الجمعة، 12 يناير 2024

تدين بلا دين

 تدين بلا دين

محمد صالح البدراني


معنى التدين:

التدين استجابة لغريزة في الإنسان والعبادة جزء من كينونته، فإما أن يعبد ما وجد آباءه عليه أو يتجه لغيره، فإن لم يستقر على أمر فهو يقدس شيئا ما؛ جاها أو منصبا، أو نفسه.

التدين لا علاقة له بالأخلاق كقيم فذاك له معادلته، بيد أننا نلاحظ أن هنالك من يتخذ الدين لتسفيه (تكفير) مخالفه وإصراره على امتلاك الحقيقة والتكبر الإبليسي الذي يعتريه دون دليل أو فهم، أو هو ينسب الأمر للعقل، والعقل فعل منظومة عقلية تستمر بالتمحيص والانتقال وتدوير المعلومات وما يكتسبه الإنسان في مراجعات مستمرة.

التدين لا علاقة له بالسلوك بشكل مباشر، فهو غريزة، والغريزة تتوقف عند نيلها ولا انعكاسات بعد ذلك على السلوك، لذا نجد من يصلي ويصوم ويقيم الليل بأوراد وذكر، وربما يرتقي المنبر أو يقدم قداسا ولا يتخلف عن واحد ويقدم النذور، لكن سلوكه لا يتناسب مع مكانة منبر يرتقي عليه ووعظ أو عظة يقولها، فتراه ينصح بالمحبة وهو عدو لدود وحسود حقود. هؤلاء الناس، أشد ضررا على ما يحملون من الفكر من بأس أعدائه.

الغرائز فاعلة والحاجات والمتطلبات في تنام مع المدنية وغياب العدل، والتشوه في الجهاز المعرفي والفكر الفاعل، وأكثره لا يحل مشكلة ولا يلامس الواقع إيجابيا. بغياب منظومة القيم الرائدة للواقع، ستستعمر الحاجات والغرائز منظومة العقل، ويصبح التدين مظهرا إشباعا لغريزة وحديث مجالس وخطب لا تلامس الواقع أو تؤثر فيه.


التدين لا يمثل حصنا ضد عوامل التأثير في النفس البشرية وانعكاس ذلك على السلوك، أو أنه كل عوامل التأثير، فهو غريزة وهنالك الغرائز الأخرى، والبيئة، والوضع الاقتصادي، أي ما يمكن تلخيصه في الحاجات والغرائز والفكر كعوامل مؤثرة، ولو انتبهنا سنجد أن الغرائز فاعلة والحاجات والمتطلبات في تنام مع المدنية وغياب العدل، والتشوه في الجهاز المعرفي والفكر الفاعل، وأكثره لا يحل مشكلة ولا يلامس الواقع إيجابيا. بغياب منظومة القيم الرائدة للواقع، ستستعمر الحاجات والغرائز منظومة العقل، ويصبح التدين مظهرا إشباعا لغريزة وحديث مجالس وخطب لا تلامس الواقع أو تؤثر فيه.

مشكلة الغريزة:

الغريزة أمر مغروز في الإنسان ضمن ثوابت تكوينه، ولها وظائفها في الديمومة والحياة، لكن عدم القيام بها عند استثارتها لا يؤثر على وجود وحياة الإنسان الفرد كما تؤثر الحاجات كالأكل مثلا.

الغرائز الرئيسة عند الإنسان هي غريزة حب البقاء (ومنها مثلا تكوين المجمعات البشرية، الخوف)، وغريزة حب التملك، وغريزة النوع، وغريزة التدين، وحب السيادة.

حب البقاء يراه المستقصي أول الغرائز ظهورا، فهو تصرف طبيعي حتى برد فعل الطفل الرضيع، وربما هو أولى الغرائز التي تحتاج تنظيم وموازنة عقلية، فهي غريزة تغيب العقل برد الفعل أو تستعمره لتوقع التداعيات.

غبش وعدم وضوح الفكر والدين وتضاربه غالبا، يقود إلى الإلحاد عندما لا يجد الإنسان الباحث عن ذاته أجوبة منطقية تتوافق مع الحياة التي تتقدم مدنيا، لهذا نجد الإلحاد واللاأدرية وغيرهم على نطاق واسع في الدول المتقدمة مدنيا، ويمتد في مجتمعنا عندما يسيطر على الحركة الفكرية أناس متخلفون يطلبون القدسية لأنفسهم، ويستثيرون الشكوك في الآخرين لإبعاد رعاياهم عن الانسلاخ والنظر في أجوبة عند الآخرين.


أما حب التملك، فهو يبدد أركان الحياة ما لم ينظم، وهذا مشترك في كل الغرائز. وتغلب الغريزة في حب التملك قد ينتقل إلى العلاقات البينية الأسرية في سلب الأنا للآخر وإذلاله، رغم أنه قد لا يكون بقصد الإهانة، وإنما إبقاؤه يشعر بالدونية لتسهيل استعباده، وهذا مرض له امتداد كبير نتيجة اضطراب الجهاز المعرفي في العلاقات وبالذات بين الزوجين، بحيث لا تفهم كرفقة طريق، وإنما ملك وحقوق وتفسير ذكوري لما يمكن أن يلتبس في تفسيره. ولعل هذه تتفق وتتعاضد مع حب السيادة لتحدث خرابا في العلاقات الإنسانية، ما لم تنظم وتوضع لها صيغ عملية للمجتمع، ولا يمكن الحديث عن هذا بالتفصيل لضيق المساحة وهدف الموضوع.

وتبقى غريزة النوع ذات طغيان غالب، ما لم ينظم المجتمع وفق قيمه وأن يكون متصالحا معها، ويمكن أن نرى مشاكل كبيرة تحصل لعدم تكيف المجتمع وحلول في قيمه بينما هو يحكم هذه القيم كمعيار للفضيلة مثلا، ونرى تصالح الغرب مع العلاقات الشاذة وفق منظورنا، لكن وفق محددات متعارف عليها.

ونأتي إلى التدين، فالتدين غير فهم الدين والالتزام به عن علم، وهو غالبا ما يسلك منافذ الانطباعات؛ فالتدين كغريزة لا يُحدث التوازن أبدا؛ لأن الغرائز ليست معيارية، ولا منضبطة بمنطق وتفكير، هذا لا يعني أن العالم بدينه لا يخطئ أو يذهب بدوافع غريزية إلى مخالفات قيمية، لكنه يختلف بأنه لا يطغى ما لم يفسد؛ لأن غريزة التدين لا تمنع الطغيان لمن يضعف أمام التملك والمال، فتراه يصلي ويسبح، لكنه لص إن خلا بالمال أو يضعف أمام غريزة النوع، ويستمرئ الجنوح هذا مع ما يبرره لنفسه، وهكذا في أي ظلم يحدثه حتى في قتل الأبرياء أو استباحة الأنفس، وتنصيب نفسه قاضيا وجلادا، أو يستسيغ هذا دون النظر إلى أن الأنفس كرّمها الله.

غبش وعدم وضوح الفكر والدين وتضاربه غالبا، يقود إلى الإلحاد عندما لا يجد الإنسان الباحث عن ذاته أجوبة منطقية تتوافق مع الحياة التي تتقدم مدنيا، لهذا نجد الإلحاد واللاأدرية وغيرهم على نطاق واسع في الدول المتقدمة مدنيا، ويمتد في مجتمعنا عندما يسيطر على الحركة الفكرية أناس متخلفون يطلبون القدسية لأنفسهم، ويستثيرون الشكوك في الآخرين لإبعاد رعاياهم عن الانسلاخ والنظر في أجوبة عند الآخرين، فيحبط الإنسان ليرفض كل شيء، ويستسهل ما يستجيب لغرائزه قبل منظومته العقلية.

المطلوب مراجعة حقيقية والنظر في أصل الأفكار وقراءتها لحل مشاكل العصر بمنطق مفهوم من العصر، وليس وضع القوالب والصناديق وإدخال الآخرين فيها كمعايير ثابتة، فهنا سيكون التدين بلا دين.


ما العمل؟

المطلوب مراجعة حقيقية والنظر في أصل الأفكار وقراءتها لحل مشاكل العصر بمنطق مفهوم من العصر، وليس وضع القوالب والصناديق وإدخال الآخرين فيها كمعايير ثابتة، فهنا سيكون التدين بلا دين، أما إن نظمت غريزة التدين لتكون قيمها المعيارية تدير العصر وليس بالمستورد من التاريخ أو المستورد من تجارب نجحت فأضحت مقدسة، بينما هي قد لا تنجح، وإن كان نجاحها قبل أعوام قلائل.

الاجتهادات البشرية ليست مقدسة ولا دائمة وإن كانت ناجحة، والقوالب تشوه الفكر والإنسان وإن كان القالب هو في ظن البعض من الإسلام، فاجتهاد وفهم الرعيل الأول ومن تلاهم حل مشاكلهم لكن لا يحل مشاكلنا، ولا ينبغي إضفاء القدسية على الأشخاص ومخرجاتهم بل كل شيء خاضع للمراجعة، وما يُجتهد به يعرض على أصل القيم، ونجاح الغرب في عصر التنمية، لا يعني أنه سيبقى ناجحا أو ينفع لنا، فهنالك شيء جديد ولا بد أن ندرس ونجتهد لإخراج آلية نموه ومعالجاته كمنهج في فهم بشري جديد لمقدس مثاني حمّال المعاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق