الثلاثاء، 6 يونيو 2017

أخوة يوسف وأخوة قطر

أخوة يوسف وأخوة قطر


 وائل قنديل
قبل نحو ستة شهور تساءلت عن الفرق بين الدولة الكبيرة والدولة العجوز، وهل تقاس عظمة الدولة ومكانتها بتضخمها جغرافياً، وتقادمها تاريخيا، فقط، أم أن المسألة محكومة بمعايير أخرى، حضارية وإنسانية، من الممكن أن تصير معها دولة، محدودة المساحة، لكنها هائلة الحجم والتأثير في البشرية؟

السؤال بصيغة أخرى: ما هي مواصفات الدولة العصرية الكبيرة؟

أزعم أنه ينبغي التفرقة بين دول متضخمة المساحة وكبيرة السن، لكنها متهدلة ومترهلة، على نحو يثير الرثاء والأسى، وبين دول صغيرة جغرافياً، وعمرياً، لكنها متنامية ومتحضرة ومنطلقة على مضمار التطور الإنساني.

قطر، من هذا الصنف الأخير من الدول، لو طبقت عليها معايير التطور والمعاصرة والنمو الحضاري، فتعليمياً هو الأولى عربياً، والرابعة عالمياً، في مؤشر جودة التعليم الأساسي، حسب آخر تقييم للعام الماضي، والذي يصدره المنتدى الاقتصادي العالمي سنوياً..

وهي تلك" الدويلة العملاقة" التي اكتسبت مكاناً، مستحقاً، باقترابها من قضايا الإنسان في كل مكان بالعالم، من السياسة إلى الرياضة إلى الاقتصاد، على نحو يجعلها صاحبة بصمة واضحة في كل نشاط إنساني، فهي التي تقدمت إلى العالم بملف مبهر لاستضافة كأس العالم في كرة القدم 2022 وتفوقت به، وهي صاحبة الناقل الجوي، الأول على العالم لسنوات، وهي ذات الاقتصاد الضخم، المتنامي، بموازاة نمو سياسي وإنساني.

هل يكفي كل ما سبق لتكوين خميرة لا بأس بها لاستهداف قطر والكيد لها ومعاقبتها؟

أزعم أن وراء استهداف قطر انحيازها الإنساني، قبل أن يكون تطورها الاقتصادي والسياسي، ففي عالم لا يعرف سوى لغة الصفقات، في السر والعلن، ويضع الربح قبل العدل، والمكسب قبل المبدأ، ويحتفي بالمتآمرين والقتلة ويكافئ السفلة، لا بد أن تُعاقَب قطر، تلك الشريرة الصغيرة، سناً ومساحة وتعداداً، التي جمع أهلها أكثر من 250 مليون ريال قطري، ما يعادل نحو 70 مليون دولار، في غضون ساعات، من أجل منكوبي مذبحة حلب، نهاية العام الماضي. 



هي"الشريرة" التي لا تشارك في حفلات شواء الإنسان العربي، عقاباً له على اجتراح حلم التغيير في العام 2011 ولا تنتمي إلى منظومة قيم بلورة صفقة القرن السحرية، ولا تغلق أبوابها في وجه مظلوم، ولا تتملق أعداءها، مثل تلك العجوز المبتذلة، التي تنحني لمحتلي شقيقاتها، وتصعّر خدها، وتمد يديها، وتقتل أجمل ما فيها، كي ينتعش محصولها من القبح والفساد والبلادة، والانحطاط القيمي، وتهين جغرافيتها، ببيع مساحات من أرضها، وتبتذل تاريخها ورصيدها الحضاري، بالتسكع على أبواب المقتدرين، مالياً وعسكرياً، ملطخة وجهها، مثل عجوز مترهلة، تبتعد تماماً عن الوقار والاحترام.

دعني أعيد تذكيرك بأهمية الوضع بالاعتبار الفارق الجوهري بين "الوطن" وبين "الدولة". فالوطن ثابت والدولة متغير، الوطن هو الأرض والشعب والتاريخ والجغرافيا، ومنظومة الأخلاق والثقافة.. بينما الدولة هي النظام السياسي الحاكم لهذا الوطن، هي المؤسسة التي تدير وتحكم. وبالتالي، فالمستبد الفاشل ليس هو "الوطن"، ليس هو "الجمهورية"، بل هو الشخص الذي استولى بالقوة المسلحة على مفاتيح غرفة التحكم في شؤون هذا الوطن، الكبير، وأداره بسياسات وممارسات صغيرة، داخلياً وخارجياً، فجعل منه "دولة صغيرة"، بل أقل من ذلك "شبه دولة".

بمقاييس العصر، أكرر ما دونته سابقاً من أن الدولة الكبيرة إنسانية، بالضرورة، وعادلة، بالبداهة، وأخلاقية، بالطبع، ليست كيّادة ولا مبتزة ولا مبتذلة، ولا متصاغرة، ولا مفرقة بين أبنائها، موقفها السياسي ليس "جراج" متعدد الطبقات، يستعمله، بالامتلاك أو بالإيجار، من يدفع، ومبدؤها الأخلاقي يتشكل من روافد الاعتقاد الديني والموروث التاريخي والفعل الوطني الذي يأخذ في حسبانه اعتبارات الأخوة والجوار، ويميز بين العدو والصديق.

الدولة الكبيرة لا تطلق جِراءها المسعورة تنهش وتعقر في كل مكان، تغرس مخالبها وأنيابها في لحم المختلفين، المعارضين لكل هذا التدني والتسفّل، وتطلقهم على من لا يرضخون لابتزازها خارج الحدود، فيمالئون العدو الصريح، ويهينون الشقيق، الثابتة أخوته بالدين واللغة والعرق والدم والملامح.

وبمعايير التاريخ والموروث الحضاري، أيضاً، دعني أضع أمامك مجددا، تعريف فيلسوف علم السياسة الإسلامية، أبو نصر الفارابي والذي كان يُكنى باسم "المعلم الثاني" بعد المعلم الأول، أرسطو، لأسماء وأنواع المدن الفاسدة في المدينة الجاهلة، التي هي مدينة الظنون والأوهام والمعتقدات الفاسدة، والمدينة البدالة، والمدينة الفاسقة والمدينة الضالة ومدينة النذالة ومدينة الخسة والاجتماع الخسيس.

أظن أنهم يريدون إلقاء قطر في غيابة الجب لأنها ليست من هذا النوع الذي تحدث عنه الفارابي.

اللهم احفظ قطر، كما نجيت يوسف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق