دروس من أرض الكنانة
أ.د. يوسف خليفة اليوسف
@Prof_Yousif
لايمكن لعاقل وقاريء للتاريخ أن ينكر أو يتجاهل الدور المحوري لمصر –أرض الكنانة– في المنطقة العربية وكذلك في بقية بقاع العالم الإسلامي.
فبعد حرب رمضان عام 1973م حرص كيسنغر (وزير خارجية أمريكا) على أن يخرج مصر من معادلة الحرب والسلام في المنطقة مستغلا تقاعس بعض الدول النفطية عن تلبية حاجات مصر التنموية ومستفيدا من صراعات أنظمة الاستبداد مع بعضها البعض في عالمنا العربي من المحيط إلى الخليج وعدم اكتراثها بما خلّفته هذه الصراعات من تخلف وتجزئة وتبعية وتهميش لشعوب المنطقة.
وبالفعل ما إن أُخرِجَت مصر من دائرة الحرب والسلم بين العرب وإسرائيل من خلال ما عرف باتفاقية كامب ديفيد حتى عاثت إسرائيل فسادا وتدميرا في العالم العربي، ف ـ مرةً تهاجم لبنان، ومرةً تغتال القيادات الفلسطينية في تونس، ومرةً تدمر المفاعل النووي العراقي في القصير، ومرةً تعمّق الخلافات بين الفلسطينيين أنفسهم، ومرة ًتتعاون مع أنظمة الاستبداد العربية لضرب غزة، والقائمة تطول.
وهكذا استمر العالم العربي في التمزق؛ لأن قيادة مصر للعالم العربي قد جُمِّدت.
من هنا فإن ثورة 25 يناير الشبابية كانت بمثابة الصاعقة التي نزلت على رؤوس القيادات الغربية وأعوانها في المنطقة، فكيف يمكن لهذا المارد العربي الذي تم تدجينه من خلال اتفاقات السلام والمساعدات واحتواء بعض قياداته الفاسدة أن ينتفض مرة واحدة ليغيّر موازين القوى بين الحاكم المصري وشعبه، ثم بين الشعوب العربية وحكامها؟
هذا أمر غير مسموح به في نظر القوى الاستعمارية، ولا شك لدينا في أن التصريحات المؤيدة للشعب المصري في بداية الثورة من قبل بعض الحكومات الغربية لم تكن أكثر من ذرّ الرماد في العيون لأن هذه التصريحات واكبتها جهود مضنية لمعرفة الكيفية التي يمكن بها توجيه مسار الأحداث في مصر بحيث لاتخرج عنالمسموح به في الغرب وعند حلفائه في المنطقة، أي أن لاتمس هذه التحولاتُ في مصر السلامَ الهش مع إسرئيل، وأن لاتسمح برفع الحصار عن حماس، وأن لاتسعى إلى توحيد الجبهة الفلسطينية، وأن لا تتمكن مصر من استعادة قرارها المستقل سياسيا واقتصاديا، وأخيرا أن لايتم كذلك تصدير الثورة المصرية إلى بقية دول المنطقة خاصة دول الخليج والجزيرة ذات المخزون النفطي الاستراتيجي، فالغرب لايرى في هذه المنطقة إلا النفط وربيبته إسرئيل.
إذن، كانت رغبة الدول الغربية في أن تفرز الانتخابات المصرية قيادات سياسية تحدث بعض الإصلاحات الشكلية مع إبقائها على القيود التي كبّلت بها مصر منذ سنوات، باختصار فإن المطلوب غربيا هو أن لا تأتي قيادات أصيلة ومستقلة في قرارها وملتحمة بالشعب المصري وتضع مصالحه وأمنه فوق مصالحها الشخصية وتسعى لإعادة مصر إلى مركز القيادة في العالم العربي أي استعادة مصر لدورها كقاطرة للتغيير في المنطقة العربية. ولكن الغرب فوجيء بمجيء التيار الإسلامي الذي طالما حاولت وسائله الإعلامية تشويه رسالته ورجالاته وتاريخه، فبدأ الغرب بعد ذلك في وضع الخطط لإحباط هذا التوجه مستفيدا من ضعاف النفوس والأتباع في المنطقة، ومن بعض القيادات التي غرسها هنا وهناك في المجتمع المصري عبر السنوات الماضية، وهذا يؤكد من غير أدنى شك أن الغرب يقدم مصالحه على مبادئه ولايكترث بحقوق الشعوب الأخرى إلا إذا أدرك بأن هذه الشعوب جادة في الحصول على حقوقها ولديها النفس الطويل والخطط الواضحة لتحقيق أهدافها، عندئذ فقط يبدأ الغرب في المساومات للتعامل مع الواقع الجديد.
وهناك شواهد كثيرة في تاريخ المنطقة وبقية العالم تؤكد أن الغرب على استعداد للتخلي عن كل حلفائه في المنطقة إذا شعر بأن كلفة الوقوف بجانب هؤلاء الحلفاء هي أكبر من المكاسب المتوقعة، وهذا ما حصل في حالة حسني مبارك وقبله بن علي وشاه ايران وماركوس في الفلبين وسوموزا في أمريكا اللاتينية وغيرهم من المستبدين والظلمة الذين باعوا أوطانهم وشعوبهم من أجل الكراسي والنفوذ.
غير أن التيارات الإصلاحية خاصة الإسلامية -التي أثبتت صناديق الاقتراع شعبيتها- يقع عليها بعض اللوم كذلك في ما آلت إليه الأمور في مصر، فهي قد استعجلت في اعتقادنا تحمّل جزء كبير من مسؤوليات الدولة في فترة انتقالية كان الأجدر أن يتقاسم فيها الجميع المسؤوليات ليس فقط لطمأنة جميع أطياف المعارضة والشعب المصري بأن الإسلاميين لاينوون احتكار السلطة، وإنما كذلك حتى تتمكن التيارات الإسلامية من توجيه طاقاتها إلى نشر ثقافة الحرية بدل ثقافة الاستبداد التي خلّفها النظام السابق، وبناء مؤسسات المجتمع المدني في كل أنحاء مصر حتى يصبح هذا المجتمع بكل صوره هو صمام الأمان أو الدرع الواقي الذي يمكنه أن يحول دون احتكار السلطة أو سوء استغلالها من أي فصيل مجتمعي أو أي انقضاض من قبل العسكر أو القوى الخارجية.
ونذكر هنا بأن الشيخ ابن باديسالجزائري أوجد فروعا لرابطة العلماء الجزائريين في كل مدن الجزائر تقريبا، والإمام البنا أنشأ أكثر من 40 جمعية وهيئة للاهتمام بالفقراء وتلبية حاجاتهم، ولم يكن تفكير ابن باديس والبنا عليهما رحمة الله تفكيرا حزبيا ضيقا وإنما كان سعيهما من أجل إحياء المجتمع المدني بكافة مؤسساته وتقليل الاعتماد على الدولة وما تفرضه من قيود على حرية البشر خاصة الدولة المستبدة.
هذا التعجل هو الذي وضع التيارات الإسلامية في موقف حرج حتى تجاه التيارات المعارضة الأخرى التي لازالت كغيرها من شرائح المجتمع مترددة في ما يتعلق بقدرة الإسلاميين، بل ومتشككة في مصداقيتهم بسبب الدعايات الرسمية وأحيانا بسبب بعض إخفاقات الإسلاميين التاريخية، مما دفع ببعض هذه الفئات المعارضة إلى التعاون مع فلول النظام السابق وحتى مع القوى الأجنبية من أجل إسقاط الشرعية عن طريق انقلاب عسكري كان يُدبَّر له منذ فترة طويلة.
هذا يعني أن عودة القرار في مصر إلى الشعب المصري ليست مسألة سهلة أو مرغوبة من قبل بعض مخلفات النظام السابق أو الحكومات الخليجية أوالدول الكبرى بسبب ما ستؤدي إليه من تغيير في كثير من معطيات الساحة العربية والدولية، وبالتالي فإن على أحرار مصر والعالم العربي أن لا يعولوا كثيرا على هذه القوى وإنما عليهم أن يدركوا أن الحسم في مصر سيكون بتغيير موازين القوى بين قوى الإصلاح والقوى المعارضة للتغيير في الداخل وبطرق سلمية قد تستغرق وقتا طويلا وستتخلها كثير من التضحيات والتراجعات في بعض الأحيان، ولكن هذا الكفاح السلمي سيكون الآلية التي ستؤدي إلى تطوير تدريجي لمؤسسات المجتمع المدني ووسيلة للتخلص من ثقافة الاستبداد واستبدالها بثقافة الحرية التي تعتبر شرطا لفعالية المجتمع المدني وتبني الناس لمفاهيم الحرية والدفاع عنها والقبول بنتائج صناديق الاقتراع وعدم ميلهم إلى الانجراف وراء الدعايات بأشكالها، وهذه العملية التعليمية ستُحيي في عقول وقلوب أبناء المجتمع المصري الرغبة في التواصل مع بقية الشعوب العربية.
من هنا فإن عملية التحول المنشودة في مصر وغيرها من الدول العربية تتطلب عملا سلميا يتصف بالمثابرة والصبر لأن المستقبل هو لصالح قوى التغيير وليس لصالح قوى الاستبداد والجمود، فالحق أبلج والباطل زاهق وسنة الله لاتحابي أحدا، ومن الضروي في الوقت نفسه أن لا تنجرف القوى الإصلاحية إلى العنف، لأن العنف ينتصر فيه عادة من لديه القوة المادية ويكون مستعدا للبطش، وحتى في حالة سقوط النظام المستبد بطريق العنف فإن التكلفة ستكون عالية جدا على المجتمع وتجعل نهضته تأخذ زمنا طويلا بعد ذلك، ونحن هنا نتحدث عن صراع داخلي ولانتحدث عن مواجهة خصم من الخارج لأن المواجهة الخارجية لها أحكام مختلفة وإن كان الصراع الدائر في الدول العربية حاليا له بعد خارجي واضح، ولكن الأدوات محلية.
يجدر التذكير بأن ما ذكرناه عن حالة مصر ينطبق على بقية دول المنطقة خاصة دول الجزيرة العربية التي لو كان فيها مجتمعا ناشطا ومؤثرا منذ زمن بعيد لما رأينا الاعتقالات العشوائية والمحاكمات الهزلية والأحكام الجائرة ولا رأينا أموال الخليج تستخدم أداة للفتنة في مصر، وهي أموال كان الأجدر بها أن تذهب إلى الحكومة المنتخبة لتتمكن من تحويل المجتمع المصري من حالة الثورة إلى حالة الدولة التي تسودها الحرية ويسودها الازدهار، وبذلك تعود مصر إلى دورها الرائد في المجتمع العربي على الصعيدين التنموي والأمني، ولكن في ظروف جديدة وآمال كبيرة بسبب الربيع العربي.
أقرأ ايضا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق