الخميس، 15 يونيو 2017

"غوانتنامو قصتي".. وفاة في السجن




"غوانتنامو قصتي".. وفاة في السجن

سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات



وأعود لأغرق في وحدتي يتناهى إلى أذنيَّ غناء طير الليل الجريح، أشعر كأن غناءه الضارع الحزين أحرف عزاء ينثرها من أجلي، لكأنه كان معي طوال تلك الرحلة الطويلة، رحلة العذاب والضنى... وخفت الغناء لا لأن الطائر رفيق الليلة يبتعد، وإنما لأنه يقترب لنبقى معاً عند شط الخليج العربي مؤرقين بذكرى خليج آخر، خليج غوانتانامو الذي صرخ أحد الصحفيين البريطانيين أثناء زيارته له قائلا: "ما هذا المكان بحق الجحيم؟".

كان حقاً جحيماً تستعر فيه ألسنة الكراهية، وتتخلق رؤوس اللهب فيه ومنه إلى وجوه بشرية بشعة، ورؤوس كلاب تعمل على حراستنا ليلاً ونهاراً، تسومنا سوءَ العذاب وتذيقنا مُرَّ الهوان.

نحن سجناء غوانتانامو تم احتجازنا بلا سبب، فقط لأننا كنا في باكستان وأفغانستان عند بدء الحرب الأمريكية على أفغانستان، نقلنا على نحو غير إنساني مكبّلين بالسلاسل، مغمضي العيون، مسدودي الآذان على متن طائرات (C17) العسكرية في رحلة تستغرق سبعاً وعشرين ساعة، لنُرمى في زنزانات فولاذية مكشوفة أرضها أسمنتية خراسانية صلبة، فيما كان يسمى آنذاك بأشعة إكس، والذي تم تحويله فيما بعد إلى معتقل دلتا، لنعيش حلقات مسلسل طويل من الإهانة والإذلال والتعذيب.

ليس في الزنزانة أثاث، كل ما هناك قارورة ماء تستبدل كل شهر، ومعها كوب خفيف من الفلين، ومرتبة وحصيرة بلاستيك بسيطة كنا نستخدمها للصلاة ونستتر بها عند قضاء الحاجة
وطارت طيور الليل العربي تغني يتناهى غناؤها إلى أذنيَّ مع الحفيف البعيد لموج الخليج، خليج قريب لا ينفك يذكر بصدىً لأمواج خليج بعيد. كل شيء في هذه الليلة يبدو جارحاً كنصل من حديد يقطّع ثنايا وطيات الذاكرة، يقطّع حنايا الفؤاد.

هل ذقتم العُري مع ضغط القيد وخشونة الأرض الصلبة؟ هل جرَّبتم الحرمان من النوم لياليَ متصلةً تحوِّل الساعات كابوساً متصلاً تتحرك فيه النفس والمرئيات مثل أشباح تتوالد أشباحاً لدرجة أن يصبح الجنون أمنية ونافذة للخلاص؟ عُواءُ الكلاب الشرسة.. هجومُها.. استغاثاتُ المعذبين جسدياً ونفسياً... يا إلهي، كيف استطعتُ تَحَمُّل ذلك العذاب!؟ أوَ ترى تذْكُرني الآن الزنزانة التي استقبلتني فور وصولي، الزنزانة رقم (40) من عنبر ليما (L) في المعسكر الثاني.

لقد كان في غوانتانامو معسكران: 1 و 2، يبعد الأول عن الثاني مسافة مئة متر، ويضم ثمانية عنابر هي: ألفا (A) وبرافو (B) وتشارلي(C) وهوتيل(H) وغولف(G) وإيكو(E) ودلتا(D)، فضلا عن عنبر إنديا (i) السيّء الصّيت. أما المعسكر الثاني فكان يضم خمسة عنابر هي: كيلو(K) وليما(L) ومايك(M) ونوفمبر(N) وأوسكار(O).

وكما ذكرت، ففي المعسكر الأول: عنبر إنديا (i) المخصص للعقوبات زنازين حاويات مفتوحة مقسمة بأعمدة من الفولاذ والحديد، مساحة الواحدة منها متران في متر ونصف متر طولاً وعرضاً، وبداخلها مغسلة حديدية مثبت إلى جوارها سرير حديدي مثبت هو الآخر بأرضية الزنزانة، وبين المغسلة والسرير فتحة صغيرة نستخدمها لقضاء الحاجة.

ليس في الزنزانة أثاث، كل ما هناك قارورة ماء تستبدل كل شهر، ومعها كوب خفيف من الفلين، ومرتبة وحصيرة بلاستيك بسيطة كنا نستخدمها للصلاة ونستتر بها عند قضاء الحاجة.

أوساخ البدن تنقضي لا محالة، ولو في أحشاء الأرض وأفواه الديدان. لكن، ماذا عن قذارة الروح! فبدَمٍ بارد، يقتل الإنسان أخاه الإنسان، بعد أن يعذبه، ثم يمزق جثته ويرسلها في صندوق لوالده!!
وحين يكون السجان راضياً عني، فقد ينعم عليَّ بشرشف واحد وبطانيتين ومنشفتين عاديتين وأخرى صغيرة لليدين، وصابونة صغيرة ومعجون أسنان وفرشاة؛ المعجون عبارة عن سائل أقرب إلى الماء، بينما الفرشاة صغيرة جداً تركب على الأصبع حتى أستطيع تمريرها على أسناني. هذه هي الأشياء التي قد تكون بحوزتي إذا رضي الحراس، هي كل ما أملك في مكان يئزُّ فيه الشقاء أزًّا، ويجهد القائمون عليه في جعلك لا تشعر بالتقزز منه وإنما من نفسك، من مكابدة أوساخك على نحو بعيد عن التحضر وعن أبسط قواعد النظافة البدنية. وبالحرص على فرض هذا المزاج المنحرف، يأمل الحراس والجنود أن تتوفر لهم فرص أفضل للترقي، لكن الترقي في ماذا؟ في السادية التي تصل إلى حد القتل؟

أوساخ البدن تنقضي لا محالة، ولو في أحشاء الأرض وأفواه الديدان. لكن، ماذا عن قذارة الروح! فبدَمٍ بارد، يقتل الإنسان أخاه الإنسان، بعد أن يعذبه، ثم يمزق جثته ويرسلها في صندوق لوالده!!

نعم، لقد حدث ما قد يجعل الحديث عن شأن نظافة البدن ضرباً من الترف، ففي التاسع من يونيو/ حزيران عام 2006 عُثر على ثلاثة من السجناء ميتين في قسم كامب دلتا، هم: صلاح أحمد السلامي، ومانع بن شامان العتيبي، وياسر طلال الزهراني في ظروف مثيرة للعجب؛ كلٌّ معلقٌ في زنزانته، ويداه مقيدتان وقدماه كذلك، وقطعة قماش محشوة في فمه، ولم يتم اكتشاف جثثهم إلا بعد ساعتين على الرغم من أن زنازين المعتقلين كانت دائماً تحت المراقبة الشديدة، حراس يحومون حولها على مدار الساعة، وكاميرات تسجل كل حركة لهم.

وفي محاولة لشرح ما جرى في كامب دلتا، قال الأدميرال هاري هاريس مسؤول المعتقل في حينه: إنه لا يعتقد أن يكون سبب الانتحار "ناجماً عن حالة من اليأس"، ولكنه كان "فعلاً من أفعال الحرب غير المتناسقة". كان الثلاثة قبل العثور على جثثهم معتقلين في قسم اسمه "ألفا" حيث كانوا قبل وفاتهم قد أضربوا عن الطعام احتجاجاً على الظروف السيئة. قبلت وسائل الإعلام آنذاك تبرير الأدميرال هاريس ونسيت قصة الثلاثة وأغلق الملف عند هذا البيان، ولم تتخذ سلطات السجن أي إجراءات ضبط أو عقوبات ضد الحرس الذين أهملوا واجباتهم في ليلة الوفاة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق