الغزالي فيلسوف الاجتماع
د.محمد عمارة
إننا نعيش الآن ذكرى مرور قرن على ميلاد الشيخ محمد الغزالي (1917 - 1996م) الذي كان نموذجا فريدا من العلماء المجددين.
وإذا كانت الفريضة الغائبة والمنشودة اليوم في عالم الإسلام هي العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعي، فلقد كان الشيخ الغزالي أول العلماء الذين بدأوا معاركه الفكرية على هذا الصعيد، ففي أول كتاب نشره عام 1947م، عن (الإسلام والأوضاع الاقتصادية) كتب يقول:
"لقد رأيت - بعد تجارب عدة - أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظمية، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة، إنه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خالية، وأن تكسوه بلباس التقوى إذا كان جسده عاريا، إنه يحب أن يؤمن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان، ثم ينتظر بعدئذ أن تستمسك في نفسه مبادئ الإيمان، فلابد من التمهيد الاقتصادي الواسع، والإصلاح العمراني الشامل، إذا كنا مخلصين حقا في محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين، أو راغبين حقا في هداية الناس لرب العالمين.
إن بعض ذوي الآفاق المغلقة يتوهمون أن إدخال العوامل الاقتصادية في الرذائل الفضائل جنوح إلى التفكير الشيوعي القائم على النظرة المادية المحضة للحياة، واستهانة بالقوى الروحية السامية، وهذا التوهم خاطئ، فلسنا نغض من قيمة الجانب الروحي، بيد أن ذلك لا يعني إغفال المشاهد المحسوسة، من تولد الرذائل الخطيرة في المجتمعات المصابة بالعوز والاحتياج بل إن الاضطراب الاقتصادي في أحوال كثيرة جدا قد يكون السبب الأوحد في نشوء الرذيلة وشيوعها، والحديث النبوي الذي يلمح فيه نبي الإسلام إلى أن المعاصي توقع فيها الضوائق المادية، - حديث: "إن المدين قد تلجئه قلة الوفاء إلى الكذب" يضع أيدينا على طرف الحقيقة التي بدأ الناس يفهمونها الآن كاملة.
إن بقاء كثير من الناس صرعى الفقر والمسكنة هو هدف أكثر الحكومات المتتابعة في العصور السابقة واللاحقة، إذ إن تجويع الجماهير هو بعض الدعائم التي تقوم عليها سياسة الظلم والإظلام، ومن هنا انتشر الفقر في الشرق، وسُخر الدين ورجاله لحمل الناس على قبوله واستساغته، وفسرت نصوص الدين المتصلة بهذا المعنى تفسيرا سقيما، نسي الناس معه حقوقهم وحياتهم، وجهلوا دنياهم وأخراهم، وحسبوا الفقر في الدنيا سبيلا إلى الغنى في الآخرة!.
إن هدف الديانات والرسالات هو قيام التوازن بين الناس، بإقامة العدل الاجتماعي والسياسي فيهم، وقيام الناس بالقسط - العدل - هو محور الارتكاز الذي لا يتغير أبدا، وقد قال بعض علماء الأصول: إن مصالح الناس المرسلة لو وقف دون تحقيقها نص أُوِّل النص، وأمضيت المصالح التي لابد منها، وللحكومة - من مجهة النظر الدينية - أن تقترح ما تشاء من الحلول، وأن تبدع ما تشاء من الأنظمة لضمان هذه المصحة، وهي مطمئنة إلى أن الدين معها لا عليها، ما دامت تتحرى الحق، وتبتغي العدل، وتنضبط بشرع الله فيما تصدره من اقتراحات وقوانين.
إن المال الذي يكفي لإذهاب العيلة واستئصال الحرمان، وإشاعة فضل الله على عباده بجب إخراجه من ثروات الأغنياء، لو تجاوز الزكاة المفروضة، لأن حفظ الحياة حق إسلامي أصيل، والزكاة ليست إلا الحد الأدنى لما يجب إنفاقه، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في المال حقا غير الزكاة".
ومن الواجب: 1- تأميم المرافق العامة 2- وتحديد الملكيات الزراعية الكبرى، وتكوين طبقة من صغار الملاك تؤخذ نواتها من العمال الزراعيين 3- وفرض ضرائب على رؤوس الأموال الكبرى 4- واسترداد الأملاك التي أخذها الأجانب 5- وربط أجور العمال بأرباح المؤسسات الاقتصادية التي يعملون بها 6- وفرض ضرائب تصاعدية على التركات، تنفق في وجوه الخير، على النحو الذي أشار إليه القرآن الكريم: "وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه".
هكذا تحدث الشيخ الغزالي - قبل نحو خمس وسبعين عاما - حديث كبار فلاسفة الاجتماع والاقتصاد، عن العدل الذي هو اسم من أسماء الله، وروح حضارة الإسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق