أمتي والوظيفة الحضارية
الدكتورحامد عبد الله ربيع
كلما ازددت توغلاً في فهم حقيقة التراث الإنساني ووظيفة الحضارات التاريخية الكبرى، ازدادت قناعتي بأن هذا الانتماء العربي هو وحده المدعو لأن يؤدي الوظيفة الكبرى في متاهات القرن الواحد والعشرين، نحن نعلم أن ماضي أمتنا قد أصابته الجروح، وأن تاريخنا قد لقي الإهمال وأصابه التشويه، وقد آن لأبناء تلك الأمة أن ينظفوا ذلك التاريخ، وأن يخرجوه نقيا ناصعًا يهدي ويقود إلى الأمام.
أمتي أمة القيم.
وهي لذلك قد وضع على عاتقها وظيفة تاريخية، عليها أن تؤديها في نطاق الصراع الذي تعيشه الأسرة الدولية المعاصرة، لإنقاذ الإنسانية المعذبة من تَمَزُّقاتِها الضَّيِّقة التي فرضتها الأحداث على مجتمعنا، الذي نعيشه في الربع الأخير من القرن العشرين، علينا أن نبدأ فنزيل مجموعةً من المفاهيم الخاطئة التي لم يعد هناك موضع لتقبلها، والتي آن الأوان لكي نوضح حقيقة ما تحتويه من تشويه للخبرة التاريخية.
أُولى هذه الحقائق التي يتعيَّن علينا أن نعترف بها، هي أن كل من أرخ للتراث الإنساني لم يكن إلا غربيًا، أو انطلق من المفاهيم الغربية، والمفاهيم السائدة في تحليل تاريخنا نبعت من النظرية الأوروبية، حيث سادتها في خلفياتها الحقيقية فكرة ثابتة تدور حول جعل تاريخ وكتابة التاريخ أداة من أدوات الدعاية السياسية، فإذا أضفنا إلى ذلك تلك النعرة القومية الغربية لكان علينا أن نفهم لماذا يجب أن نعيد النظر في كتابة التاريخ السياسي، حيث لم يكتب بعد تاريخ الإنسانية بقلم عربي، ليس فقط من حيث اللغة، بل ومن حيث الفلسفة وتفسير الأحداث، وهكذا ترسبت في مفاهيمنا أخطاء عديدة، البعض منها بحسن نية، ولكن الكثير منها لا يمكن تبريره إلا من منطلق لا ينبع من الاعتبارات العلمية، وهكذا أضحت الإنسانية المتقدمة هي فقط تلك الناعبة من التقاليد الأوروبية، والتقدُّم السياسي هو أسلوب الحياة الديمقراطية في نموذجه الغربي القائم على فكرة التصويت، وطقوس الإعلان عن الرأي بحيث لا يتجزَّأ أي منها عن الأخرى.
هذه المفاهيم الخاطئة آن الأوان أن نزيلها ونستبعدها من الإطار الفكري للتعامل مع الوجود الإنساني، إن التقدم السياسي مستقل استقلالاً كليًّا وشاملاً من حيثُ علاقتُه بالتقدم الاقتصادي، ألم يكن المجتمع اليوناني أكثر أنواع النماذج السياسية تعبيرًا عن الديمقراطية التقليدية، ومع ذلك هل نستطيع أن نُقارِنَ ذلك المجتمع اقتصاديًّا بِما يُمَثِّلُه المجتمع الروماني في النصف الثاني من القرن الثاني قبل الميلاد؟ ألم يكن جميع الأنبياء أُمِّيِّين لا يعرفون القراءة أو الكتابة؟ ومع ذلك من يستطيع أن يزعم بأنَّ هؤلاء الأنبياء - وهم الذين قادوا الإنسانية - لا يمثلون أية قدرة ثقافية؟ لماذا أسلوب الحياة الديمقراطية في نموذجه الغربي هو وحده علامة التقدم السياسي؟ ولماذا نذهب بعيدًا؟ ألم تكن الثورة الفرنسيَّة ردَّ فعل لفشل الحضارة الغربية؟ وألم تكن الثورة الشيوعية بدورها رد فعل لفشل الثورة الفرنسية؟؟ وهل يمكن أن نفهم كلا الثورتين سوى أنهما إعلان عن إجهاض لحقيقة المكتسَبات التي قدمها الإنسان الأوروبي خلال سبعة عشر قرنًا منذ الدعوة المسيحية، عندما جاءت الثورتان كلتاهما بأسلوب لتطرد الكنيسة من الوجود المدني؟
تعال معي بني نفسِّر التاريخ في جوهره الحقيقي، الإنسانية عرفت ثورات ثلاث:
الأولى: تنبع من التصوُّر الروماني للممارسة السياسية كما صاغها شيشرون في كتابه "القوانين" ثورة صامتة هادئة خافتة لم يشعر بها أحد.
الثانية: الدعوة الإسلامية بمبادئها ومنجزاتها، ضربة عنيفة أعادت بناء نظام القيم، ووضعت دستور الإنسانية المتمدينة.
الثالثة: الثورة الفرنسية والتي لا نزال نعيش في نتائجها.
كل من هذه الثورات الثلاث تقدم خطوة حاسمة في تقدم الإنسانية، وكل منها ترسم صورة متميزة ومستقلة لقدرة العقل البشري على أن ترتفع ليس فقط إلى مستوى الإعجاز، بل وإلى التسليم بحقوق الإنسان، ولو في شطر منه في نطاق التعامل الاجتماعي والسياسي.
لقد آن للمؤرخ العربي أن يرفض، أو على الأقل أن يعيد تقييم ما تداولته الأقلام الغربية، حيث درجت تلك الأقلام على أن تجعل التَّطوُّر الحضاري للإنسانية المتقدمة ينبع من حلقات متتابعة من الحضارة اليونانية، فإذا بِمفاهيم أفلاطون ومدركات أرسطو تتفاعل مع الخبرة الرومانية، فلتبس ثوب القيم الكاثوليكية التي بدورها تنساب في شرايين الجسد الأوروبي، لتدفعه تدريجيًّا نحو حضارة عصر العقل والنور، فتأتي حضارة عصر النهضة لترفع قدرة العقل البشري على التحكم في مصيره، وتضفي على الإنسان الأوروبي صفات ثلاث لم يقدر للإنسانية من قبل أن تعرفها: العقل، والتقدم التكنولوجي، والقدرة على المغامرة؟
وهكذا من خلال التفاعل بين هذه العناصر الثلاثة تنبع تلك الحضارة التي نعيشها، والتي يتقلب في ضيائها كل وجود إنساني معاصر.
ورغم ذلك فإن عودة إلى متابعة التاريخ تكشف لنا كيف أن الإنسانية في حقيقتها لم تعرف سوى ثورات فكرية ثلاث، وكيف أن من بين هذه الثورات الثلاث تقف الإسلامية عملاقة بقوتها، قاطعة بما قدمته للإنسان المتمدين، فلنتابع تلك القصة في معالمها العامة ولنبدأ بالسؤال: ماذا قدم الإنسان المفكر قبل صياغة شيشرون لمبادئ القانون الطبيعي في كتابه القوانين؟
فَلْنَتْرُك جانبًا تلك المدركاتِ السائدةَ ولنُعْمِلِ العقل في فهم حقيقة الماضي، إنَّ كُلَّ ما فَعَلَهُ أفلاطون وأرسطو لم يَكُنْ سِوى مُحاولةٍ للقُدْرَةِ الفِكْرِيَّة على أن تكتَشِفَ حقيقة العالم دون هدايةٍ وإرْشاد من جانب الإرادة العليا، هذه المحاولة اليونانية نَجَحَتْ جزئيًّا وفشلتْ جزئيًّا، وكان نَجاحُها في أنَّها أَبْرزَتْ قوَّة الفكر الخلاق، وكان فشلها في أنَّها لم تستطع أن ترتفع للإمساك بتلابيب التَّطوُّر، فتخلق المجتمع القومي والأمة السياسية القادرة على أن تجمع الشعوب في وظيفةٍ حضاريَّة واضحة، وهكذا نَجِدُ أفلاطون، وكذلك أرسطو، بينما يتحدث كل منهما في نطاقه عن العدالة من جانب وعن حكم القانون من جانب، فإنَّ كِلَيْهِما يعترف بأنَّ نظامَ الرِّقِّ هو وضع طبيعي، وبأن هناك أفرادًا ولدوا ليكونوا عبيدًا، وآخرين ولدا ليتمتعوا بالحُرِّيَّة.
ومِنْ ثَمَّ فإنَّ قدرة الإنسان لم تستطع بعد أن ترتفع بفِكْرِها المُجَرَّد، وتصوُّراتِها الذاتية لترى كيف أن هناك قسطًا من الحقيقة الإلهية في كل وجود فردي.
جاء "شيشرون" ليلمس ذلك بإعجاز حقيقي، فإذا به يقول كلمته المشهورة من أن "الطبيعة خلقت الجميع متساوين، وأنها أعطت كل فرد مجموعة من الحقوق الطبيعية التي يجب أن تعلو على إرادة المشرع"، فكر "شيشرون" بهذا المعنى هو في حقيقته ثورة فكرية متكاملة، ولكن ذهبت تلك الثورة دون صدى، ولم تَسْتَطِعْ أن تستجيب لها النُّظم القانونيَّة، بل وانتهى شيشرون في مُحاولته اليائسة للدفاع عن قدسية النظم الجمهوريَّة بأن قتل وشرب من دمه بالقرب من نابولي؛ بل ولا يزال فقه السياسة في التقاليد الأوروبيَّة يغطي على تلك الثورة بغطاء من النسيان والتجهيل.
لقد كان على الإنسانية أن تنتظر أكثر من ستة قرون عقب مقتل شيشرون؛ لتواجه أول ثورة فكرية حقيقية فجرتها الدعوة الإسلامية، لتجعل منها منطلقًا حقيقيًّا لبناء حضارة الإنسان الجديدة، ما هي خصائص تلك الثورة الفكرية؟ لا نزال في بداية محاولتنا للإجابة على السؤال: أين أمتي من العالم؟ وهل نستطيع أن نجيب على مثل ذلك الاستفهام قبل أن نزيل تلك المجموعة من المفاهيم الخاطئة، والمترسبة في الوعي والمدركات التاريخية؟
لا يستطيع مؤرِّخٌ مُحايد أن ينسى كيف أنَّ الدعوة الإسلامية تضمَّنَتْ عناصِرَ خَمسة لم يسبق للإنسان أن عرف معناها وإن اكتشف جوهرها:
أولاً: الإرادة العليا يجب أن تكون موضعَ احترام أيضًا في الحياة المدنية.
ثانيًا: الرِّقُّ حالة غير طبيعية يَجِبُ أن تواجَهَ بوضع حدٍّ لها تدريجيًّا.
ثالثًا: المجتمع السياسي هو قوة متراصة متضامنة.
رابعًا: الكرامة الفردية تُمَثِّل مفهومًا مستقلاًّ عن الأصل العنصري؛ بل وعن الانتماء الديني.
خامسًا: الجهاد هو محور الوجود الإنساني.
إنَّ جوهر الحضارة الإسلامية هو دعوة العقل لإعمال الفكر، وهو دعوة الإنسان لأن ينطلق بقدراته الذاتية لأن يكتشف العالم الذي يحيطه، وعلى أن يكتل طاقته وطاقة أقرانه نحو هدف من المثالية والسمو الأخلاقي، حيث تختفي الأنانية، وبحيث يسيطر على الإنسان مفهوم الجهاد في سبيل نشر الدعوة، الإرادة العليا تأتي فتقود الإنسان، ولكن في نطاق معين بحيث لا تفعل سوى أن تضع مجموعة من المبادئ العامَّة تسمح للفرد بأن يكتشف ذاته؛ إنَّها لا تترك الفرد دون هداية، ولكنَّها لا تفرض على المواطن إطارًا نظاميًّا معيَّنًا، يكبله بقيود هو قادر على أن يتفاداها ويتجنَّبها، والإرادة لا تفعل سوى أن تضع خطوطًا عامَّة مهما قويت قدرة العقل والمنطق على أن تكتشفها فهي تقف منها ضعيفة خائرة.
كذلك فالمجتمع السياسي هو الأمة، والأمة السياسية تعني حقائق ثلاثًا: حضارة، وجماعة، وقيادة.
كليات الوجود السياسي قبل الدعوة الإسلامية لم تكن سوى فرد وجماعة، والعلاقة بينهما لم تكن سوى علاقة تناقض وتعارض.
كذلك عقب التعاليم المسيحية، فإن القديس "سانت أوجستين" لم يكن يستطيع أن يرى في التعامل بين مدينة الإله ومدينة البشر سوى صدام عنيف، ينتهي تارة لحساب الشيطان، وتارة أخرى لحساب الفضيلة، حيث إن ما يكتسبه أحدهما لا بد وأن يكون على حساب الآخر، النظرة السياسية الإسلامية تجعل التعدد للكليات هو محور تصورها، الفرد، الجماعة، الحضارة، القيادة، وإذا كان الفرد هو سيد الجميع، فلا وجود له إن لم يندمج في إطار الجماعة أو الأمة من جانب، وإن لم يترابط من خلال الحضارة، أي قيم الممارسة، أي إطار المبادئ المنزلة من جانب آخر.
وتجمع العلاقة بين جميع هذه العناصر مفهوم القيادة، الخلافة ليست حقوقًا ولكنها التزامات تعبر عن مثاليات الجماعة - أي القيم الدينية - وتخلق الترابط بين الحياة المدنية والحياة الأخرى التي يعد نفسه لها المواطن.
هذه الثورة الفكرية هي التي مكنت المجتمع العربي - رغم فطرته وبدائيته - أن يصبح قدرة خلاقة قادرة على أن تزلزل جميع الإمبراطوريات المحيطة به؛ بل وإذا بأهل تلك الإمبراطوريات يقبلون طواعية على الدخول في تعاليم الدعوة الجديدة، لتحقيق أكبر معجزة في تاريخ الإنسانية، هنا من هذه الأرض انطلق النبت الجديد، وأينعت الحضارة الجديدة حيث تعانقت قيم الإسلام مع وظيفة أمتي الحضارية، وظيفة العروبة السياسية ومع الفارس العربي انطلق الإشعاع الحضاري، ليس فقط بِمعنى القدرة على تقديم الذات؛ ولكن بمعنى الفيضان في المنطقة، وإذا بالإخصاب يقدم ثمرته التي فرضت وجودها على الإنسان في أكثر من موقف واحد.
نبعت الثورة الفكرية الإسلامية - والتي حملتها الحركة العربية قرابة اثني عشر قرنًا من التطور - مجموعة من التقلبات لم تكن إلا تعبيرًا عن فشل الإنسانية في فهمها لحقيقة الوظيفة الحضارية، ثم تبعت ذلك الثورة الفرنسية، ويعترف عمالقة الفكر الأوروبي بأن هذه الثورة الفرنسية قدمت باليمين وأخذت باليسار، إنها باسم حضارة عصر النهضة، وتقديس العقل والحرية خلقت مجموعة جديدة من الأصنام، فأعادت عبادة الدولة، وأطلقت مفاهيم الانتماء إلى الحضارة اليونانية، وانتهت بأن تعمِّق فلسفة التعصُّب العنصري باسم "الحرية، والإخاء، والمساواة"، فالحرية حق أوروبي، والمساواة في داخل المجتمع القومي، وما عدا ذلك لا موضع له في قيم الممارسة السياسية، وإذا كانت العلاقة السياسية الجديدة قد أضحت واحدة ومطلقة ومباشرة، وكلية وشاملة، فهي تنتهي ليس فقطْ بإلْغاءِ القيم والمثاليات الأخلاقية، بل والعودة لجعل النماذج الفكرية لأفلاطون وأرسطو هي دستور الحياة الفكرية، إنها تلغي جميع تطورات ومكتسبات الإنسان قرابة عشرين قرنًا، إنها تعلن فشل الحضارة الكاثوليكية في هداية الإنسان الأوروبي، لا نريد أن نحدد في هذا المجال الدين الذي قدمته تلك الثورة الفكرية الإسلامية، الذي ساهم في هداية المجتمع الأوروبي لاكتشاف ذاته، وكيف أنه - حتى في ذلك القسط المحدود من الإبداع الفكري الخلاق الذي تضمنته الثورة الفرنسية - لم يستطع أن يتوصل العقل الأوروبي إليه إلا من خلال تعاليم الحضارة الإسلامية.
الإنسانية الغربية لم يقدر لها الانطلاق والتخلص من طقوس العصور الهمجية الأولى، إلا فقط عندما قدر للتراث الكنسي أن يتعامل مع التراث الإسلامي، فموجة الزحف الفكري الإسلامي هي التي أحدثت التفاعلات الجديدة مع القديس "توماس الأكويني" فإذا بمسارات فكرية مختلفة، وإذا بتعديل في كل ما له صلة بالإطار الفكري للتعامل.
المفاهيم الإسلامية تطرقت من خلال مسالك متعددة، بعضها مباشرة، وبعضها غير مباشرة، القديس "توماس الأكويني" تعلم على يد ألبرتوس الكبير، الذي درس في صقلية، ونقل إلى الفيلسوف الإيطالي فلسفة كل من ابن سينا وابن رشد.
جامعة باريس عندما أنشئت ظلت أكثر من قرن تدرس الفلسفة اليونانية، من خلال النصوص المنقولة عن فلاسفة الإسلام، وظلت تدرس كتب ابن سينا وابن رشد، حتى أصاب البابا الكاثوليكي نوع من الهلع، فأصدر قراره بمنع تدريس الفلاسفة المسلمين في جامعة باريس، وقد كانت نتيجة ذلك هجرة جماعية: أساتذة وطلبة جامعة باريس انتقلوا إلى جامعة تولوز على حدود إسبانيا، حتى يستطيع هؤلاء العلماء أن يظلوا على تعاملهم مع تلك النصوص الإسلامية دون أن تستطيع السلطة البابوية أن تنالهم.
إنَّ حضارة أمتي هي التي علمت العالم الأوروبي معنى الوظيفة الحضارية، ولكن هذا العالم الأوروبي لم يعرف كيف يستقبل تعاليم أمتي، إن مأساة المجتمع الأوروبي الحقيقية هي أنه في تعامله مع تراث آبائي قبل قسطًا دون الآخر، فحضارة آبائي هي مزيج متجانس من العقل والتدين، العقل أي القدرة الفكرية الخلاقة، والتدين أي التعاليم المنزلة من الإرادة العليا، العقل ينطلق من التعاليم الدينية: طقوسًا وترتيلات؛ لأنها لا تتفق مع المنطق الإنساني المجرد، ولكنها فرضت على ذلك المنطق مجموعة من القواعد، جعلت منها علامة للإيمان.
العقل الأوروبي في جهالته وفي جموده إزاء تعاليم بالية متحجرة ما كان يمكن إلا أن ينحني إجلالاً لذلك التراث العربي، أعجب بالعقل العربي فجرده من إطاره الديني، وطور إمكانية قبول ذلك القسط العقلي بدون قيمه ومثالياته، فكانت تلك النتيجة التي فجرتها الثورة الفرنسية لتذكرنا بقصة الغراب الذي حاول أن يقلد الطاووس، فلا هو ظل على طبيعته، ولا هو اكتسب صفات جديدة.
ما الَّذي نَستطيعُ أن نَفْهَمَه من هذه الملاحظات العامة؟
الثورة الوحيدة التي عرفَتْها الإنسانيَّة كدفعة حقيقية نحو الارتقاء الفكري، هي الدعوة الإسلامية، فهل آن لنا أن نفهم كيف أن قصة التاريخ يجب أن نعيد كتابتها من منطلقات جديدة؟
هُناك صفحاتٌ غامضة في قصة العظمة الإنسانية، يجب أن يعاد تسجيلها، وليس أقل هذه الصفات أهمية ما قدمته الحضارة الإسلامية لبناء مفهوم الدولة العالمية في العصور الوسطى.
إنَّ البابوية الكاثوليكية - وعلى يد مُمَثِّلها الفكري وفيلسوفها السياسي "دانتي" - ما كانت تستطيع أن تؤصل وظيفتها التي قادت الإنسانيَّة الغربية - رغم اضطراب الخطى والخروج عن التقاليد - لولا البناء الإسلامي.
كذلك يجب أن نعيد تحديد وصياغة مراحل ذلك التطور لنستطيع أن نزن بميزان صحيح حقيقة العلاقات التاريخية بين العروبة والإسلام؟ ماذا فعلت العروبة للإسلام؟ وماذا قدم الإسلام للعروبة؟ لا يمكن تصور أيهما دون الآخر، ولكن هناك فوارق وحدود، فأين نضع تلك الضوابط وكيف؟ جميعها أسئلة يجب أن نواجهها ونحن في مرحلة مراجعة قاسية مع الذات، لنصل إلى تلك الشفافية التي وحدها سوف تسمح للأجيال القادمة أن تسطر أروع صفحات البطولة الفكرية.
ولكن مهلاً يا بني، فالفكر في حاجة في بنائه إلى التؤدة والتأني والمعاناة، وليس فقط الإيمان والثقة، ومع ذلك سوف أظل أصرخ، سوف أظل عربيًّا.
"فهلم فهمت لماذا؟"
المصدر: كتاب "خطابات إلى الأمة والقيادة"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق