الثلاثاء، 13 يونيو 2017

قصيدة "الوداع الأخير"



قصيدة "الوداع الأخير" لريسال تسيل رقّة وعذوبة وأسى، وتنضح بصدق العاطفة، وتسمو بالحب الإنسانى إلى درجات عالية من الفداء والتضحية.. وتتدفق فيها مشاعر اللوعة للفراق .. تتجمّد الدموع فى عينى صاحبها وهو على شفا الموقف الرهيب.. ولكن تنهمر الدموع فى عيون قّرّائه ومشاهديه.. لا على مصير فدائى جسور يواجه نهايته فحسب.. ولكن أيضا على وطن مكلوم لا يزال يرزح تحت القهر والطغيان الأجنبى.. استمع إلى الشهيد وهو يغنّى مودِّعا وطنه.. فى قصيدة طويلة.. نجتزئ منها بهذه الأبيات:


قصيدة "الوداع الأخير" 



    وداعًـا وداعًـا يا بــلادًا يحبهــا   
فــؤادي وتهواهـــا بعليائهــــا الشمسُ

لأنْتِ ببحر الشرق أكـــرم دُرَّةٍ   
وأنــت لنــا فـي ذلك الكــون فردوسُ

حياتـــي مضنّاةٌ  فإمـا وهبتُهـا    
فداءَكِ لـم تأسـف علــى ذلــك النفسُ

           ولـو أنهـا كانـت صِبًـا لوهبتـُه              
ألَا كُلُّ بــذْلٍ فــي سبيل الحِمَــى بخسُ



فيـــا وطنــى إن أعـوزَ اللّـــونُ فليكـــن     
دمــى صبغةً للفجرِ إنْ لاحَ فأْتلقْ

يزيــد دمــى المســــفوكُ بهجـــةَ لونـِـــه   
وقُرْمُـزِه حتى يـروقَ لـدى الحـدقْ

أمُوتُ لتَحْيَى إنّ مَوْتِــــــى  مُحَبَّـــــبٌ   
بتـلك الذُّرا الشَّــمَّاء مـا بـين أَقْوامِــى

فيغمــضُ جــفْنى الموتُ في خــير تـربةٍ 
وأرقـــد مرتــاحًا وتخفـــق أعــلامــى



ثم يخاطب بلاده فيقول:

إذا نَجَمَتْ فــي تـُـرْبِ قـــبْريَ  زهرةٌ     
بَدَتْ وحدها في الفَدْفَدِ المُوحِــشِ القفرِ

فلا تبخــــلي أن تُــؤنســـيها بـِـزَوْرَةٍ     
 ألا إنــها رُوحــى تــرفرف كــالزهــرِ

ولا تبـــخلي يـــومًا عــليــها بــلثمة        
بــثغرك حيـث الدفء فــي ذلك الثغرِ

أحـِـسُّ هــواء القــبر حــوْلـــيَ باردًا    
ألا فابــعثي الدفءَ المحـبَّب فـي قبرى



وفي مَضْجَعِى السَّاجِى البعيدِ دَعِى السَّنا   
من القمر السَّارِى يشعُّ لمضْجعي

دَعِى الريح تُزْجِى همْسها فوق تُرْبَتِى      
دَعِى الفجر يحْبُوني بأَنْوَارِهِ دَعِى

وإنْ مـــرَّ يومًــا فــوق قبْرِيَ طائرٌ         
يرجِّـعُ لَحْنًــا مُبْدِعًــا أيَّ مُبْــدع

دعيـهِ  علـى هـامِ الضَّريـحِ مُغَـرِّدًا         
وقُولى لـه : بالسّـلم غَّنِّ ورَّجِّعِ



ألا فدعــي مـن أهـل وُدّيَ قائمـا             
علـى القبـر يبكي أَعْظُمِي المتبعثـرة

ويـا بلــدي صلِّـى لربـِّى فإننــى             
لأرجــو قبـولا فـي حِمـاهُ ومغفـرة

لأِمٍّ غدت تذري الدموع وما شَفَتْ         
 بأضلاعهـا نارًا من الشَّجَـنِ العــاتـى

لأجل اليتامَى والأيامَى ومَنْ غَــدَا          
أسيرًا شديدَ الكَرْبِ رَهْــنَ المُلِمَّـاتِ

ألَا يـا بــلادِى فانْهَضِىي وتضَرَّعِى         
ليومِ خــلاصٍ فــى غَــدِ صُبْحُــــُه آتِ



إذا ما ظـلامُ  الليـلِ غشَّــى المقابـَرا       
فمـا بـَـِرحَ الموتــى هنــاك سوَاهِــرَا

على السّلْمِ  والأسرارِ تسهرُ روحُهم  
دعُوهـم ومـا صانـوا وغضّـوا النَّواظِــرَ

فإن تسمعـوا صوتًـا هنالـك شادِيًـا       
 فذلـك صوتـي يُرسـل اللحــن زافــرا

أجـلْ.. ذاك لحنـي يـا بلادي رفعتُـــه        
أليــكِ فحيُّــوا فـي المقـابـر شـاعــرا



فــإن طالـت الأيـامُ بـي وتحوّلـت       
معــالـمُ قبــري كالطُّلــول بَوَاليـــا

وأقْـــوَى ، فــلا رمـزٌ هنالك شاهدٌ     
علــيّ وأمســَى ذاكــرُ القــومِ ناسيـا

إذن فدعــى المحراث يفـري أديمه      
فيحيـى مَـواتُ الأرضِ أخضـرَ زاهيـا

وهـذا رفاتـي يـا بـلادي فرشتــه        
مواطِـئَ مـن عُشْـبٍ فمـا عـادَ ذاوِيـا



إذا أصبـح النسيـان للميـْتِ هيِّنًـا    
 سألقـاكِ فـي موتِى  هُنــالِكَ أو هُنَــا

سألقـاكِ لونًـا زاهيا أو شذًى  مٌتَضَوِّعَـا     
وطــوْرًا غنــاءً  مُبْدِعَــــا مُتَفًنِّنَــــا

فمــا زال قلْبى يـا بـلاديَ هائمًـا    
بحبـِّك فيّـــاضَ المشــاعرِ مؤمنَـــا



ألا فاسْمعـي هـذا النشــــيدَ نظمْتُهُ             
وِداعًـا أخيـرا فهْـوَ آخِـــرُ أنْغـامى

سأتــرك مـا أهواه فيـك وديعــــــةً           
 لديـك فـلا تنْسَيْ ودائـعَ أحلامــى

وأَمْضِـــى إلـى لا ظُلْـمَ ثمَّـةَ نــازلٌ            
بعبـْدٍ ولا طغيـانَ مـن بطْـشِ ظـلّامِ

إلـى حيـثُ لا رأىٌ يُصــابُ صِحابٌه          
بسـوءٍ وحيـثُ الله فـي حُكْمِهِ السامـى


فمن هو "هوسى ريسال" Jose Rizal..؟:
​​

إنهم يطلقون عليه اسم "أبُ الفلبين" وأعظم الشهداء من أبطال النضال الوطنى.. كان سلاحه الأكبر هو فكره الذى عبّر عنه بقلمه ولسانه ضد الاحتلال الإسبانى.. 
هذا الاحتلال الذى جسم على صدر الشعب الفلبينى ثلاثمائة عام أو تزيد.. وبسبب هذا الفكر وحده قُدّم ريسال لمحكمة عسكرية حكمت عليه بالإعدام رميا بالرصاص، ونُفّذ الحكم فى صباح يوم ٣٠ ديسمبر سنة ١٨٦٩، بينما كان يردد أبياتا من قصيدته الشعرية يودّع فيها شعبه ووطنه..

مات "هوسى ريسال" عن عمر يناهز الخامسة والثلاثين سنة.. عمر قصير، ولكن ما صنعه "ريسال" فى حياته القصيرة هو شىء أقرب إلى الخيال الأسطورى.. يصعب تصديقه لولا أنه مسجل وموثّق وثابت فيما ترك من كتابات وأعمال ..

نشأ ريسال فى أسرة غنية كانت تملك أراضى زراعية شاسعة.. فكان هو السابع فى الترتيب بين إخوته الأحد عشر، ولكنه كان منذ طفولته ظاهرة متميزة بين كل أقرانه؛ أدخله أبوه مدرسة كاثوليكية .. ولكن لم تستطع المدرسة أن تتحمل جسارة هذا الطفل المعجزة.. أربكتها أسئلته الجريئة وتفكيره الناضج، فوسمته بالراديكالية، وطلبت من أبيه أن يبحث له عن مدرسة أخرى خوفا على بقية التلاميذ.. فألحقه أبوه بالتعليم العام حتى وصل إلى الجامعة ليدرس الآداب أولا، ثم القانون.. ولكنه غيّر مسيرته التعليمية فاتّجه - فى نفس الوقت - ليدرس الطب بجامعة سانتو توماس بمانيلا.. ذلك لأن أمه كانت تعانى من مرض فى عينيها يهددها بالعمى.. فقرر أن يدرس الطب ويتخصص فى أمراض العيون فكان له ما أراد..

ولكنه لم يتوقف عند هذا الحد فقد كان طموحه أعظم، ومن ثَـمّ رحل إلى إسبانيا بمفرده (وكان عمره آنذاك ٢١سنة فقط) لاستكمال دراساته العليا فى الجامعة المركزية بمدريد، ثم انتقل إلى فرنسا ليحصل على درجة الدكتوراة من جامعة باريس، ثم ليحصل على درجة ثانية للدكتوراة من جامعة هايدلبرج فى ألمانيا، وفى أثناء ذلك لم ينقطع عن الكتابة والمحاضرة فى إسبانيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا، داعيا إلى مساعدة الشعب الفلبّينى فى نضاله للتحرر من نير الاستعمار الإسبانى ، ولم يكن يحتاج فى تواصله مع هذه الشعوب إلى مترجم فقد كان ريسال أعجوبة فى اكتساب اللغات الأجنبية.. كان يجيد ٢٢ لغة كتابةً و قراءةً وحديثًا..

لم يكن ريسال فى ثورته على الاستعمار الأجنبى مُحَبِّذًا للعنف.. بل كان من أكبر دُعاة الإصلاح، وقد بدأ بدعوة الإسبان لمنح الفلبين حكما ذاتيا، ولكنه لم يستبعد العنف كملجأ أخير إذا فشلت الحركة السلمية فى تحقيق الاستقلال.. 
وقد عبّر عن هذه الأفكار فى اثنين من أمتع و أشهر رواياته هما: "نولى مى تَنْجِيرى" و "ألـ فلبوستيرزمو" .. وهما عملان أدبيان كتبهما ريسال باللغة الإسبانية.. حَفِلا بتحليلات ونقد عميقين للآثار المدمرة للاحتلال الإسبانى على المجتمع الفلبينى.. 
ولتدعيم أفكاره التحررية أنشأ ريسال منظمتين: سياسية واجتماعية، أعتبرهما المؤرخون المصدر الأول والأصيل لحركة الإصلاح وحركة الثورة المسلحة فى نفس الوقت، ففيهما وُلدت وترعرعت القيادات الإصلاحية والثورية على السواء، وكان من أبرز روّدها "أنْدِرٍى بونافاشْيو" أول زعيم انتفاضة مسلحة ضد الاستعمار فى تاريخ آسيا ..

عاش ريسال نائيا بنفسه عن الكنيسة فلم يكن يؤمن بعقائدها ولا بفكرتها الهزيلة عن الألوهية؛ فقد كان يؤمن بإله واحد خالق عظيم القدرة بالغ الرحمة محيط بكل شىء.. وأكثر ما كرهه فى الكنيسة أنها كانت تبرر للمحتل الغاصب قتل الأبرياء الرافضين لجبروته..! كان ريسال كاتبا آسِرًا وصحفيا لامعا ومتحدّثا لبقًا وفنانا يجيد الرسم. 
أما شعر ريسال فهو أعجوبة ثانية فى حياة هذا الطبيب الأديب المصلح الثائر الذى أحب وطنه وشعبه.. حبًّا سطّره ريسال بنبضات قلبه فى "الوداع الأخير" لا يطلب فيه لنفسه سوى أن تصلّى بلاده من أجله وتدعو الله له بالرحمة والغفران.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق