الخميس، 1 يونيو 2017

التنكر لمعرفة أحوال الرعية: من هارون الرشيد إلى السيسي

التنكر لمعرفة أحوال الرعية: من هارون الرشيد إلى السيسي


أحمد عمر




لم يكن عمر بن الخطاب يحتاج إلى التنكر بزي الرعية لمعرفة أحوالها، والتنكر ضرب من الكذب في الهيئة لا يقدم عليه عمر، ولا يباح الكذب إلا في حالات ثلاث واحدة منها الحرب، ولم يكن عمر يمتاز عن رعيته بزي أو هيئة أو هالة، وقد فوجئ الأعرابي الذي يطلب رفد عمر – كما يروي ابن الجوزية في التبصرة - فخرّ باكيا وهو يقول: آل بيت النبوة يولّدون زوجتي! وأمير المؤمنين يطبخ لي ولزوجتي!
وتروي ألف ليلة وليلة حكايات عن هارون الرشيد ومسرور السياف، وهما يتنكران في أزياء العامة لمعرفة أحوال الرعية والوقوف على شؤونهم وأخبارهم، برما أو ضجرا من نفاق الخاصة، أو مللا من بأس الاعتياد، أو حبا في العدل والإنصاف أو شوقا إلى التغيير.

وتذكر الأخبار المعاصرة أن النجم الأمريكي ذي العينين الصغيرتين ريتشارد غير، وهو أمير من أمراء هوليود برعية من المعجبين، تنكّر في زي شحاد متسول، وله تصريحات مثيرة عن تجربته تلك، ولاقى مسلسل يوميات مدير عام الكوميدي قبولاً طيباً لدى السوريين، لأنه يستعيد تلك الذكريات عن الخلفاء والأمراء العرب، الذين كانوا يتنكرون لمعرفة أحوال الرعية بالعين "المجردة" من النظارات والمجاهر والمخبرين، وفيه يتنكر مدير شركة (أيمن زيدان) لمعرفة أحوال شركته عيانا بيانا، فيكتشف سرقات كثيرة وفسادا هائلا، وفي نهاية المسلسل يقف عاجزا يائسا عن حلها ويقول: "عوجا"، أي أن الأمور لا يمكن إصلاحها، وأظنّ أنّ بشار الأسد نفسه كان عاجزاً عن حلِّ مشاكل سورية، التي أفسدها والده فسادا لا يمكن إصلاحه، فمضى هاربا إلى الأمام كما يفعل السيسي الآن، والأمام عندهم هو الخلف، وهو يقوّم اعوجاجها بالبراميل والكيمياء والدم.. أما قصد المسلسل فهو لوم الناس، وتجنب التشخيص، كما فعل فلم "التقرير"، أو أنه يقصد القول: إنّ الرئيس ليس عنده عصا سحرية، وبرهنت الأيام أن عنده براميل سحرية. 

وصفقت وكالات الأنباء للملك الأردني، الذي نزل ودفع سيارة واحد من العامة عالقة بالثلج، وأمير دبي ذات العماد الملح، الذي زار توم كروز من غير تنكر للاطلاع على أحوال فلم "المهمة المستحيلة"، وقد أوشك أمير مدن الملح العربي على القيام بالمهمة، وهي تدمير الأمة كلها، وفوجئ الشعب السوري بالرئيس بشار الأسد يزور مطمعا سوريا، ويأكل فيه من غير تنكر أو حرس ملحوظ، وقالت زوجته "وردة الصحراء" - وهذا لقب يشبه زهرة الرمان في الحكايات - لتلفزيون غربي، وهي تشير إلى امرأة عجوز تسير في الشارع: انظري سياراتنا غير مصفحة، وهذه المرأة هي البودي غارد، وهي حرسنا الرئاسي، وهي التي تدافع عنا!!

قد يسلك الملك العربي سلوكا طيبا، من أجل عين الكاميرا، لا عين الأمة، لكنه لن يتنكر أبدا، لن يخلع التاج، إذا تنكر تطيّر من العودة مواطنا!

الرئيس العربي ليس بحاجة إلى التنكر كهارون الرشيد، فعنده جيش من المخابرات والمتطوعين، متنكرون ويتحسسون حرارة الرعية، ويتجسسون عليها ليل نهار. ويمكنهم تصوير الناس بالكاميرا بالصوت والصورة، وهو متنكر من يوم الولاية، لكن تنكره مختلف، فهو مجرم قاتل، لكنه في الصورة الرئاسية بطل، عادل، تام الصفات... مستحيل الوصول إليه بالشكوى، حتى إذا وقع ما وقع، قال: إنه لا يعرف.. البطانة هي السبب.. البريد لا يصل إلى الرئيس المشغول في "الجبهة"!

وهناك فرص بطولة متاحة للنجوم، لكن الناس أنفسهم يظلمون، فكنت أتمنى من الشيخ العريفي وهيئة كبار العلماء، وهي تبارك مؤتمر مكافحة الإسلام في الرياض مع ترامب والسيسي، أن يطلب واحد منهم مساعدة السوريين الخمسين الذين لا يزالون مقطوعين في الصحراء بين العصر والمغرب، فإن لم تكن له جرأة قول الحق أمام سلطان جائر، فليذهب بنفسه متنكرا أو من غير تنكر، ويعيش معهم يومين أو ثلاثة بعيدا عن تويتر، فسيقدم بالزيارة خدمة إعلامية كبيرة لهم، وهو أيضا ملك إعلامي وله رعايا ومعجبين ـ والنفس تشرف على الموت: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا ً. أما الفاتيكان، فلا لوم عليه في نصرة هؤلاء، أو نصرة ميانمار، فما يهمه هو رعيته، وهي بألف خير، لا لوم عليه أبداً. 

لكني أزعم أن الرئيس العربي واصل هذا التقليد الأثير، على مذهب غير مذهب هارون الرشيد، وإنما على نقيضه، بل إنه لم يكف يوماً عن التنكر، فهو يعيش متنكراً مثل الذئب في جلد الشاة، يقرع قبل الانتخابات، أو قبل الانقلاب باب الخراف، ويلبس فروة شاة، ويقول افتحوا الباب أنا أمكم، "وأقسم بالله تاني ما للناس طمع في أي حاجة"، "ومصر قد الدنيا"، "اصبروا عليّ سنة، ستة أشهر، سنتين، أربعين سنة، ستين سنة" ... ويبادر إلى المشي مع الحاجة زينب، وامرأة العربة، أو مساعدة عالم كبير في السن.. لكنه في الحقيقة يبطش بمئات العلماء في السجون، ثم يغزو الجيران العرب، ولا يمشي -وهو المتواضع - إلا على السجاد الأحمر، هو وسيارته، ويعيّرهم بفقرهم: "أنتم فقراء أوي"، وليس نحن فقراء أوي، ومصر واحدة من أغنى الدول العربية بالثروة السياحية، والثروة المائية، والأرض الخصبة والذهب، والفسيخ... وبشار الأسد وعد وعوداً كثيرة بالديمقراطية، وكان خطاب القسم واعداً ومبشراً، فكشف الشعب والنخبة المثقفة عن وجوههم، وظهروا، ثم كان أن بطش بهم جميعاً.

الرئيس المتنكر فرض بالخوف على الرعية أن تتنكر في جلد الطاعة التامة، وإهاب الولاء المطلق، تخرج في المسيرات وتهتف للذئب المتنكر في زي الطبيب الحكيم والفيلسوف. حتى البلاد تنكرت، ولم تعد بلاداً نعرفها، وكان الربيع العربي بلا ثمار، سوى ثمرة كشف الأقنعة، زعماء الأمة كشفوا أنياب الليث، وأعلنوا الحرب على كل من أيد ودعم الربيع العربي.

الملوك العرب عراة تماماً، الشعوب عادت إلى القناع والتنكر في جلد الشاة حتى تستوي المعادلة المكسورة، وحتى نستمر في التعايش مع من لا يرحم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق