الجمعة، 4 أبريل 2014

العفاريت والعار التاريخي لـ «الدكر»!



العفاريت والعار التاريخي لـ «الدكر»!


لما قررت العودة للكتابة بعد فترة التوقف الإجبارية، أخذت عهدا على نفسي ألا أكتب في الشأن المصري بتاتا البتة.
ليس خوفا أبداً مما يروجه الحاقدون المغرضون بأننا نعيش في «جمهورية الخوف».. قطع لسانهم نفر نفر..
ولكن لأن مصر بفضل كل محبيها ومخلصيها من أول السيد الرئيس «عطية منصور» حتى السيد المستشار «مرتضى منصور»، تسير نحو الطريق الصحيح، وخارطة الطريق ماشية عال العال. 
وخد عندك:
1- عملنا دستور ربنا يحرسه من كل عين شافته ولا قالت بسم الله الله أكبر.
2- أنجزنا أهم اختراع في تاريخ البشرية لعلاج الإيدز وفيروس سي، وجعلنا «الكفتة» كلمة سر الكرة الأرضية.
3- أصبح اقتصادنا هو الوحيد في العالم الذي يعتمد شعار: «هات عينيك تسرح في دنيتهم عينيا.. هات إيديك ترتاح للمستهم إيديا.. بس بشرط يكون فيها ريال أو درهم!!».
ثم إنه من العيب أن أتكلم عن مصر بسوء، لأنها أمي وزي ما انتو عارفين نيلها جوه دمي. صحيح إن نيلها ملوث بفعل تصريف المجاري ومخلفات المصانع فيه، وصحيح إن دماءنا أصبحت ملوثة بالفيروسات وده من خيرك يا مصر، لكن لنتذكر جميعا الرسالة السامية التي جاءت الست نجاح سلام خصيصا من بيروت لتعلمنا إياها: «ما تقولش إيه ادتنا مصر.. قول هندّي إيه لمصر».
لن أكتب سياسة بعد اليوم. ماله الفن؟! ومالها الرياضة؟! حتى من يكتب فيهما تعرفه الأمة من شرقها لغربها ولا يبقى في طي النسيان كأمثالنا.
لكن استأذنكم فقط أن أكتب اليوم عن الأدب، حتى الأدب أصبح مقروءا بعد تصريح أيقونة ثورة «30 يونيو» سما المصري: «مصر جابت نجيب محفوظ في الأدب، وأنا في قلة الأدب».
قبل نحو عامين كتبت عن الرواية البديعة «انفجار جمجمة» للأديب النوبي الراحل إدريس علي.
رسم فيها صورة قلمية مدهشة لبطل الرواية «بلال»، والذي تداخلت شخصيته واختلطت سيرته بشخصية وسيرة «إدريس» نفسه. اليوم أتذكر تفاصيل هذه الرواية لسبب وجيه جدا ستعرفونه في آخر المقال!
«بلال» باختصار إنسان مر بظروف قاسية في حياته. قادم من الجنوب إلى القاهرة بثقافة «التهميش». أحب جارته الفتاة الرقيقة دون أن يملك جرأة التصريح لها بمشاعره، لكن ضابطا سبقه وتزوجها، ولما التحق بالجندية وجد «بلال» ضباطا آخرين يعاملونه بقسوة. إنهم دائما سبب بلاويه.. يجهضون أحلامه في الحب وينتهكون إنسانيته في الحياة. كان يشعر بهاجس أنه مطارد من طوب الأرض. يمكن تفهم سر هذا الهاجس إذا عرفنا أن قائده في الخلية اليسارية التي انضم إليها مطلع شبابه، لم يكن سوى «مرشد» لأمن الدولة وهو الذي أبلغ عنه، فاعتقلوه.
عاش «بلال» عمره كله وهو يحلم أن يخلده الناس بنصفه الأعلى.. عقله وفكره وكتاباته. لكن حظه أوقعه في أناس لا تشغلهم أمور كهذه. لما تزوج ذهبت زوجته إلى أمها تطلب الطلاق لأنه منشغل عنها بالكتابة والقراءة. ادعت أنه «متزوج» الكتب ولا يقترب منها!
حملته الأيام وحطت به من أرض لأرض داخل البلاد شرقا وغربا. عندما أيقن أنه سيظل مطاردا في مصر ويحصل على لقمة العيش بأعجوبة، قرر الفرار. لكن ماذا يفعل وهو ليس معه جواز سفر. تذكر أيام خدمته بالجندية على الحدود الغربية مع ليبيا، وعمليات التهريب التي كانت تجري وقتها للبشر والبضائع. حمل حاجياته البسيطة واتجه إلى الإسكندرية ومنها غربا إلى محافظة مطروح، ثم أقصى غرب المحافظة، حيث مدينة السلوم الحدودية المواجهة لأول مدينة ليبية على الجهة الأخرى «مساعد». تفاصيل شيقة حدثت لـ «بلال» في محاولات الهرب، أبرزها تعرفه على سيدة بدوية آوته في بيتها وقدمت له الحب الذي يفتقده.
تحتوي الرواية على تفاصيل مشهد حميم بين «بلال» وهذه المرأة التي غيرت مسار حياته. يرسم إدريس على لوحة جميلة من المشاعر الإنسانية المتدفقة بين رجل أنهكته الحياة، وامرأة انعكست قساوة البداوة عليها فأنستها أنها امرأة بحاجة إلى ونيس. وجدت ضالتها في «بلال»، ولمس هو فيها الحنان المحروم منه. يتحدث في المشهد عن «الصحراء» التي شربت بعد عطش.. وعن المياه التي غمرت الشقوق لتحيل اصفرارها إلى اللون الأخضر. ينتقل بك من جنون ونار الاحتياج إلى الراحة والسكينة والعزف على «كمان» أعذب الألحان.
المرأة التي كانت تعرف «الدليل» الذي سينقله عبر الدروب إلى الجهة الأخرى من الحدود، خرجت تحكي وتزيد وتعيد عن فحولة «بلال». تحدثت للنسوة في السوق عن هذا «المصراوي» الأسطوري. تغلبت على حبها وساعدته على الوصول إلى السلك الفاصل بين الحدود المصرية والليبية. لكن سوء حظه المعتاد- أبى أن يجعله يمر. اخترق سيخ حديدي جسده وانهمرت الدماء. مات «بلال» وبقي معلقا على السلك. حضر حرس حدود البلدين يستفسران عن هوية صاحب الجثة المعلقة. رفض كل طرف استلامه لعدم وجود ما يثبت شخصيته أو جنسيته. أبقوه على نفس حالته للنظر في أمره.
لما عرفت البدوية بما حدث لم تتمالك نفسها من الصدمة. تحول بكاؤها على الحبيب إلى نحيب. أصابها مسّ من جنون العشق، فلم تكتف بترويج الحكايات والأساطير عن رجولته وإنشاد الأغاني الإباحية عنه، بل أقامت له مقاما باعتباره الفحل الأول في بر مصر من السلوم إلى أسوان. هكذا خلدته الحبيبة بـ «نصفه الأسفل» بعدما عاش يحلم بأن يخلد بـ «نصفه الأعلى».
أما حرس الحدود فظلوا على جدال ورفض لتسلم الجثة المعلقة على السلك. أخيرا توصلوا إلى حل يرضي جميع الأطراف: «أن يحرقوا الجثة». أشعلوا النار فيها، وتجمع الناس ليهتفوا: حريقة.. حريقة!
هكذا انتهت الرواية، التي تذكرتها وأنا أسمع وأقرأ هذه الأيام رواية تدور أحداثها في إحدى بلاد العالم الثالث.. عشر. بطلها يقدم نفسه في صورة المنقذ الذي سيخلده التاريخ بأفكاره التي لم يأت بها الأولون ولن يأتي بها اللاحقون.
لكن بعد هوجة التسريبات وظهوره فيها على حقيقته. إنسان بائس على باب الله بلا فكر أو فكرة، استسلم لقدره ورضي بأن يتم تخليده في صورة «دكر الأمة» ويتغلب على «بلال».
لكن قليل الحظ يطلع له في كل خرابة لميس الحديدي. فمن حيث لا يدري أو يحتسب خرج عليه شوية عيال عفاريت وألصقوا به صفة ستظل ملازمة له أبد الدهر، ولن تذكره كتب التاريخ إلا مقرونا بها.
صحيح.. عيال «قلالاة» الأدب!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق