه الإسلامي والذي أسسه مصطفى كامل، وقد تحملت هذه الخلايا وحدها مسئولية تحرير البلاد بالجهاد واستشهد الكثير من رجالها.


عودة الروح الجهادية

بعد الفشل الذريع لمعاهدة 36 أيقنت الأمة أن طريق المفاوضات لا يؤدي لشيء ولا يزيد الأمر والاحتلال إلا تكريسًا، فبدأت الحركات الجهادية ذات الصبغة الإسلامية في الظهور، وحدث التحول الكبير بظهور ‘حسن البنا’ وكان لها ثقل شعبي كبير، ثم ظهرت جماعة ‘مصر الفتاة’ ومؤسسها ‘أحمد حسين’ وهي مزيج من الاتجاه الإسلامي والوطني.


كانت حكومة الوفد العميلة للإنجليز قد جاءت وتولت الوزارة من جديد تحت تهديد الدبابات التي حاصرت قصر عابدين سنة 1942م وأرغمت الملك ‘فاروق’ على تعيين مصطفى النحاس باشا رئيسًا للوزارة ليساعد الإنجليز في حربها ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية، ووفى النحاس للإنجليز فساعدهم في الحرب، وقبض على كثير من رجالهم، وفي هذه الأجواء بدأ تنظيم الضباط الأحرار في التكون.


حدث تحول كبير في مجرى الأحداث أدى لاشتعال الثورة الجهادية في ربوع مصر وذلك عقب اغتيال الشيخ ‘حسن البنا’ رحمه الله سنة 1949 وقد سبق ذلك الهزيمة المنكرة للجيوش العربية بفلسطين   وإعلان قيام دولة إسرائيل  سنة 1948، وذلك كله وحكومة الوفد على ولائها للإنجليز، وتمسكها بطريق المفاوضات.


الحقد الإنجليزي



تم تنظيم فرق جهادية للمقاومة تهاجم معسكرات الإنجليز وأماكن تجمعهم ونواديهم، وقد ركزت هجومها على منطقة القنال، حيث كان يتركز معظم الجيش الإنجليزي للتحكم بقناة السويس وتأمين الوجود اليهودي الناشئ بفلسطين، وقد أوقع المجاهدون بالعدو المحتل ضربات موجعة، ودمروا محطة بترول ‘نفيشه’ أكبر محطات تمويل الجيش الإنجليزي، وقتلوا الكثير من الجنود، وقطعوا خطوط الإمداد والتمويل عن الكثير من الفرق الإنجليزية هناك.


تم تعيين قائد إنجليزي جديد بالمنطقة اسمه ‘أرسكين’ وكان مشهورًا بالوحشية والحقد الشديد على المصريين والمسلمين عمومًا، فاتبع أسلوب الأرض المحروقة في القتال وقام بحملات وحشية تبرز الروح الإنجليزية المتعصبة الصليبية، فمحا قرى كاملة من الوجود وارتكب مذابح بشعة بقرية القرين وكفر أحمد عبده والتل الكبير، وشن هجمات مكثفة على محافظة الإسماعيلية والسويس وبورسعيد، وقد قام المجاهدون بالرد عليه بهجمات كبيرة على الإنجليز خاصة ليلة رأس السنة وهم سكارى وقتلوا منهم الكثير، ورد الإنجليز بدك بلدة التل الكبير بالمدفعية الثقيلة، وبفعل خائن مجرم اسمه ‘محمود صبري’ قبضوا على مجموعة من المجاهدين وقتلوهم ونكلوا بجثثهم أبشع تنكيل ومثلوا بها بمنتهى الوحشية.


واصل الإنجليز صب جم حقدهم الأسود وقاموا في يوم 28 ربيع الثاني باقتحام مبنى محافظة الإسماعيلية بعد أن وجهوا إنذارًا لمن فيه بتسليم أنفسهم وأسلحتهم ولكن ضباط المحافظة بالاشتراك مع المجاهدين رفضوا هذا الإنذار، ودارت رحى معركة أشبه بالأساطير حيث هاجم عشرة آلاف جندي إنجليزي مزودين بالدبابات والمدافع والطائرات مجموعة من الضباط والمجاهدين لا تتجاوز المائة شخص، ولكنهم كانوا كالأسود التي تأبى أن تدع الغريب يدخل عرينها وينتهك حرماتها ولم يستطع الإنجليز أن يستولوا على المبنى إلا على جثث المجاهدين الذين سطروا بدمائهم أروع البطولات وسجلوا هذا اليوم في تاريخ الأمم المتحررة بحروف من نور وذهب.


حريق القاهرة 1952م



وصلت الأخبار بسرعة إلى الناس بالقاهرة فخرج جنود الشرطة وضباطها بكامل أسلحتهم واتجهوا إلى الجامعة المصرية حيث انضم إليهم جموع الطلبة في مظاهرة عارمة واتجهوا إلى مجلس الوزراء مطالبين الحكومة بإعلان الجهاد والنفير العام ضد الإنجليز والثأر للشهداء.

في هذه الأثناء كان ملك البلد فاروق غارقًا في شهواته وملذاته وقد أقام حفلاً للوزراء وكبار الدولة للاحتفال بميلاد ابنه ‘أحمد فؤاد’ مما زاد من نقمة الشعب الثائر وجعلت المظاهرة تخرج عن طورها وانفجر بركان الغضب وأشعل المتظاهرون النار في المحلات الإنجليزية والنوادي ودور السينما والمواخير الأجنبية، وقتلوا الكثير من رعايا إنجلترا في هذا اليوم الذي أطلق عليه يوم ‘السبت الأسود’.

تبادل الجميع الاتهامات حكومة الوفد اتهمت الملك والملك اتهمها والنيابة اتهمت أحمد حسين زعيم جماعة مصر الفتاة، وآخرون اتهموا الإنجليز، وسواءً كان أيا منهم فإن الحادث كان صورة لغضب الشعب الذي خدر طويلاً باسم المفاوضات والاتفاقيات في حين أن الأراضي محتلة والمقدسات أسيرة والحرمات منتهكة … وما زالت المؤامرة مستمرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق