الاعلام مذهب خامس وتحد جديد!
مضر ابو الهيجاء
من نافلة القول إن تطور وسائل الإعلام وثورة الاتصالات وعالم الانترنت أوجد تغييرا في إيقاع البشرية برمتها، لاسيما وقد أصبح الإعلام وسيلة وأداة متاحة بسهولة في يد كل البشر وبالمجان.
وقد أحدثت ثورة الإعلام اختلافا وانتقالا وتقدما ضوئيا بين البشر، حيث تطورت البشرية في العقود الثلاثة الأخيرة عما يفوق تطورها ثلاثة قرون.
وكما أحدثت وسائل الإعلام والاتصال الحديثة سرعة وفاعلية في البناء، فقد أحدثت سرعة وفاعلية في الهدم.
ولم يعد يخفى على أحد كيف تستخدم الدول والمشاريع والأحزاب الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة في بناء ما تستهدف بناءه، وهدم ما تستهدف هدمه.
ومما يشهد له أن عالمنا العربي والإسلامي تقدم بشكل ملحوظ وبارع في استخدام الإعلام وآليات ووسائل الاتصال الحديثة لنشر ثقافة الخير والارتقاء بالفرد والأسرة والمجتمع، كما أسهم بنشر الدعوة الإسلامية في أصقاع الأرض، وهكذا في مناحي عديدة أخرى تندرج تحت مسمى البناء.
وكما أجاد الاستخدام في البناء فإنه أجاد الهدم للأفكار الشيطانية التي عراها، وهدم كثيرا من الأصنام الفكرية والشخصيات المنافقة وفضح المشاريع المعادية كالمشروع الإيراني والصهيوني والغربي وحتى النظام العربي الرسمي.
لكن الجسم والكيان العربي والإسلامي لم ينج أيضا من الهدم المضاد لاسيما في وجود أنظمة وكيلة عن الغرب، تعتبر الليبرالية مرجعيتها والإسلام الشامل عدوها الكبير!
وقد أفلح المشروع الغربي بتقسيم الإعلام العربي إلى نموذجين:
النموذج الأول:
إعلام عربي متصهين وقذر، ترى القيح يفيض منه في كل مضامينه الإخبارية أو الثقافية أو التوجهات السياسية وغيرها، والتي تعلن العداء مع المصلحين ومع الخير وأهله، ونموذجه قناة العربية!
النموذج الثاني:
إعلام عربي التوجه إسلامي الثقافة، بالشكل الذي يمكنه من استيعاب الشعوب والتعبير عن آلامهم وآمالهم، لاسيما وهو يستحضر الدعاة والمصلحين ويحاورهم ويفتح النوافذ أمامهم، ونموذجه قناة الجزيرة!
ومن المؤسف القول أن النموذجين -في ظل الأوضاع السياسية التي تصيغ واقع جميع الدول والأنظمة العربية- يمتطيهما الغرب ويمرر من خلالهما ما يريده في اتجاه البناء أو الهدم بحسب كل مرحلة وكل جغرافيا سياسية يسعى للعبث فيها!
ومن المفارقات العجيبة أنه مع كل تقدم في وعي شعوب الأمة، فإن النموذج الإعلامي الأول يفقد من رصيده الشعبي ومتابعيه، بحيث تقل فاعليته وينحسر تأثيره، وهذا دون شك خير.
أما النموذج الثاني فعلى العكس تماما، حيث تزداد شعبيته ومتابعيه مع كل مرحلة صراع في الساحات الساخنة، لاسيما وهو يستدعي الدعاة والعلماء والثوار، كما يتابع أحوال الناس وهمومهم بجدية واحتراف.
وإذا كان النموذج الأول مقرف، فإن النموذج الثاني خطر، وخطورته تكمن في ارتباطه السياسي ومرجعيته الحقيقية، حيث تراه يدس قطرة سم في كل طبق عسل!
إن قناة الجزيرة اليوم أصبحت على مستوى من الفاعلية والتأثير الذي شكل مذهبا سياسيا حقيقيا في شعوب الأمة، لا يقل امتدادا واشعاعا عن المذاهب الأربعة، فهي قادرة على صناعة توجه يبني في اتجاه ويهدم في زاوية!
ولا شك بأن تلك المسألة تصبح أكثر تعقيدا والتباسا حين يصبح هذا النموذج هو الإطار الذي يستوعب العلماء والدعاة والمصلحين، الذين يعبرون عن هموم الأمة، فيحدث الخلط عند جماهير وشعوب الأمة بين العالم المصلح الذي يتحدث من خلال وسيلة إعلامية، وبين توجهات وتوجيهات تلك الوسيلة ذات الارتباطات والخلفيات المختلفة عن العالم والداعية والمصلح.
ويمكن أن نضرب مثالين على ذلك:
المثال الأول:
المسألة الفلسطينية في ظل معركة طوفان الأقصى المشرفة، حيث تحتل البطولات والتضحيات الفدائية جزءا من عشرة أجزاء في الواقعة الفلسطينية، وبينما تسلط قناة الجزيرة تسعون بالمائة من الضوء على مفردة البطولات، فإنها تمنح المفردات التسعة المتبقية عشرة بالمائة من موضوع إعلامها، وهو منهج مقصود لأخذ العقول في اتجاه محدد والغفلة عن توجهات أخرى واجبة !
المثال الثاني:
إيران وشعوب المنطقة، حيث حافظت قناة الجزيرة على صورة إيران نقية لا خدش فيها، رغم حجم الغدر والخذلان الموجع الذي تسبب بسقوط أنهار من دمائنا على أرض غزة وجنين الثورة، فيما بدت شعوب المنطقة العربية والإسلامية هي المسؤولة عن خذلان غزة والأقصى!
وإذا كان الحراك الشعبي العربي الإسلامي قد حظي بعشرة بالمائة من الاعلام واهتمامه، فإن الحوثي قد حظي بتسعين بالمائة من الاهتمام والإشهار الإعلامي، حتى باتت إيران ومحورها وملاليها وأذرعها نصيرا وحيدا فريدا للقضية الفلسطينية، في ظل شعوب عربية ضعيفة أو متخاذلة!
وبعد أن سقطت إيران في وعي الأمة ووجدانها، نتيجة لحجم سفكها للدماء البريئة التي أهرقتها في العراق واليمن والشام بمئات أضعاف ما سقط على أيدي اليهود في فلسطين، أعادت لها قناة الجزيرة صورتها الكاذبة الأولى ومسحت جرائمها وأخفت آثامها، للحد الذي بات فيه صوت ضحايا المشروع الإيراني المعادي خافتا وجلا في كل محيط فلسطين!
لقد سقت مثالين ساخنين -في اللحظة الراهنة- من بين عشرات الأمثلة التي تشير وتؤكد أن الإعلام في ظل ثورة الاتصالات بات يشكل مذهبا خامسا جديدا، وذلك بالنظر لحجم من يتأثرون به ويصيغ عقولهم وتوجهاتهم في عموم شعوبنا العربية والإسلامية!
إن أمانة حمل الرسالة، والأمانة تجاه شعوب الأمة، والأمانة العلمية تقتضي أن يقوم العلماء المصلحون بهذا الفرز بين التوجهات الصحيحة والتوجهات المخلة أو التي تستهدف صناعة العقول القاصرة في الأمة، من خلال الوسائل الإعلامية وقنواتها التي يمكن أن تخدم أهداف الأعداء في الوقت الذي تحتوي فيه بعض الدعاة والمصلحين!
وكما أن العلماء الربانيين اليوم هم ورثة النبيين، فإن إعلامنا العربي اليوم هو وريث الشياطين، ولو كان بيننا اليوم أبو حنيفة والإمام مالك والشافعي وابن حنبل لما رضوا أن يكون أمثال هؤلاء وتلك القنوات الإعلامية لشعوب الأمة موجهين!
ملاحظة:
المقال يستهدف التنبيه لخطورة التأثير الإعلامي الموجه والمرتبط في صناعة مذهب سياسي مخالف وغير قويم، وليس مقصود المقال تحديد وتصنيف القنوات جميعا، لاسيما أن هناك قنوات تعبر عن محاولات جادة لصناعة اعلام مغاير، لكنها تبقى ضعيفة جدا ومحدودة التأثير في مقابل دهاقنة الإعلاميين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق