"غوانتنامو قصتي".. الابتلاء
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات
كان في الخيمة المجاورة لنا مغاربة وتونسيون. كانت هناك جنسيات متعددة ولغات وسحنات مختلفة جمعها الابتلاء، ووحَّدها القهر والظلم، ويجمع بينها الإسلام كذلك. والمؤسف أن بعض الباكستانيين ممن سال لعابهم للمال وباعوا ضمائرهم لقوى البطش والبغي، سلّموا هؤلاء بعد أن أخذوا حفنة دراهم جراء تلك الخيانة.
في قندهار يُعطَى السجين وجبةً ثالثة هي عبارة عن رغيف خبز عند السادسة مساءً يُسلم بعد المراسيم المهينة التي أسلفت. وكانت رجلاي منتفختين وركبتاي تؤلمانني ألماً شديداً، وكنت لا أستطيع القيام إلا بصعوبة. وكان الجنود الذين انعدم فيهم الحس ومات لديهم الضمير ينادون على أرقامنا، ومن لا يجيبهم يشبعونه ضرباً وركلاً! فكنت أتحاشى ذلك ما استطعت، وكانوا يقومون بحملات تفتيش مفاجئة بين الفينة والأخرى خصوصاً في منتصف الليل.
في أيامنا الأولى حَضَرَتْ لزيارتنا بعثةٌ من الصليب الأحمر، وكان أحدهم يتحدث الفرنسية فطلب أن يتحدث معه أحدنا بالفرنسية حتى لا يتابع الجندي الأمريكي حديثه وتوجيهاته ونصائحه.
كان من بيننا جزائري قضى كل حياته في فرنسا ولكنه لا يعرف من العربية شيئاً، ضيع علينا الفرصة وتحدث المتحدث الآخر بالإنجليزية. شرحنا له وضع معتقل قندهار وحقوقنا التي يحرموننا منها. وبين لنا من جهته أنهم سيأخذون عناويننا ويسلموننا أوراقاً لكتابة رسائل إن شئنا، كما أوضح لنا أنه لا يوجد حتى الآن نظام للمعتقلين، وأن الوضع القائم هو جمعهم وتكديسهم في هذه المعتقلات، وأن الصليب الأحمر يريد أن يسمع منا ويعرف أحوالنا.
تحمست للحديث معه وأخبرته بما عانيناه من ظلم وضرب وتنكيل وذل وتجويع، وطلبت منه أوراقاً لكتابة رسالتين إحداهما لزوجتي والأخرى لقناة الجزيرة. وفضلاً عن ذلك شجعت السعوديين الذين كانوا معي للحديث عن وضعيتهم للصليب الأحمر، خصوصاً ما وقع من انتهاكات كمنعنا من الاغتسال والوضوء، مع أنهم كانوا يسمحون لنا بالصلاة.
بعد فترة من التعذيب والتحقيق تبين لهم أنه بريء، فأخرجوه هو وعائلته بعد ثلاثة أشهر من العذاب، غير أنه تعلم خلالها الفاتحة وبعض قصار السور، وصار يعرف كيف تُؤدَّى الصلاة ونحو ذلك |
ذكرت له التفتيش العشوائي منتصف الليل والوضع المهين للمعتقل عندما يبدؤون تفتيشه أو عقابه، وذلك بإلزامه بالجلوس جاثياً ووضع يديه على رأسه وما يصاحب ذلك من سب وشتم وضرب بالأيدي وأعقاب البنادق. وفوق كل ذلك كانوا يركلون المصاحف التي كان الصليب الأحمر قد أحضر منها خمس نسخ باكستانية لكل خيمة، فكانوا يفتشونها بشكل مهين ويرمونها ويمزقون البطانيات والأغطية، فضلاً عن الضرب الدائم بلا سبب.
كانوا يتعمدون ضرب ضعاف البنى ذوي الأجسام الضاوية النحيفة من صغار السن والمتقدمين في العمر إمعاناً في الإذلال والإهانة، فيمزقون ثيابنا وإن طلبنا منهم ثياباً بديلة رفضوا ذلك. كان أسوأ ما في قندهار هو النداء على الأرقام والصفوف التي تلي ذلك في فترات مختلفة من ليل الشتاء القارس، وما يتبعها من عنجهية وصلف، على من؟ على معتقلين عُزَّل مقهورين!
جاء الصيف بحرِّه الشديد الذي ما كان يقل فظاعةً عن زمهرير الشتاء، واستمرت فيه مسلسلات الانتهاكات والتمادي في إذلالنا وترهيبنا وتعذيبنا، إذ كانوا ينادون على الأرقام عند منتصف النهار إمعاناً في التعذيب والترهيب!
بعثت بعدة رسائل في تلك الفترة من قندهار إلى قناة الجزيرة وإلى زوجتي، ولكنني لم أتسلم أي رد، وكان جواب بعثة الصليب كلما سألناهم عن الردود: أنهم لم يتسلموا أيَّ رد!! ولكن ذلك لم يقلل من عزيمتي وكنت قد بعثت بأربع رسائل استوفيت فيها كل المعلومات المطلوبة.
على مدى أربعة أشهر لم يُسمح لنا بالاغتسال لا تطهراً ولا تنظفاً. كانوا يزودوننا بقوارير ماء للشرب فقط، فران علينا الوسخ وانتشر القمل في ملابسنا وشعورنا وأجسادنا، ولن أنسى المعاناة والأمراض والضعف، ثم الذل والهوان اللذين كانا يلازماننا طوال اليوم.
ولقلة الحركة، ضعفت أجسامنا وانتشر بيننا الإغماء، فكانوا يأخذون من يُغمى عليه إلى خيمة يسمونها العيادة، ويتعاملون معه بغلظة فيعطونه فيتامينات ومقويات، وأحياننا تعطى له الحقنة خارج الوريد فيتألم ولا يبالون بمعاناته! فانتشرت بيننا أمراض فقر الدم وسوء التغذية بالطبع.
وإنْ أنسَ لا أنسَ الجنود وهم يمزقون المصاحف ويرمونها ويركلونها في أوقات التفتيش، ولن أنسى اعتداءاتهم على صغار السن الضاوين المرهقين. أذكر ذلك المسن الأفغاني، كان جسمه ممتلئاً وكانت الملابس على غير قياسه، كانت تتمزق وكان يربطها بخيط على خصره، قالوا: إنه يريد بذلك الخيط قتالهم فخنقوه به حتى بقيت آثاره في رقبته وأغمي عليه.
كنت أتحدث مع هذا الشيخ الباكستاني عبر مترجم، وأفهمني أنه من بدوٍ يقيمون على الحدود مع باكستان وأن الأمريكيين هجموا عليهم واعتقلوهم، وأن ابنه وبعض إخوانه وأقاربه في خيمة أخرى بتهمة تهريب العرب من أفغانستان إلى باكستان، والرجل يقسم أنه لا يعرف عرباً ولا غيرهم، وأنه أميٌّ لا يفقه ما يتحدث به الناس. كان لا يعرف كيفية الصلاة، فكنا نعلمه كيف يؤديها بصورة صحيحة. وكان لا يقيم الشعائر ولا يعرف شيئاً عن الدين، ولم يشفع له كل ذلك!
وبعد فترة من التعذيب والتحقيق تبين لهم أنه بريء، فأخرجوه هو وعائلته بعد ثلاثة أشهر من العذاب، غير أنه تعلم خلالها الفاتحة وبعض قصار السور، وصار يعرف كيف تُؤدَّى الصلاة ونحو ذلك.
اكتملت المأساة حينما أخبرنا موظفو الصليب الأحمر أن أولئك البُرآء عادوا فوجدوا قريتهم قد أضحت أثراً بعد عين، إذ هجمت عليها الطائرات الأمريكية وتركتها قاعاً صفصفاً، تهدمت مبانيها على رؤوس النساء والولدان والعجزة ممن لا حول لهم ولا قوة.
كان التفتيش المفاجئ يتكرّر كثيرا، وكانوا يقومون باقتحامات تدريبية يتصورون من خلالها أن تمرداً وقع داخل السجن وعليهم إخماده، فتقتحم سيارات الهمر والمدرعات الصغيرة الأخرى المعسكر، ويدخل الجنود مدججين بالسلاح على أنغام الموسيقى العالية وهم يلبسون واقيات ويقتحمون إحدى الخيام، ويحيطون بالخيام الأخرى. كانوا يركزون في هذا التدريب على الخيمة التي يوجد فيها مرضى أو جرحى! كان من ضمن سلسلة الحروب النفسية ضد السجناء العزل في قندهار رفع الصليب عالياً فوق الأبراج، واستفزاز السجناء بجنديات مائعات يتلفظن بألفاظ فاحشة، ويتندرن بكلام بذيء إمعاناً في الإهانة والتعذيب النفسي.
التحقيقات في قندهار كانت أكثر دقة من باغرام، إذ كانت طويلة ومتشعبة، وكانت تستمر ساعات طويلة تتكرر فيها الأسئلة وتتعدد صيغها. وأذكر أنهم حققوا معي بعد حضوري ثم استدعوني مرة ثانية بعد أسبوعين، سألني المحقق في الجلستين عن حياتي كلها.
يأتي الجنود لأخذ المعتقل للتحقيق معه، فيأمرون جميع من في الخيمة ـ قبل دخولها ـ بالاصطفاف على جانب منها، جاثين على ركبهم وأيديهم فوق رؤوسهم، تحت مراقبة أحد الجنود، ثم ينادون على رقم المعتقل، فيتجه إلى الجانب الآخر من الخيمة وينبطح على الأرض وجهه إليها ويداه وراء ظهره، على بعد ثلاثة أمتار تقريباً من باب الخيمة الذي يفتحه جندي ويدلف منه اثنان بسرعة، يقفز أحدهما على ظهر ذلك المعتقل ويثبت إحدى ركبتيه على ظهر المعتقل ويقيد يديه من الخلف، في حين يقوم الجندي الآخر بتقييد رجلي المعتقل بقيد من حديد، ثم يضعان على رأسه غطاءً أسود معتماً، ويوقفانه مُطأطِئ الرأس كأنه يتهيأ للركوع. بعدها يقوم كل من الجنديين بإدخال يده في يد المعتقل التي تليه ويمسك أحدهما برقبته ويضغط عليها، قبل أن يقتاداه خارج الخيمة، ليُغلَقَ الباب من جديد. ويتجهان به هرولةً إلى خيمة مُعدّة للتحقيق، مروراً ببعض الخيام التي يوجد فيها معتقلون، أو تلك التي تستخدم لأغراض أخرى كالطبخ ونحوه. وإمعاناً في التعذيب يمرون بالمعتقل على قيعان الماء والحفر والحجارة حتى يتأذى أكثر، وحين يدخل الخيمة التي يكون سقف بابها منخفضاً كالعادة، ومن دون أن يُنبه المعتقل لذلك، يرتطم رأسه بالحائط أعلى الباب، وقد تم تدبير الأمر عن عمد.
كان أخذي في مثل ذلك الوقت حافياً أتعثر في المياه الباردة في ذلك الجو القارس الكئيب يزيد من معاناتي وألمي، وكنت عندما أرجع إلى الخيمة أرتجف من البرد وأعاني آلاماً مبرحة فلا يغمض لي جفن طوال الليل |
فور دخولك الخيمة تبطح على الأرض ويبقى الكيس على رأسك وبجوارك أحد الجنود، ثم يتقدم المحقق ومعه مترجم، فيجلسونك ويكون المترجم والمحقق على بعد مترين وأقربهما إليك جلوساً المترجم. يرفع أحد الجنود غطاء الرأس عنك ويبدأ سيل الأسئلة التي تتناول جميع تفاصيل حياتك وبطريقة مُمـلّة. حقق هؤلاء معي أربع مرات أو خمساً.
لا توقيت لتلك التحقيقات، فقد تكون في منتصف النهار وقد تكون في الصباح الباكر، وبعضها في منتصف الليل وهو أكثر الأوقات إزعاجاً وإرهاقاً. يدخلون متى شاؤوا فينادون على صاحب الرقم، فيصطف المعتقلون المساكين على الطريقة السالفة الذكر، ويتم اقتياد المعتقل بالطريقة البشعة والمهينة التي ذكرتها من قبل.
المعسكر عبارة عن حوش كبير تسلط عليه أضواء قوية على كل خيمة بدءاً من صلاة العصر، وعادة ما يكون الجو في غاية البرودة. كنت حافي القدمين لأن الحذاء الذي أعطوه لي كان أصغر من مقاس رجلي المنتفخة بسبب أمراض الرطوبة التي استفحلت بسبب البرد. فكان أخذي في مثل ذلك الوقت حافياً أتعثر في المياه الباردة في ذلك الجو القارس الكئيب يزيد من معاناتي وألمي، وكنت عندما أرجع إلى الخيمة أرتجف من البرد وأعاني آلاماً مبرحة فلا يغمض لي جفن طوال الليل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق