الأحد، 18 يونيو 2017

هل أتاك حديث رئيس الوزراء البريطاني عام 1907 ؟


هل أتاك حديث رئيس الوزراء البريطاني عام 1907 ؟

أ.د.يوسف خليفة اليوسف

في عام 1907 كلف رئيس الوزراء البريطاني عندئذ كامبل بانرمان عدد من مفكري وفلاسفة وعلماء سبع دول أوروبية تنوعت تخصصاتهم بدراسة الكيفية التي يمكن أن تحفظ بها الدول الأوروبية سيطرتها على الشرق وتأخير فترة تراجعها وانهيارها كما حصل لبقية القوى الأستعمارية ، وبعد قراءة تاريخ الحضارات السابقة من حيث النشأة والأنهيار خرجت هذه الهيئة بتقرير حمل اسم رئيس الوزراء بانمر وقد تم التكتم على هذا التقرير نظرا لحساسيته وخطورته حتى أواخر الأربعينات حيث ورد ذكره في محاضرة بعنوان " فلسطين والقانون " القاها المحامي انطوان كنعان في جامعتي فلورنس وباريس عام 1949 ، ثم قام اتحاد المحامون العرب باصدار التقرير في عام 1957 ، وبعد ذلك اكد الأستاذ محمد حسنين هيكل وجود هذه الوثيقة في كتابه المعنون " المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل" . وجدير بالأجيال العربية اليوم ان تتأمل هذا التقرير لتفهم واقعها وتحسن العمل على تغييره اذا ارادت السير في طريق النهضة ، والتقرير فيه تشخيص لواقع العالم العربي عندئذ وفيه كذلك مقترحات لكيفية الهيمنة عليه وفي هذه الورقة المختصرة نستعرض مضمون هذا التقرير وتوصياته ثم نستخرج منه بعض العبر لواقعنا العربي اليوم . 

يقول تقرير بانرمان :" هناك قوم يسيطرون على مناطق شاسعة غنية بالثروات الظاهرة والباطنه ويسيطرون على أهم الطرق التي تربط مناطق العالم وارضهم هي محضن الديانات والحضارات البشرية . هؤلاء القوم لهم دين واحد وينطقون بلغة واحدة ولهم تاريخ مشترك وطموحات واحدة وليس هناك ما يفصل بينهم ... واذا توحدوا في دولة واحدة فانها ستمسك بمقدرات العالم في يدها وستفصل أوروبا عن بقية العالم . وبأخذ هذه الحقائق في الأعتبار لا بد من زرع كيان غريب في قلب هذه المنطقة لمنع توحدها واستنزاف مواردها بحروب لاتنتهي ويمكن لهذا الجسم ان يمثل راس حربة لتحقيق ما يرغب فيه الغرب من مصالح " . 

وقد اقترح المؤتمرون - أو المتآمرون اذا شئت - عدة سياسات لمنع توحد المنطقة العربية وأبقائها خاضعة للغرب ومن اهم هذه السياسات : تشجيع التجزئه والأنقسامات والحركات الأنفصالية ، انشاء كيانات سياسية مصطنعة وخاضعة للدول الغربية ، محاربة أي جهود وحدوية سواء كانت فكرية او دينية او غيرها اضافة الى انشاء " دولة عازلة " في فلسطين يسكنها شعب قوي معادي لجيرانه وصديقا للغرب ومحافظا على مصالحه . 

هذا هو جوهر ما ورد في تقرير بانرمان الصادر عام 1907 . 

والمتامل للعالم العربي اليوم يرى أنه يمثل صورة واقعية لتوصيات تقرير بانرمان . فقد تم فصل الأقليم العربي عن الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الثانية ، وقد سبق وان وعدت الدول الغربية الشريف حسين بدولة عربية موحدة مقابل وقوفه الى جانبها ضد الأتراك ، أما على صعيد الممارسة فقد وضعت خطة لتنفيذ توصيات تقرير بانرمان ، ففي عام1916 فرضت الوصاية الغربية على غالبية اجزاء العالم العربي عملا باتفاقية سايكس-بيكو ، وفي عام 1917 صدر وعد بلفور الذي يعطي اليهود دولة في فلسطين ، وقد وافق على هذا الوعد المشؤوم كل من الرئيس الأمريكي ولسون ، الذي طالما تغنى الغرب بمبادئه التي يطالب فيها بتحرر الشعوب ، ووافقت على هذا الوعد كذلك كل من فرنسا وايطاليا والفاتيكان لجعله وعدا دوليا ، وقد تواطأت معهم "جمعية الأتحاد والترقي" التركية ، التي سبق وان اسقطت السلطان عبدالحميد عام 1908 . 

وما ان بدأت الدول العربية في نيل "استقلالها" بعد الحرب العالمية الثانية حتى بدأت الصراعات العربية-العربية بكل اشكالها ، فخلال الحرب الباردة بين الغرب والشرق كان الصراع عندنا هو بين التقدميين والرجعيين ، وحول القضية الفلسطينية كان الصراع بين بين اهل الصمود واهل السلام ، وبعد ذلك اصبح الصراع بين دول الممانعة ودول الأعتدال ، ورافقة صراع بين الأسلاميين والقوميين ، وها نحن الآن ندخل مرحلة الصراع بين السنة والشيعة ، وقد ظلت منطقتنا ارضا لمعارك مدمرة اكلت الأخضر واليابس ولازالت هذه المعارك مستمرة ، وقد نتج عنها القتل والتشريد وتدمير البنية الأساسية وتضييع فرص التنمية والحرمان من الأمن والأستقرار ومزيد من الفقر والجهل ومزيد كذلك من توسع الكيان الصهيوني على حساب أهلنا في فلسطين ، وكلما بذلت جهودا لأطفاء معارك داحس والغبراء قامت الدول الغربية بمساعدة أعوانها في المنطقة كاسرائيل وشركات النفط الأجنبية والأنظمة المستبدة واجهزة المخابرات الغربية وبعض رجال اعلامها وشركاتها الأمنية في اشعالها من جديد كل ذلك حتى لاتفكر هذه الأمة في جمع شملها وتوحيد صفها واستغلال مواردها في بناء مجتمع متقدم . 

ونحن على يقين باننا ونحن نسطر هذه الكلمات فان هناك مراكز تبحث وخبراء يفكرون في صور وآليات جديدة ومبتكرة لتعميق التجزئة في منطقتنا ، فسوريا واليمن والسعودية والعراق والمغرب وليبيا والجزائر وحتى الدول العربية الصغيرة لن تكون بمعزل عن هذا المسلسل الا اذا افقنا من سباتنا العميق.
 بل وقد يحاول البعض ان يغتنم فرصة الربيع العربي وما يواكبه من توتر وحراك لجعله محطة تقود الى مزيد من التفكيك لمنطقتنا ، فجميع بلدان الربيع العربي ظهرت فيها ثورات مضادة لثورات الشعوب التي مثلها الربيع العربي وهذه الثورات المضادة تجمعت تحت رايتها فلول الأنظمة السابقة واجهزة ألأستخبارات الأجنبية وبعض الحكومات الخليجية التي اعمتها مصالحها الآنية عن النظر الى مستقبل هذه الأمة والتناغم مع تطلعات شعوبها . غير أن مسؤولية تقع كذلك على الأحرار في هذه البلدان حيث انشغل بعضهم بالخلافات قبل اسقاط انظمة ألأستبداد كما هو الحال في سوريا وبعضهم ظهرت خلافاته بعد اسقاط الأنظمة السابقة كما حصل في مصر ولبيبا واليمن وهذه الخلافات بين أحرار الأمة غير مبررة لأن المرحلة الحالية تتطلب الأتفاق على الحد الأدنى أي المشتركات وعدم الخوض في تفاصيل الشكل الذي ستأخذه أنظمة هذه الدول في المستقبل لأن هذه القضايا التفصيلية تتطلب بيئة صحية للحوار وتتطلب ايجاد وعي مجتمعي يتم على ضوءه تطوير عقد اجتماعي جديد في جميع هذه الدول . 
من هنا فان المهمة الأساسية لهؤلاء الأحرار في الوقت الحاضر يجب ان تتمثل في وضع قوانين اللعبة السياسية والألتزام بنتائجها من قبل جميع الأطراف لأن هذا الألتزام يعني السماح لعجلة التغيير في الدوران بصورة متدرجة ، وهذا يعني كذلك تنقية المجتمع من ثقافة الأستبداد والرأي الواحد واستخدام العنف باشكاله واستبدال هذه الأساليب باساليب سلمية يضبطها القانون وتمارس من خلال المؤسسات الفاعلة . 
وهذا كله يتطلب من أحرار هذه الأمة عدم الوقوع فريسة لمزيد من الخلافات باشكالها والعمل الدؤوب من اجل توفير الحرية لكل أبناء المنطقة ومساعدتهم على ممارستها بصورة تؤدي الى بلورة عقد اجتماعي جديد وتضييع الفرصة على المتربصين بالربيع العربي ، ذلك أن الفساد والأستبداد والتبعية والظلم لايكمن حلها بمزيد من التجزئة ، وانما يكمن حلها في مزيد من التوحد الذي يعمق المشتركات ويحقق التنمية التي لاتتحقق في ظل كيانات صغيرة ، ويحفظ أمن شعوب هذه المنطقة ويردع الأطماع الأقليمة والدولية . ونحن وان كنا لاننكر "نظرية المؤامرة " ، وهذا التقرير احد الشواهد عليها ، الا اننا يجب أن نضعها في حجمها الطبيعي وننتقل لما هو أهم منها وهو ايجاد المناعة ضدها ، فقد تعود بعضنا ان يجعل من المؤامرات التي تحاك ضد هذه الأمة مشجبا يعلق عليه اخفاقاته واستبداده وتعطيله لطاقاته متناسيا ان لهذه الأمة منطلقات عقائدية تؤكد بانها امة لاتؤتى من الخارج الا بعد ان تنهار حصونها من الداخل كما اخبرنا رسولنا الكريم عليه افضل الصلاة والتسليم ، وفي هذا الصدد يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله ان مصائد المستعمر لاتقع فيها الا امة لديها قابلية للأستعمار، وهذا هو ما حل بالعرب والمسلمين منذ ان بدأوا بنقض عرى دينهم ..عروة عروة حتى اصبحوا غثاء كغثاء السيل . وينسى من يتكيء على نظرية المؤامرة بيننا كذلك ان الحديث عن المؤامرة وحده لن يغير من نتائجها في شيء ، وانما الذي سيدفع اذاها عن هذه الأمة هو الفهم الصحيح للعلل التي حلت بهذه الأمة والتي من بينها الأستبداد ، والفقر ، والتجزئة ، والجهل ، والتفكير الضيق ، والأنانية الزائدة ، وممارسة العنف الكلامي والجسدي في غير موضعه ، وتقديس الأشخاص ، وعدم القدرة على تحمل وجهة النظر المخالفة ، والعجز عن التفكير الأبداعي ، اي خارج المألوف ، والأكتفاء بتكرار مقولات اكل الدهر عليها وشرب وغيرها من مظاهر التخلف ، التي ستظل تنهش في جسد هذه الأمة وتمنعها من السير الى الأمام حتى يتم علاجها مصداقا لقوله تعالى " ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم " . وهنا لابد لنا أن نذكر اخواننا واخواتنا الكرام بان تاريخ الحضارات البشرية يشير بوضوح الى ان كل حضارة بشرية ظلت تسعى لنشر قيمها والحفاظ على مصالحها مع تفاوت في نوعية هذه القيم وفي سبل الحفاظ على المصالح ، وبالتالي فلا ينبغي ان نستغرب ما تضمنه التقرير السابق اذا تذكرنا الفلسفة المادية التي تنطلق منها الحضارة الغربية ، بل يجب أن نستغرب من عجزنا عن ممارسة سنة المدافعة بكفاءة عالية تحبط مخططات الأعداء ، خاصة وان كبوة هذه الأمة قد طالت وهي تنتقل من أزمة الى أخرى أكبر منها ، ونحن لازلنا منشغلين بقضايا هامشية . 
هذه المدافعة تتطلب الكفاح من اجل اعادة بناء الحصون من الداخل وهذا بدوره يتطلب الأنتقال من انظمة مستبدة تعبث بقرارات وبمقدرات الأمة وتتقاسمها مع الأجنبي الى حكومات تتصف بالرشد وتعبر عن أرادة شعوبها وتخضع لها ، والأنتقال من اقتصاد السمسرة والريع الى اقتصاد حرفي ومنتج يقوم على الصناعة والنسيج والزرع ، والأنتقال من اعلام يزور الحقائق وينشر الرذائل الى اعلام يتصف بالموضوعية وكشف الحقائق ، ومن قضاء يمثل ادوات بطش في أيدي الأنظمة الى قضاء يحفظ كرامة الأنسان وحقوقه ، وكل هذه الأمور يصعب تحقيقها مالم تخطو هذه الأمة خطوات منتظمة وتدريجية نحو تحويل هذه الكيانات الهزيلة الى كتلة تمتد من الخليج العربي الى المحيط الأطلسي وتحمل اسم الولايات العربية المتحدة ، والوحدة المنشودة لاينبغي أن تقوم على الأكراه وانما يجب أن تنبع من قناعة شعوب المنطقة بانها السبيل الوحيد لتحقيق النهضة المنشودة . هذا يعني انها لن تكون وحدة يفترس فيها القوي الضعيف أو يتسلط عليه كما يحصل في ظل الأنظمة الأستبدادية ، وانما ستكون اقرب الى النموذج الأمريكي أو الأوروبي أو الأتحاد الماليزي حيث ان كل دولة أو ولاية لها الحق الكامل في الدخول في هذا الكيان او عدمه وستحافظ على كثير من خصوصياتها ، ولكنها ستصبح جزءا من كيان أكبر يحقق لجميع الأطراف مكاسب اقتصادية وامنية بعيدة مدى لايمكن تحقيقها في ظل الكيانات الحالية . ولاينبغي للدول الغنية بالنفط اليوم ان تنسى حقائق التاريخ وهي ان الأعتماد على مورد ناضب كالنفط لايمكن التعويل عليه في المستقبل وان افضل مسار هو اغتنام فرصة وجود هذه الثروة الناضبة لتحويلها الى ثروة دائمة في اطار كيان اقتصادي كبير يحقق اقتصادا متنوعا في هيكله من الزراعة الى النسيج الى الصناعة بانواعها الى استنبات التقنية المتطورة الى السيطرة التامة على الثروة النفطية ابتداء من البئر الى محطة البنزين ، وهذا كله يتطلب بناء انسان حر ومنتج وهو أمر لايمكن تحقيقه الا بكسر طوق التجزئة الحالية والعمل على ايجاد تكامل بين موارد هذه الأمة بدل الهدر الحالي الناتج عن ازدواجية المشروعات ، وسوء ادارة الموارد من قبل قيادات غير مسؤولة وضعت مصالحها الآنية على حساب مصالح الأمة المستقبلية . هناك من سيتساءل عن مصير العالم الأسلامي في هذه الرؤية وردنا هو ان نهضة الأمة الأسلامية مرهونة بنهضة العالم العربي لأن الأقليم العربي كان وسيظل هو القاطرة أو المحرك الأساسي للأمة الأسلامية وطالما ان العالم العربي لازال مجموعة من الأصفار على خارطة العالم فلن تكون هناك نهضة جادة للأمة الأسلامية على الرغم من اعتزازنا بالنجاحات التي تحققت في كل من تركيا وماليزيا واندونيسيا ، وهي نماذج قطرية لن تؤثر كثيرا بمفردها على نهضة الأمة ، اما اذا استجمع العالم العربي قواه وتكامل فان بقية الدول الأسلامية ستدور في فلكه وتضيف الى قوته . هذا يعني اننا نطالب بالتدرج في ترجمة الوحدة سواء كان ذلك في المحيط العربي ام في الدائرة الأسلامية الأوسع ، وان كنا نعتقد ان مسار التوحد في العالم العربي يجب أن يكون اعمق واسرع بحكم عوامل مساعدة كثيرة لايتسع المجال هنا للتفصيل فيها . وقد تكون بدايات التوحد في العالم العربي تعميق الجهود الوحدوية الأقليمية في الخليج والمغرب ووادي النيل ومنطقة الشام وتطوير منطقة التجارة الحرة العربية التي تم توقيع اتفاقها في أواخر التسعينات ولكنها تعثرت في التنفيذ في ظل أنظمة مستبدة منشغلة بمصالحها الآنية على حساب مصالح هذه المجتمعات بعيدة المدى . طبعا لايمكن ان تتحرك عجلة التكامل الجاد ولايمكن ان تساهم رؤوس الأموال العربية بصورة منتجة الا بوجود انظمة معبرة عن ارادة شعوبها وتوفر بيئة مؤسسية تحفظ حقوق الناس ، وهذا ما نراه يحدث في دول الربيع العربي حاليا وان كان بصورة بطيئة بسبب الثورات المضادة ، اما الدول الخليجية فلابد من أن يكون تركيز الأحرار فيها على تحويل انظمة الحكم الحالية الى ملكيات دستورية تجعل السيادة لشعوب المنطقة مع الحفاظ على مكانة الأسر الحاكمة الرمزية ، وعندئذ لن تكون هناك اشكالية في سيرها نحو التوحد على نطاق الخليج أو العالم العربي ، وفي اعتقادنا أن اي اصلاح سياسي لها دون ذلك لن يغير من واقع المنطقة في شيء ، بل انه قد يؤي الى مزيد من عدم الأستقرار والعنف في منطقة استراتيجية كهذه ، ولذلك فان عملية التحول المنشودة تتطلب عقلانية وبعد نظر من قبل كافة الأطراف ، واذا لم تقبل هذه الحكومات بهذا التحول التدريجي والسلمي فانها لن تترك لشعوب المنطقة الا المطالبة برحيلها كبقية الأنظمة العربية البائدة . 
هذا هو المسار الذي نعتقد ان العالم العربي في حاجة للسير فيه من اجل استنهاض الأمة ومقدراتها واعادتها الى مقدمة الأمم وليس مسار وممارسات الحكومات العربية التي تحاول اليوم اعادة عجلة التاريخ الى الوراء بالأنقلابات والأعتقالات والأستقواء بالأجنبي ، وهي كلها ممارسات ستعود بالخيبة والفشل على اصحابها وستنهض الأمة من جديد مهما طال الزمن وارتفع الثمن وليس ذلك على الله بعزيز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق