الأربعاء، 17 يناير 2024

الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين .. إلى أين يسير؟

 الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين .. إلى أين يسير؟


د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي,


الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لم يزل منذ نشأته يتعثر، لم يزل يحبو في عالم يتسابق ويتسارع، كسلحفاة ضخمة في وادي الفهود، لم يزل يلف ويدور في نقطة واحدة لا يخرج منها ولا يبغي عنها حولا، هذه حقيقة لا يُغْرِي العقلَ بهجرها كثرةُ الغادين والرائحين الذين تئط بهم الطائرات أطيطًا، ولا وفرة الموسوعات والكتب التي تتطاير في (الكراتين) إلى قارات العالم المأهولة بالبشر، والتي لا تقدم جديدًا إلا الورق الثقيل وما يحمله من الأحبار والأصباغ، هذا هو حال الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين، وليست الروابط العلمائية الأخرى بأسعد منه حالًا ولا أرشد منه مآلا؛ والسبب الجوهريّ هو أنّ الغاية إذا انحصرت في تجميع الطاقات وتوحيد الجهود دون وثوب إلى هدف لا يتحقق بالعمل الفرديّ جاءت النتائج ميتة عقيمة.

    إنّني كلما حاولت أن أَرُدَّ ما يقع بالأمة من نكبات إلى سبب جامع يكون بمثابة الرأس للجسد؛ لم أجد إلا ذلك السبب المحوريّ الجوهريّ الخطير، ألا وهو تأخر العلماء عن دورهم الكبير، الذي يحتم عليهم ألا يقْصروا جهدهم على الوعظ والإرشاد والتعليم والفتوى، وألا تتقاصر هِمَمُهم عن البيان وعمَّا يعقب البيان من مهام جسام، أمّا البيان فهو البلاغ المبين برأي الشرع في القضايا الكبرى التي تجفل الألسنة عن ذكرها والأقلام عن طرق أبوابها، وأمّا ما يعقب البيان فهو ملء ما شَغر في الشأن العام بسبب شُغُور الزمان من إمام قَوَّام بأمور الإسلام؛ فإنّهم والله – علموا ذلك أم جهلوه – أولو الأمر على الحقيقة، وهم المعنيون قبل الحكام بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ‌}(النساء: ٥٩)، وبقوله عزّ وجلّ: {وَلَوْ ‌رَدُّوهُ ‌إِلَى ‌الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(النساء: ٨٣)، وإنّ الشريعة قد رتبت شأن الإسلام، ولم تترك المسلمين في يوم من الأيام بلا ترتيب ولا نظام؛ فإنْ وقع اختلال – ولم يكن للمسلمين أمام ولا نظام – فَمَرَدُّ الأمر لعلماء الإسلام.

أين الشورى الحقيقية وأين المؤسسية


لا تقلْ لي إنّ أرحام النساء عقمت أن يَلِدْنَ مثله؛ فتلك عبارة فُصِّلَتْ على قَدِّ خالد ثم لم تجدْ من بعده من تنطبق عليه، وإنّ الأمّة لَغَنِيّةٌ ثَرِيَّةٌ ولَّادة، فلماذا يؤتى بنا من أطراف المعمورة ليقال لنا: انتخبوا فلانًا؟ ألهذا وطَّأت لنا الطائرات ظهورها ووسعت لنا الفنادق ساحاتها وباحاتها؟ ألهذا ترك العلماء أعمالهم ووفدوا من كل فجٍّ عميق؟! إنّ هذا الذي جرى – على الرغم من التقنيات المحايدة – ليس انتخابات، وإنّما هو – بالاختصار المفيد وبلا أدنى تعقيد – مولد سيدي “القرداغي”، هذه هي الحقيقة التي لا تحط من قدر علّامة له قدره ووزنه مثل “على محيي الدين القرداغي” حفظه الله، ولكنّها تصرف أنظار الجيل عنه وعن مؤسسته التي قامت على التوريث وتداول السلطة عبر “التربيطات واللوبيات والتوصية للثقة”.
 ما الذي دار في دوائر اتخاذ القرار التي لا تسعد بأدنى درجات الشفافية؟ لا ندري وليس لنا أنْ ندري! 

لماذا تم تحديد الرئيس ونوابه الستة سلفًا لنقوم نحن كالريبوتات المعبأة سلفًا باختيارهم؟ لا يدري أحد وليس لأحد أن يدري! 

مالذي جرى في الكواليس المعتمة ليأتي الأمين العام ومعه أغلبية في الأمانة العامّة على نحو جعل الناس يتهامسون بصوت عال: “لقد آل الاتحاد برمته في جيب الرئيس الذي لا رئيس غيره، والذي كان من قبل الأمين العام الذي لا أمين غيره”؟؛ فما الذي تركناه – برب السماء – من ألوان الاستبداد السياسي الذي لا نفتأ ننكره ونعيب عليه بنَعِيقٍ في النهار ونَقِيقٍ في الأسحار؟

لا علاقة للشورى التي نؤمن بها وننشدها ولا للديمقراطية التي تؤمنون بها وتنشدونها بهذا الذي فعلتموه أيها الكبار، ولو أنّ مراقبًا غربيًّا اطلع على ذلك اليوم المشهود لضحك ملء شدقيه ولأضحك الثقلين علينا وعليه، ولو أنّنا قمنا بوزن ذلك الصنيع بميزان الشرع لما حظي بشرعية تباع بفلس أبلاه الكساد وأكله الصدأ؛ لقد خذلتم الجيل وحرمتموه من أنموذج يمكن أن يحتذى في الحكم الرشيد الذي ينشده، وأعطيتم الطواغيت مبررًا ليقولوا لكم: أقيموا أمركم في بيتكم الداخليّ قبل أن تقيموا أمر العامّة، أما كفاكم أن تمارس جماعتكم السياسية الانقلاب الذي تستنكره حتى تمارسوا أنتم التوريث الذي تستنكرونه؟!                                                                   


الاتحاد وقضايا الأمة


إذا كان الاتحادُ العالميُّ اتحادً لعلماء المسلمين دون تمييز بين بلد وبلد، ولا بين جماعة وجماعة، ولا بين مذهب ومذهب؛ فليس من اللائق شكلا ولا موضوعًا أن يعطي المؤتمر العام للاتحاد والذي يحضره المسلمون من شتى بقاع الأرض ومن مختلف الأصقاع التي تنزف فيها جراح المسلمين؛ أن يعطي يومًا للقضية الفلسطينية، ثم يتجاهل سائر الجروح النازفة، إنّ النازلة الفلسطينية في قلوبنا جميعًا، لكنّها ليست النازلة الوحيدة فضلًا عن أن تكون القضية الوحيدة، فهناك على مقربة من فلسطين رمية بحجر إدلب تضرب في نفس التوقيت الذي تضرب فيه غزة، وبأيدي مجرمي إيران الذين يرقصون في الزفة ويزعمون أنهم ينصرون غزة، وهناك نازلة السودان التي وقعت على نحو مرعب؛ حيث لم يمض سوى تسعة أشهر حتى بلغت المأساة مبلغًا يدمي القلوب؛ فإلى الآن – حسب أكثر الإحصائيات تفاؤلا – هناك اثنا عشر ألفَ قتيلٍ لا ناقة لواحد منهم في الحرب ولا جمل، وسبعةُ ملايينِ نازحٍ من أخصب بلاد الله إلى أجدب أرض الله!، وانتهاكاتٌ لكل الحرمات على أوسع النطاقات، وفي اليمن مثل ذلك أو أكثر منه؛ فأين هؤلاء من نظر الاتحاد؟!

 كنت أتوقع من الاتحاد أن يبادر إلى الواجب الأكثر إلحاحًا، ولقد تحدثت عن هذا الواجب في مداخلة جاءتني على غير ميعاد، لكنّني شعرت وأنا اتحدث عن هذا الواجب كأنني أنادي على (مناخل) في توتنهام أو الشانزيليزيه، هذا الواجب الكبير أحسبه – إلى جانب الوحدة الإسلامية – واجب الوقت، ألا وهو بناء المشروع الإسلاميّ لأهل السنة، فإنّ أخطر ما تعانيه الأمة الآن هو غياب هذا المشروع، صحيح أنّ هناك كتابات كثيرة، وقد كتبتُ فيمن كتبت وحاضرتُ فيمن حاضر، لكنّ ما كُتب على ندرته وقلته يُعَدُّ المشروعَ الإسلاميّ من وجهة نظر كاتبيه، لكنّ الذي يريده المسلمون هو المشروع الإسلاميّ الذي تلتقي عليه إجمالا كلمة جمهور علماء الأمة وأهل الحل والعقد منها؛ فأين دورهم وأين مشروعهم؟ أين مشروعنا في جانبه السياسي؟ وأين هو في جانبه الاقتصادي والتنموي؟ وأين خطتنا للتغيير؟ أين رؤيتنا للتمكين للدين ولإحياء الأمة؟ لماذا لا يستثمر الاتحاد أمثال هذه المؤتمرات في مناقشة أمر كبير كهذا؟

وثَمَّ مشروع آخر بالغ الأهمية، لا يرقى للقيام به إلا الاتحاد العالمي وأمثاله من الهيئات الكبرى، وهو مشروع تحويل الدعوة لغير المسلمين من العمل الارتجالي إلى العمل المؤسسي الممنهج؛ وذلك بسبب ما يشهده الواقع الغربيّ من طفرة في الوعي أحدثها طوفان الأقصى، وسببها من قبلُ إفلاسُ الحضارة المعاصرة عن تقديم شيء للإنسان، مع تململ الفطرة بسبب الكم الهائل من التناقضات في الأوضاع والمذاهب، ولا يدرك خطورة هذا العمل الكبير إلا من يستشرف المستقبل ويرى أنّ أمواج التحولات الكبرى ستدفع بسيفنة الإنسانية لترسو على شاطئ الإسلام بهدوء وسلام، بعد طول جهاد وجلاد، وقد عرضته أيضًا، لكنّني كنت كمن يبيع البيض في مول مخصص لتجارة العملة والأحجار الكريمة!


لسنا بحاجة إلى موسوعات أو كتب يتبارى المؤلفون في نيل موافقة الاتحاد بتبنيها ونشرها، وليس الاتحاد دار نشر ولا مركز أبحاث ولا ديونًا للكتب أو خزانة للأبحاث، الاتحاد راية وقيادة، الاتحاد بوصلة ومنصة للانطلاق، الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين هو النواة الكبرى لأهل الحل والعقد في الأمة، وأهل الحل والعقد يديرون الواقع لايديرهم الواقع، ويحركون الأحداث ولا ينتظرون ريثما تحركهم الأحداث، وينفذون كثيرًا من المشاريع الجزئية الهامة بالتفويض لا بالمباشرة، بينما يتفرغون لتبير الشأن العام، إنّ أهل الحل والعقد الذين يُعَدُّ الاتحاد نواة كبيرة وكتلة عظيمة فيهم هم أولو الأمر الذين يقعون من الحاكم كموقعه من عماله ووزرائه؛ إن زاغ عن سننهم عدلوا به أو عدلوا عنه، فإذا شغر الزمان من حاكم يقود الأمة بكتاب الله عاد الحق من الوكيل إلى الأصيل، لا أقول إنه يجب عليهم في هذا الزمان أن يقودوا الدول، وإنّما يجب عليهم أن يقودوا الشعوب إلى تصحيح وترشيد مسار الدول، أو إلى إقامة الدول من جديد على شريعة الإسلام.

    أقول هذا من قبيل النصح الداخليّ، وليس عليّ من حرج في عدم الإسرار إلى الاتحاد بالنصح؛ إذْ إنّ هذه الأمور وقعت في العلن ولم تقع في السرّ، فلو لم تنكر في العلن لكنّا منكرين لها سرًا مؤيدين لها علنًا، لأنّ السكوت في معرض الحاجة بيان، وعلى الرغم من إنكاري فإنّني أحمل لجميع القادة في الاتحاد كامل الحب والتقدير، وأراهم أسبق مني علمًا وعملًا وجهادًا وبذلًا، حفظ الله الاتحاد وألهم قادته الرشاد والسداد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق