بين الحضارة الإسلامية الربانية والحضارة الغربية الهمجية
وقفة مع الحضارة الإسلامية.
يقول الحق سبحانه (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ
وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ).(الحجرات 13).
هذه لائحة سريعة، من قبيل المثال لا الحصر، لبعض أكابر العلماء الأعلام الذين خدموا دين الإسلام العظيم وهم من منطقة خراسان: وعلى رأسهم الشيخان الإمامان البخاري و مسلم، والأئمة الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه أصحاب السنن،
يتلوهم :آدم بن أبي إياس المروزي،أبو أحمد العسال الأصبهاني،أبو إسحاق الإسفراييني النيسابوري،أبو الحسين النيسابوري ،أبو الشيخ الأصبهاني،أبو الفرج الأصفهاني،أبو القاسم الرافعي القزويني،أبو القاسم السمعاني النيسابوري،أبو بكر السجستاني ،أبو حاتم الرازي ،أبو سعد الإدريسي،أبو طاهر السلفي،أبو عبد الله الحاكم النيسابوري،أبو عبد الله المعدل،أبو عوانة الإسفراييني،أبو قريش القهستاني، بنت معمر،أبو منصور الأشقر،أبو موسى المديني،أبو نعيم الأصبهاني،أحمد بن إسماعيل الطالقاني،إسحاق بن راهويه، إسماعيل الأصبهاني،ابن أبي حاتم الرازي،ابن أبي عاصم،ابن الجزري،ابن القاص،ابن المؤذن الكرماني، ابن المنذر النيسابوري، ابن خزيمة،ابن طاهر القيسراني،ابن فورك، عفيفة بنت أحمد الأصبهانية، ابن منده، ابن مهريزد، والمفسر الزمخشري، والمفسر النسفي، و الفقيه السرخسي، و الأصولي الآمدي.
وهذا غيض من فيض من منطقة واحدة دون سواها.
بنظرة سريعة إلى تاريخ الحضارة الإسلامية نخرج بملاحظة لافتة : أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومن جاء من بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، إذ خرجوا من جزيرة العرب للجهاد في سبيل الله، وتناثرت قبورهم حيثما وطأت أقدامهم فمنهم من ضرّج بدمائه الزكية أرض بلاد الرافدين، ومنهم من شهدت لجهاده ساحات الوغى في الشام، وفي مصر وشمال إفريقيا، بل وفي الأندلس غربا، بينما سار آخرون منهم لنشر نور الإسلام وعدله ورحمته شرقا في بلاد فارس وما وراء النهر،فجهادهم إنما جاء استجابة لأمر الله سبحانه بالقيام بواجب الشهادة على الناس (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143]؛
ولا بد أن نذكر هنا القاعدة القرآنية التي قامت عليها رسالة الإسلام ، أعني قاعدة (لا إكراه في الدين)، فالدخول في دين الله إنما يتم وفق قناعة ذاتية للإنسان بإيمانه بالعقيدة الإسلامية التي تربط بين الإنسان وخالقه برباط العبودية، وتربط بين الإنسان وأخيه الإنسان برباط الأخوة الإيمانية بغض النظر عن أي اعتبار آخر لجهة العرق والجنس واللون والقومية و المكان والزمان، فقافلة المؤمنين تمتد في شعب التاريخ وصولا إلى آدم عليه السلام أبي البشرية كافة، وليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى.
فلا عجب،على سبيل المثال، أن العلامة عبدالقاهر الجرجاني،الفارسي الأصل وقد ولد في جَرجان (وهي على طرف بحر قزوين) وعاش فيها دون أن ينتقل إلى غيرها حتى توفي سنة 471 هـ.
و مع أنه لم يتمكن من الرحلة في طلب العلم إلى الحجاز والعراق والشام كما فعل كثير من أقرانه من علماء خراسان، إلا أن هذا لم يحل دون تبحره في اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ويُعد عبد القاهر واحدًا من الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية في مجال الدرس اللغوي والبلاغي، إذ تقف مؤلفاته شامخة حتى اليوم أمام أحدث الدراسات اللغوية، ويُعد كتابه “دلائل الإعجاز” قمة تلك المؤلفات؛ حيث توصل فيه إلى نظريته الشهيرة التي عُرفت باسم نظرية التعليق أو نظرية النظم، التي سبق بها عصره، ومازالت تبهر الباحثين المعاصرين.
فالجهاد الإسلامي وإن هدف إلى إزالة الحواجز المادية، المتمثلة بالكيان السياسي القائم على تطبيق نظم غير إسلامية على الناس، إلا أنه ترك مطلق الحرية لأفراد الشعوب سواء بالاحتفاظ بدياناتهم وعقائدهم دونما إكراه، أو الدخول طوعا في دين الله فينضموا بذلك إلى إخوانهم في الدين.
ولم يخرج المجاهدون في سبيل الله للبطش بالأقوام والشعوب، ولا هدفوا إلى شن حملات إبادة عرقية أو ثقافية، بل قاموا بواجبهم في تطبيق أحكام الشريعة التي لا تميز في تطبيق الأحكام بين مسلم و ذمي لجهة مسؤولية الدولة عن رعيتها كافة بغض النظر عن عقائدهم ودياناتهم، وهذا ما جعل دار الإسلام قبلة المضطهدين في الأندلس الذين فروا بدينهم من محاكم التفتيش الكنسية؛
وقد شهد المؤرخ الفرنسي غوستاف لو بون بعدل الإسلام وتسامحه في مقولته الشهيرة: “فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب ولا ديناً سمحاً مثل دينهم.” (نحن نتحفظ على لفظ العرب، فالحق أن الحضارة هي الحضارة الإسلامية لا غير).
وقد أقر لو بون بأن:
”القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم…. فاذا حدث ان انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغةً له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى”.
واعترف بفضل الحضارة الإسلامية على الغرب الأوروبي قائلًا:
“إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا.. وإن جامعات الغرب لم تعرف مورداً علمياً سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدّنوا أوروبا مادةً وعقلاً وأخلاقاً، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه.. إن أوروبا مَدينة للعرب بحضارتها.. وإن العرب هم أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.. فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان”.
وقفة مع الحضارة الغربية
أما الحضارة الغربية ،وما أدراك ما الحضارة الغربية، فقد قامت الحملات الاستعمارية المتتالية، في أوج “عصر الأنوار”، بشن هجمات ضارية لا تقيم للأخلاق وازعا ولا للإنسانية وزنا، كيف و حضارة “الرجل الأبيض” لم تقر بإنسانية الشعوب المغلوبة التي لم يجدوا فيها إلا عقبةَ في وجه نهبهم وجشعهم اللامتناهي و طمعهم غير المحدود في نهب الثروات حيثما وطأت جيوشهم، ولا يسع المجال للخوض كثيرا في السجل الاستعماري الكالح وحملات الإبادة التي قام بها المستعمر الأوروبي سواء في إفريقيا أو في العالم الجديد (أمريكا بشمالها وجنوبها وما بينهما) أو في استراليا، بل وفي الصين، فلم تسلم من آثامهم وشرورهم وهمجيتهم أي بقعة على الأرض.
وقد قدّم داروين بنظريته في التطور القائمة على أن البقاء للأصلح، أو الأحرى الأقوى، التبرير “العلمي الفلسفي” لمقولة “نهاية تاريخ حركة التطور عند الرجل الأبيض، على جماجم وأنقاض الأعراق المتخلفة الأخرى.
والرجل الأبيض معذور في “العبء” الملقى عليه، والمراد ب”عبء الرجل الأبيض” The White Man’s burden” هو تحمله لمشاق وتبعات “تحضير وتمدين” الشعوب الهمجية التي احتل بلادها، وهذا ما عبر عنه داروين في تعقيبه على المجزرة التي أباد فيها المستعمر الانجليزي سكان جزيرة تاسمانيا في استراليا في 1858، إذ قال:
“إن التاريخ سيثبت أن الرجل الأبيض له كامل الحق في التخلص من الشعوب الهمجية”.
ويوازي هذا التعبير التعبير الأمريكي: مانيفيست ديستيني- القدر الإلهي Manifest Destiny، والقاضي بأن السماء أوكلت للمستعمر الأبيض في أمريكا تطهيرها من عرق الهنود الحمر، فهذه مهمة سماوية على المستعمر الأبيض القيام بها ولو مكرها.
وقد وصف الرئيس الأمريكي روزفلت في كتابه (1910 أي قبل أن يصبح رئيسًا):
” الأفريقيون دون استثناء عراة همج لهم أشكال القرود يسكنون في الغابات ويفترسون وحوشا ليست أكثر وحشية منهم، أو أحط منهم خلقة، فكل إفريقيا مسكونة بأحط أنواع البربرية”،
وذهب جون فيست إلى القول :
” بعض الشعوب مثل الصينيين و اليابانيين والمصريين يلهثون في مؤخرة هذا التطور(الدارويني)، وبعضها لا يستطيع أن يقلد المتحضرين ويتعلم منهم إلا بالقدر الذي تستطيعه البهائم”.
ثم جاء النازيون في عهد هتلر ليشكلوا “تجربة” علمية أخرى في التخلص من الأعراق المتخلفة، ولهذا تفصيل لا يتسع المجال له هنا.
فلا عجب أن تفنن المستعمر الأوروبي في فنون العذاب والقتل في العالم الجديد الذي اكتشفه “كولومبوس” ويعتقد الباحثون أن جنوده، ارتكبوا أنواع مختلفة من فنون العذاب والقتل، فبعد رحلة كولومبوس الأولى بـ 56 عاماً، يقال إن عدد مَن تبقى من الهنود على قيد الحياة فى جزيرة هيسبانيولا، وهى ثانى أكبر جزر الأنتيل، وتقع شرقى كوبا، وصل إلى 500 فقط من أصل 300.000 كانوا يعيشون هناك.
ولم يترك المستعمر الأوروبي وسيلة خسيسة مجرمة إلا استعملها في سعيه لإبادة الهنود الحمر، بما في ذلك نشر الأمراض والأوبئة؛ بل وصل الأمر إلى عرض جوائز لكل من يأتي بجمجمة لقتيل هندي،فعرض القادة العسكريُّون على أفراد الجيش مكافآتٍ ماليَّةٍ في مقابل عدد الرءوس التي يُحضرونها من الهنود الحمر.
وكانت رأس الرجل تُساوي مائة جنيه استرليني، في حين بلغت قيمة رأس المرأة أو الطفل خمسون جنيهًا استرلينيًّا، الأمر الذي حوَّل العسكريِّين إلى وحوشٍ متحرِّكة.
وقد أدَّت تلك الطرق الوحشيَّة لإبادة 18 مليونا من الهنود الحمر السكان الأصليِّين لأميركا.
يقول منير العكش، الأستاذ بجامعة سفولك الأميركية في كتابه القيّم “أميركا والإبادات الثقافية”:
” استمد هؤلاء الإنجليز كل أخلاق إبادة الهنود (وغير الهنود أيضا) من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين لأرض كنعان. كانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون فضّلهم الله على العالمين وأعطاهم تفويضا بقتل الكنعانيين، وكانت تلك الإبادة للهنود، وهي الإبادة الأكبر والأطول في التاريخ الإنساني، الخطوة الأولى على الطريق إلى هيروشيما وفيتنام”.
هذه الإبادة الكبرى للهنود الحمر، لم تكن عشوائية أو محض مصادفة، وإنما كانت عملية مقصودة خُطّط لها من قِبَل المستعمرين، فكما يرى كلاوس كونور، الأستاذ بجامعة برينستون، فإن الإنجليز “هم أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة للإبادات الجماعية، فهدفهم في العالم الجديد كأستراليا ونيوزيلاندا وكثير من المناطق التي يجتاحونها هو إفراغ الأرض من أهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها”.
وقد رسم توماس مكولاي، مهندس سياسة الإبادة الثقافية للشعوب المستعمرة، السياسة الاستعمارية الناجعة بقوله:” لا أظن أننا سنقهر هذا البلد (الهند) أبدا ما لم نكسّر عظام عموده الفقري التي هي لغته وثقافته و تراثه الروحي”.
ثم يأتيك بعض الظلاميين المنضبعين بسموم الحضارة الغربية لينعقوا بأن الحل أمامنا هو باقتفاء أثار الحضارة الغربية حذو القذة بالقذة، وهذا ما حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منه في الحديث الذي رواه البخاري:” لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق