"غوانتنامو قصتي".. لقاءٌ عابرٌ
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات
عاد الطائر من دورتيه الواسعتين في الهواء، حلق هنيهةً، ثم عاد وحط على إفريز النافذة، غنى؛ وعلى نحو ما بدا ثمة جرح يغور في حلقه الظامئ الصغير، لكن الليل الذي تقدم دفع رطوبة الخليج لتنثال على منقاره ثملما دفه الجو للاعتدال فملأت صدري بالهواء وكتبت: كان الجو في قندهار أفضل نسبياً منه في باغرام، ففي النهار تكون الشمس ساطعة.
وبعد العناق الحار بدأ الإخوة المعتقلون يساعدونني في علاج ركبتي والتورم الذي حدث لرجلي بسبب البرد والقيد، وساعدوني على الحركة في الخيمة. بعد ذلك بدأنا بالتعارف، وشرْح طبيعة المكان الذي نحن فيه، وتوزيع الخيام التي توجد حولنا، وأخبروني بما يعرفونه عن المعتقل والموجودين فيه. شرحوا لي طبيعة نظام المعتقل، فعرفت أننا في سجن قرب مطار قندهار، وكنا نسمع إقلاع الطائرات وهبوطها بوضوح.
كان المعتقلون موزعين على خيام، كل ثلاث منها تنتظم في خط مستقيم، وبعض هذه الخيام كان لا يزال فارغاً حتى لحظة دخولي. هنا في هذا المكان يُسمح بالحركة لثلاثة أشخاص فقط، ولهم أن يتحدثوا، على أن يجلس الباقون الموجودون معي في الخيمة من دون حركة.
نصطفُّ أمام جنديّ مُحاطٍ بزملائه، ثم ينادي على رقم كل واحد على حدة، فيردُّ بذكر رقمه ويدير ظهره ليقرأ منه الجندي الآمر الرقم، ثم ينصرف المنادَى إلى خيمته
|
وفي الخيمة أؤلئك الأشخاص الذين حضروا معي من باغرام. تعرفت إلى السعوديين اللذين التقيتُ بهما في السجن العسكري بباكستان، كما تعرفت إلى الأشخاص الذين حضروا معي من شمن في الحافلة يوم ترحيلي إلى كويتا. أما البقية فعرَّفوا بأنفسهم. ومن حينٍ لآخر، كانوا يأتون بأشخاص جدد للانضمام إلينا في خيمتنا، وكان علينا متى فتحوا الباب أن نذهب إلى آخر زاوية في الخيمة وننتظم في صف واحد جاثين على ركبنا وأيدينا مشبكة فوق رؤوسنا.
كانت تحركاتنا داخل الخيمة مرصودة من جندي ينظر إلينا من خارج الشبك المضاعف المفروض على الخيمة، كما كان هناك جنود على أبراج يراقبون كل حركة داخل المخيم.
حضر جنود ونادوا على رقمي، وطلبوا من باقي المعتقلين الانتقال إلى جهة أخرى من الخيمة، قبل أن ينقلوني إلى خيمة أخرى التقيتُ فيها ببحريني يسمى المرباطي، سلَّم عليَّ وقال إنه في هذه الخيمة منذ ثلاثة أيام، وشرح لي القوانين التي شرحها لي المعتقلون في الخيمة السابقة، ومنها أنه يمنع التستر وقت قضاء الحاجة، وأن لي بطانيتين ووجبتين يومياً إحداهما في منتصف النهار والأخرى في منتصف الليل.
بعيد حضوري، دخل معتقلان أفغانيان. في تلك الليلة، وعند منتصف الليل قدموا لنا إحدى الوجبتين، وكانت الوجبة الثانية عند منتصف الظهيرة في اليوم الذي يليه. قبل توزيع الطعام يُنادي الحراس على الأرقام للتأكد من حضور الجميع. ونصطفُّ أمام جنديّ مُحاطٍ بزملائه، ثم ينادي على رقم كل واحد على حدة، فيردُّ بذكر رقمه ويدير ظهره ليقرأ منه الجندي الآمر الرقم، ثم ينصرف المنادَى إلى خيمته.
وبعد إتمام تلك الإجراءات المشددة يوزع الطعام على المعتقلين بأن يوضع أمام كل خيمة وجبات بعدد الموجودين فيها. وخلال ربع ساعة بالضبط يجب أن تكون قد أكملت تناول الوجبة التي بين يديك؛ إذ سرعان ما يقوم الجنود بجمع الصحون أو سحبها عنوة ممن لم يكمل تناول طعامه في الوقت المحدد، كما يقضي النظام الصارم هناك بعدم السماح للمعتقلين بالاحتفاظ بالطعام.
قال لي: كأن الله أراد أن يثنيك عما نصحتك به، فهؤلاء الرعاع لا ينفع معهم عقل ولا منطق، ويبدو أنني كنت مخطئاً فعلاً في محاولة كسب عقولهم |
كانت تلك ليلة ممطرة شديدة البرودة، وكنا نشعر بالجوع والبحث الفطري عن الدفء، دفء المنزل والأغطية، ولكن أين نحن من تلك الأحلام التي يبددها ذلك السياج وذلك النباح المتقطع وحركة الجنود والحراسة المشددة؟ كنت جائعاً ظمآنَ مرهقاً أرتجف من البرد وأمعائي تتضور جوعاً، دفعني ذلك لانتقاء بعض ما حوته الوجبة وأكله بسرعة، وشجعني الشاب البحريني المرباطي على الأكل، فتجاذبت معه أطراف الحديث. حكى لي كيف أنه قدم من باكستان التي تعرض فيها لحادث، وكان في سياحة دعوية مع جماعة التبليغ. ومع انطلاق الحرب على أفغانستان، اعتقلته السلطات الباكستانية وسلمته غدراً إلى القوات الأمريكية، وكان يتحدث الإنجليزية بطلاقة. سألني عن قصتي، وحدثته عن عملي وظروف اعتقالي، ثم أخذ ينصحني بكيفية التعامل مع الأمريكيين، فهو قد سافر من قبلُ إلى أمريكا وتعامل مع الأمريكيين الموجودين في البحرين على حد قوله.
نصحني بمحاولة كسب عقول الأمريكيين، وبـيّـن لي كيف أغضب ومتى أبتسم ومتى أتسامح وهكذا. وبينما نحن نتجاذب أطراف الحديث نادى عليه أحد الجنود: لماذا لم تنظفوا هذه الخيمة؟ ثم أمره بأن يجلس على ركبتيه وأن يرفع يديه فوق رأسه. ولحسن حظه أن الجندي لم يزد مدة العقوبة تلك على ساعة.
يَحدُث أن يأمرك أحدهم بذلك فتبقى ساعات، وقد تتغير الوردية فلا يبالون ولا يُنهي مدة العقاب إلا من أمر به!
بعد أن نال المرباطي عقابه، قال لي: كأن الله أراد أن يثنيك عما نصحتك به، فهؤلاء الرعاع لا ينفع معهم عقل ولا منطق، ويبدو أنني كنت مخطئاً فعلاً في محاولة كسب عقولهم. قضيت معه تلك الليلة، وفي منتصف الليلة الثانية تقريباً حضر الجنود ونادوا على رقمي، وأخذوني إلى خيمة أخرى وجدت فيها تسعة معتقلين من العرب وثلاثة باكستانيين.
تعرفت إلى العرب، أحدهم يَمنـيّ والباقون سعوديون، وكان من بينهم ماجد الفريح من مكة الذي قدم معي من شمن ولكن سرعان ما افترقنا. كان ماجد الفريح شاباً صغيراً لا يتجاوز الثامنة عشرة، سألته عن قصته، فقال: إنه قدم إلى باكستان هو الآخر مع جماعة الدعوة والتبليغ، وكانوا يتنقلون بين القرى كعادتهم، فاعتقلته الشرطة الباكستانية ومن معه بعيد اندلاع الحرب وسلمته للأمريكيين بعد أن صادرت أمواله وأوراقه. وقد سأل الأمريكيين عن جوازه، فقالوا له إن الباكستانيين لم يسلموهم أي وثيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق