بيني وبينك.. واغَزّتاه!!
صرختِ امرأةٌ مجهولةٌ لا يُعرَفُ لها من خبرٍ إلاّ صرختُها اليتيمة هذه: (وامُعتَصِماه)، قبلَ أكثر من اثنَي عشر قرنًا، مُستنهضةً النّخوةَ في دَمِ المعتصم الّذي يُمثّل رأسَ الدّولة. فسمعها الرُّوميّ الّذي كانتِ أسيرةً عنده، فقال مُستهِزئًا: «نعم، لو سَمِعَكِ المُعتصمُ فسيأتيكِ على خيلٍ بُلْق». فلمّا عَلِمَ المعتصم بذلك أعلنَ في الدّولة أنّ كلّ مَنْ يملك خيلًا بلقاء فلْيَبِعْها للجيش أو يُبادِلها، وشكّل جيشًا كلّه خيولٌ بُلْقٌ بيضاء، ولبّى صرخةَ هذه المرأة، وانتصر لها من عدوّها، فكان الانتِقامُ لها تاريخًا سُطّر في صحائف النّخوات الّتي ماتت اليوم. فكم من صائحٍ في بلادنا من شرقها إلى غربها ظلمًا ولا سامعَ له! وكم من مُستغيثٍ اليوم في غزّة ولا مُجيب!
وصدق الشّاعر عمر أبو ريشة إذْ قال:
رُبَّ وَامُعْتَصِماهُ انْطلقتْ
مِلْءَ أفواهِ الصّبايا اليُتَّمِ
لامَسَتْ أسماعَهمْ لكنّها
لمْ تُلامِسْ نَخْوَةَ المُعتَصِمِ
وحينَ ترجمَ ياقوت الحمويّ في كتابه مُعجَم البلدان لمدينة (طرسوس) قال بعدَ قِتال الرّوم فيها: «فصار تحتَ عَلَم الرُّوم خَلْقٌ من المسلمين مِمَّن تنصَّر ومِمَّن صبرَ على الجِزية، ودخلَ الرُّومُ إلى طرسوس فأخذَ كُلُّ واحدٍ مِنَ الرُّوم دارَ رَجُلٍ من المُسلِمين بما فيها… وَمِنهُنَّ (يعني نساء المُسلمين السّبايا) مَنْ مَنَعتِ الأبَ من ولده فنشأ نَصرانِيُّا، فكان الإنسانُ يجيءُ إلى عسكر الروم فيودّعُ ولدَه ويبكي ويصرخ وينصرفُ على أقبحِ صُورة… هذا وسيفُ الدَّولة حيٌّ يُرزَق بميَّافَارَقين والمُلوكُ كُلُّ واحدٍ مَشغولٌ بمحاربةِ جارِهِ من المسلمين وعَطّلوا هذا الفَرْض، ونعوذُ بالله من الخيبةِ والخُذلان ونسألهُ الكِفايةَ مِن عِنده».
لقد نعى ياقوت الحمويّ على أميرٍ مثل سيف الدّولة وعلى أمراء المُسلمين تركَهم النّاسَ تُقتَل وهم أحياء يسمعُون صرَخَاتهم، هذا مع أنّ سيف الدّولة قاتل الرّوم وحامَى عن بلادِ المُسلمين ودافع عن الثّغور الشّمالية عقودًا طويلة، فلو أنّ ياقوتًا عاشَ إلى اليوم ورأى ما يحدثُ في غَزّة على وجهٍ أبشعَ وأشنعَ مِمّا رأى في زمانه، فماذا كان سيقول؟!
إنّها والله لَطَامّة، وإنّ يدًا لا تدفعُ عنّي وهي قادرةٌ لَهِيَ عدوّةٌ لي، وإنّ قومًا يُسمّون أنفسهم عربًا ومُسلمين يرون هذا الذّبح والدّمار ولا يُحرّكون ساكِنًا ليسوا بعربٍ ولا مُسلمين، ولكّنها فِتَنٌ كَقِطَعِ اللّيل المُظلِم، ولعلّ الله يُحدِثُ بعدَ ذلك أمرًا، أو لعلّ أُذنًا واعيةً تسمع (واغزّتاه) يومًا فيكون لها الصّريخ، ويُبدّلُ الله هذه الحال إلى أحسنَ منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق