الأربعاء، 21 يونيو 2017

يا أبناء الربيع العربي ... أحذرو مصيدة الأستشراق !

    يا أبناء الربيع العربي ... أحذرو مصيدة الأستشراق !


أ.د. يوسف خليفة اليوسف

تقديم
منذ استقلال الدول العربية حتى بزوغ فجر الربيع العربي ظلت الحركات ألأسلامية بكل اطيافها اما مبعدة كليا أو تشارك في تجارب مسقوفة لأن الغرب لم يقبل بهذه التيارات وكان يرى ان الأنظمة الأستبدادية سواء كانت ثورية أو وراثية هي افضل لتحقيق مصالحه السياسية وهي كذلك اقدر على استخدام العنف ضد معارضيها لتحقيق ألأستقرار مهما كان هذا الأستقرار هشا كما اثبتت التجارب اللاحقة. اما بعد الربيع فقد اصبح ألأسلاميون هم اللاعب الأكبر في الدول التي سقطت فيها الأنظمة ومن المتوقع ان يكون لهم دور مشابه في الدول التي لازالت تتفاعل مع الربيع العربي على استحياء كالنظم الوراثية التي ادخلت نفسها وللأسف في نفق مظلم باختيارها أساليب العنف على الأصلاح . ولاشك ان المسؤولية التي القاها الناخب على الحركات الأسلامية خاصة في الدول التي سقطت فيها ألأنظمة ألأستبدادية هي ليست بسبب قيادة هذه الحركات للأحتاجات التي واكبت الربيع العربي ، لأن هذا الربيع كان نبض الجيل الشاب بكل اطيافه ، وانما بسبب ترسخ منظومة العقائد والقيم التي يمثلها الأسلام في ذاكرة الأمة ، وكذلك بسبب ما تعرض له الأسلاميون من اعتقالات وتعذيب من أنظمة ألأستبداد ، بل ان الربيع العربي قد احرج القيادات القديمة في هذه الحركات امام الجيل الشاب الذي وجد في التأني المفرط لهذه القيادات في الأنظمام الى هبة الربيع العربي بعد بدايتها امر لم يعد مقبولا ، فقرر هؤلاء الشباب ان يقودوا الحرس القديم الى مسيرة بقية شرائح المجتمع المطالبة بالتغيير . ومما يفسر اقبال الشعوب على التيار الأسلامي بكل اطيافه كذلك هو الأخفاق الذي عانت منه أنظمة الأستبداد العربية سواء الثورية منها أو الوراثية ، حيث تساوت هذه الأنظمة تقريبا في تهميشها للشعوب سياسيا ، وفشلت في ايقاف اتساع فجوة الدخل بين دول المنطقة وداخل كل دولة ، ووقفت مكتوفة الأيدي أمام تزايد معدلات الفقر والبطالة ، وعجزت عن ايقاف النهب الذي تمارسه الدول الغربية لثروات هذه الشعوب ، اما ببيع السلاح او بالحروب المدمرة أو بشراء النفط باسعار بخسة ، أو بسبب تآكل الثروة النفطية المودعة في اسواق المال الغربية من خلال التضخم وتراجع قيمة الدولار والأزمات المالية المتكررة ، في الوقت الذي تراجعت فيه مؤشرات التنمية في المنطقة العربية مشيرة الى مجتمعات مأزومة . 
على كل حال سواء كان دور الحركات السياسية في تفجير شراراة الربيع العربي رئيسيا ام انه كان ثانويا فان من المؤكد ان توقعات الناخب العربي منهم كبيرة وتضعهم امام امتحان صعب ، فشعار الأسلام هو الحل لم يعد وسيلة لأستنهاض الأمة ، وانما اصبح برنامج عمل يحتاج الى فقه ينزله على أرض الواقع بصورة متدرجة ومتحركة ومستوعبه للواقع تؤثر فيه وتتاثر به وهكذا دواليك ، وهي عملية تراكمية ولكنها لن تخلو من بعض التراجعات والجمود احيانا ، فاصعب ما في التغيير القادم هو ليس توصيف واقع الفساد الذي يراد تغييره ، ولا المجتمع الراشد الذي تتجه اليه القلوب والأبصار ، وانما هي المرحلة الأنتقالية التي بينهما وما فيها من تعقيدات وتشابكات وتحديات تتطلب فقه متحرك ومتجدد مع الوقت والمكان وفي اطار الثوابت حتى لاتكون هناك مبررات لأعداء هذا الدين ان يسقطوا قصور البشر على المنهج الرباني بما فيه من كمال ورحمه وديمومة  . 
وقد اخترنا عدد من المنطلقات التي نعتقد انها جديرة بالأهتمام من أبناء الربيع العربي والتيارات الأسلامية خاصة حتى تتمكن من بلورة نموذج حضاري بخصوصيات الأمة يمكن ان يطرح كبديل للنموذج الليبرالي الغربي ، وهنا نود أن نؤكد ان المنطلقات التي نتعرض لها في هذه الورقة المختصرة تمثل في اعتقادنا الخطوط العريضة لما نراه نموذجا تنمويا نابع من ثوابت هذه ألأمة ومحققا الحرية السياسية والتنمية المستدامة والعدالة الأجتماعية ، وهدفنا من طرح هذه المنطلقات هو تفتيح آفاق للحواروتقديم بعض الأشارات هنا وهناك من غير أدعاء باننا نقدم تصور تفصيلي للنموذج الحضاري الأسلامي ، لأننا نعتقد بداية بان هذا النموذج سيتبلور وتظهر ملامحه بصورة تدريجية كثمرة للفكر والممارسة التي ستتم انطلاقا من الثوابت الحضارية وفي ظل بيئة تتصف بالحرية والمواطنة الواحدة وتعتمد على مزيج من التشريعات والتعليم والثقافة وتبقي على ما هو ايجابي في النظم المعاصرة وتعدل ما هو غير ذلك باسلوب عملي وتدريجي  . 

هذا يعني ان احياء النموذج الحضاري الأسلامي يتطلب العمل على اكثر من محور أهمها اربعة محاور هي 
أولا : تجاوز مصيدة ألأستشراق وذلك بتوثيق وتوعية المجتمع المعاصر بما  حققته  الحضارة الأسلامية من انجازات على كافة الأصعدة عندما كانت قريبة من منابع الدين الأصلية قبل ان تمر بمواسير انظمة الأستبداد اللاحقة ؛ 
ثانيا : العمل على فهم النموذج الليبرالي بكل جوانبه خاصة في ما يتعلق بالظروف التي ادت  الى تهميشه لدور الدين ، وعوامل القوة فيه ، وأهم اخفاقاته ، حتى تكون هذه المعرفة احد المدخلات في بناء النموذج البديل . 
ثالثا : تقديم رؤية كونية بديلة للرؤية المعاصرة التي افرطت في المادة على حساب الروح وافرطت في الفردية  على حساب الأسرة وافرطت في التوجه الى الدنيا على حساب الآخرة لأن هذه الرؤية هي وحدها قادرة الى اعادة التوازن الى علاقة الأنسان بكل مكونات هذا العالم . 
واخيرا : ان انزال الرؤية الكونية المتوازنة على ارض الواقع يتطلب ايجاد  آليات ونماذج تنتقل بالأنسان من واقعه الحالي الى الواقع المنشود بصورة متدرجة وبخطى ثابته تبتعد تدريجيا عن النموذج الحضاري الغربي الى النموذج الأسلامي المنشود من خلال توفير الحريات التي تساعد على عملية نشر وتأصيل وتطبيق منظومة القيم الأسلامية في كافة مجالات الحياة حتى يشاهد المجتمع اثر هذه المنظومة القيمية على ترميم كيان الأسرة وفي الأرتقاء بمستوى التعليم وفي تنقية رسالة الأعلام وفي تهذيب النشاط الأقتصادي وتقليل معدلات الفقر وتفاوت الدخل وتحفيز العمل الخيري والنقابي . 
وسنعالج كل مرتكز من مرتكزات النموذج الحضاري البديل في ورقة مستقلة وهذه الورقة الأولى هي عن أهمية الأبتداء بفهم مخاطر الأستشراق بنوعيه القديم والجديد خاصة في ما يتعلق بتشويه ثوابتنا الحضارية ودورنا في الحضارة البشرية واثر كل ذلك على وحدة جبهتنا الداخلية لأن السير الى الأمام يتطلب درجة من الأتفاق على ثوابت الأمة بين جميع أبنائها حتى يكون الأختلاف اثراء لمسيرتها بدل أن يتحول الى قنابل موقوته لتفجيرها من الداخل كما يرغب الأستشراق وأعوانه.

تجاوز مصيدة ألأستشراق
كثير من عقلاء الغرب القدماء منهم والمعاصرين يعترفون بأن الحضارة الغربية المعاصرة قد تأسست على اكتاف العلماء المسلمين . ولكن التحيز الذي سببه الجهل والأهواء احيانا ومحاولة الحفاظ على المصالح احيانا أخرى جعل الغرب منذ بداية عصر التنوير يلبس عباءة الأستشراق بصوره القديمة والمستحدثه وقد يكون الأديب والباحث الفلسطيني ادوارد سعيد هو أول من كشف عورة هذا العلم عندما الف كتابه المعنون " ألأستشراق" والذي اكد فيه بالتحليل الموثق ان المستشرقين قد رسموا في أذهانهم صورة عن الأسلام تنسجم مع ما يخدم مصالحهم وبداوا بنشرها على انها تمثل حقيقة الأسلام . ولاشك ان هذا النقد الذي قدمه ادوارد سعيد هو تعبير صحيح عن ما كان يدرسه الغربي بما في ذلك القيادات السياسية عن الأسلام والمسلمين [1]

وخطورة مصيدة ألأستشراق أنها سممت العلاقة بين ألمسلمين والغرب وكذلك بين المسلمين انفسهم فلم يعد بينهم الحد الأدنى من الأتفاق ، فلم يكتفي الفكر الأستشراقي بمحاولة ابعاد الدين عن الحياة كما حصل في الغرب وانما سعى لجعل مباديء الأسلام سببا في تخلف المسلمين ، وقد تمخضت عن هذه الرؤية سياسات تسعى الى ابعاد المعتقدات والقيم عن فضاء السلوكيات اليومية فافرط البشر في اتباع الهوى، واصبحوا كالسائق الذي عطل كوابح سيارته فاذا به يقع في سلسلة لاتنتهي من الكوارث التي تعكر عليه صفو الحياة وتوتر علاقته بغيره ، وقد ترافقت هذه السياسات مع هجمة شرسة على اللغة العربية وذلك باستبدالها باللغة الأنجليزية كلغة تعليم وترجمة ونشر ، وفي الغرب بدأت بعض الجامعات في السنوات الأخيرة في التركيز على اللهجات العربية بدل اللغة العربية لتهميشها ، وانتشرت ظاهرة تقديم رسائل الدكتوراة في اللهجات العربية،  بل أن حتى بعض مناهج تدريس اللغة العربية في الغرب بدأت تركز على اللهجات وحدها ، كل ذلك لتخريج جيل من الباحثين العرب المتقوقعين على كياناتهم الصغيرة ، فهذا خليجي ، وهذا سوري ، وذلك مصري وهكذا دواليك مما يجعلهم منقطعون عن لغة القرآن وعن دينهم وثوابته ، وتراثهم وثروته ، وتاريخهم وانجازاته ، وهذا يسهل بدوره تبعيتهم لغيرهم وفقدانهم لعوامل القوة في موروثهم الحضاري .

 لذلك فاننا عندما نتحدث عن هذا المكون في بناء النموذج الحضاري البديل فاننا نخاطب أبناء الأمة الأسلامية أولا لأن فهم مصيدة الأستشراق والتعامل معها بفطنة وحكمة ووعي وعقلانية وتقديم الأدلة سيكون بمثابة الخطوة الأولى لبناء حصوننا من الداخل ، وفيها كذلك تنوير للباحثين عن الحقيقة من أبناء شعوب العالم ليتأكد لهم أن مباديء الأسلام التي قامت عليها أرقى حضارة بشرية هي وحدها لازالت تمتلك حلولا لكثير من العلل التي افرزتها الحضارة المادية المعاصرة التي جعلت الأنسان عبدا لأهوائه وقصر نظره . وهدفنا هنا هو ليس التفصيل وانما التنبيه على اهمية هذا البعد في التأسيس  لنهضتنا مما يعني أن على ثلة من أبناء الأمة أن تسد هذه الثغرة بمزيد من تقليب صفحات التاريخ وتوثيق مساهمات المسلمين الحضارية وترتيبها ونشرها وكذلك بكشف اكاذيب الأستشراق وفضحها وتعرية أنظمة الأستبداد التي طالما تقنعت باقنعة اسلامية والأسلام منها بريء أو كما قال جورج أورويل : "اذا انتشر الخداع فكشف الحقيقة يعتبر ثورة " والتصدي للأستشراق القديم والحديث هو في اعتقادنا ثورة فكرية نحتاجها اليوم ، وهي ثورة  لايراد بها تناسي ما تعاني منه الأمة اليوم من ضعف وتفكك وتبعية ، وانما الهدف منها هو التأكيد على اهمية ثوابت الأمة في عملية الأحياء ودحض حجج الأستشراق الواهية . 
فهذا احد رواد الأستشراق في القرن التاسع عشر وهو ايرنست رينان يقول في محاضرة له يوم 23 فبراير 1862 عن الشعوب السامية في الكلية الفرنسية :" الأسلام هو النقيض التام لأوروبا . الأسلام هوتطرف لم يوجد له مثيل حتى في اسبانيا تحت حكم فيليب الثاني او ايطاليا تحت حكم بيوس الخامس . الأسلام مناقض للعلم وكبت المجتمع المدني . انها الروح السامية المخيفة تقلص العقل الأنساني وتغلقه امام كل فكرة حاذقه وشعور سامي وتحقيق منطقي وتواجهه بالمصطلح الأبدي : " الله هو الله " ويضيف قائلا : " في العلم والفلسفة نحن ( الأوروبيون) ننتمي كليا الى اليونان". وفي محاضرة لاحقة له بعد عشرين عاما القاها في جامعة السربون وكانت بعنوان " ألأسلامية " أكد رينان ما قاله سابقا واضاف ما معناه بان الأسلام أساء الى العقل وقد جعل المناطق التي احتلها مغلقة امام التحليل المنطقي [2]
ولازال اتباع مدرسة رينان موجودون بل أن بعضهم من بني جلدتنا ويعيشون بيننا وبعضهم كاد أن يكون أكثر استشراقا من رينان نفسه ، ولم نكن لنعترض على هذه الفئة الأخيرة لو انها درست مبايء الأسلام بحيادية كما درست المباديء الأخرى ولكنها اختارت طريقا أقصر، فقد نظروا الى واقع المسلمين في أسوأ احواله ، اي في ظل اتساع الفجوة بين المباديء والممارسات ونظروا الى الجوانب المشرقة في الغرب ، فوقعوا فريسة
لمصدية الأستشراق وتحولوا من حيث علموا او لم يعلموا الى معاول تهديم من الداخل ، فنرى احدهم يخوف أبناء جلدته من العودة الى العصور الظلامية التي كان الدين مسيطرا فيها متناسيا أن هذا المصطلح غريب على امتنا لسبب بسيط وهو انه مصطلح يعود الى زمن كانت فيه الكنيسة في الغرب تعذب وتحرق العلماء
لأنهم بدأو يتأثورن بشعاع الحضارة الأسلامية التي كانت تعيش في هذه الفترة عصرها الذهبي في الأندلس والقاهرة وقرطبة وبغداد ، فاين الظلام الذي يتحدث عنه هؤلاء ؟ 
هذا يعني انه بينما كانت ممارسات الكنيسة عندهم مؤدية الى عصور الظلام كان تمسكنا نحن بثوابت ديننا سببا في عصرنا الذهبي، وعندما أبتعدنا عن المنابع الصافية لحضارتنا وبدأنا نتلقى افكارنا وممارساتنا من مواصير انظمة الأستبداد وأبواقها بدأت امتنا في الأنحدار ، وحتى برنارد لويس –المستشرق اليهودي – سخر من هذا الأستلاب الحضاري الذي يعاني منه بعض أبناء جلدتنا عندما قال في أحد كتبه المعنون " أين الخطأ": " ان الذين يدعون بان الأسلام عقبة في طريق الحرية والعلم والتنمية يتناسون ان المسلمين كانوا روادا في هذه ألأصعدة الثلاثة عندما كانوا قريبين من اصول دينهم ، ويضيف قائلا اننا يجب ان نتساءل "عن ماذا فعل المسلمون بالأسلام وليس العكس ؟"وقد أصاب الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان عندما قال " ليس في العالم من جديد غير التاريخ الذي تجهله " وأي جهل اعظم من جهل الأنسان بتاريخه وارثه الحضاري .
غير ان الغرب ليس كله استشراقيا بل ان فيه من العقلاء الذين دافعوا عن الأرث الأسلامي أكثر من دفاع اهله عنه وسنذكر هنا بعض الأمثلة تقديرا لهم . 
فهذا الفيلسوف الغربي ديورانت يقول في كتابه عصر الأيمان ، كما ينقل الرئيس ألأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه " اغتنم الفرصة – صفحة 199- انه عندما كانت أوروبا تغط في سبات عميق في القرون الوسطى ، كانت الحضارة العربية الأسلامية تعيش عصرها الذهبي ، حيث كانت لها مساهمات في شتى فروع المعرفة ، كالعلوم الطبيعية والطب والفلسفة ، فابن سيناء كان اعظم كاتب في الطب ، والرازي كان أعظم طبيب ، والبيروني كان اعظم عالم جغرافي ، وابن الهيثم كان رائدا في البصريات  وجابر بن حيان كان أعظم كيميائي ، وابن رشد كان أعظم الفلاسفة " ويضيف ديورانت قائلا : " لقد كان للعرب دور محوري في تطوير منهج البحث العلمي ، فعندما نقل روجرز بيكون منهج البحث العلمي الى أوروربا ، كان قد تاثر في ذلك بالعرب المسلمين في أسبانيا" ، ويختم حديثه بالقول "ان علماء النهضة الأوروبية قد وقفوا على أكتاف عمالقة العرب وهم يؤسسون لحضارتهم المعاصرة ". 
أما ديفيد لاندس ، مؤرخ التاريخ الأقتصادي المعاصر وصاحب كتاب " ثروة وفقر الأمم" فيذكر في كتابه هذا(ص.54) "أن الفترة ما بين 750 و1100 ميلادي قد شهدت تفوق العلوم والتقنية التي كانت عند العرب والمسلمين ، على تلك التي كانت عند الأوروبيين " مؤكدا " أن أوروبا قد حصلت على هذه العلوم من خلال اتصالها بالعرب المسلمين في اسبانيا، وأن ألأسلام كان أستاذا لأوروبا خلال هذه الفترة ". 
هذا عن دور العرب والمسلمين في العلوم اما عن اخلاقهم في الحروب فانه يقول بالحرف الواحد " عندما احتل الصليبيون القدس في العام 1099 عاثوا فيها فسادا ، فدمروا ، واغتصبوا ، وقتلوا ، بينما عندما استعاد صلاح الدين القدس للمسلمين في العام 1187 حافظ عليها ، ولم يفعل ما فعله الصليبيون " .
 اما روبرت بريفولت صاحب كتاب " نشأة الأنسانية " فيقول في الصفحتين 188-189 من كتابه " ان نهضة أوروبا المعاصرة الفعلية بدأت في ظل اليقظه الثقافية للعرب والمور( المسلمون الأسبان) ولم تبدأ في القرن الخامس عشر. فاسبانيا وليست ايطاليا كانت مهد ولادة الحضارة الأوروبية . ففي الوقت الذي انحدرت فيه أوروبا الى قاع الجهل والأنحطاط ، كانت مدن كقرطبة وبغداد وطليطلة والقاهرة مراكز للحضارة والأبداع الفكري
 ويضيف قائلا :ان الغالبية من الأوروبيين ظلوا ينكرون هذا الفضل للعرب .
وفعلا فان كثير من الغربيين قد طمس هذه المساهمات الرائدة للحضارة العربية الأسلامية ، فاليوم كثير من ادبيات النهضة في الغرب تتحدث عن الحضارة الأغريقية والرومانية حتى عام 300 ، ثم تقفز فجأة الى عصر التنوير في الغرب أبتداءا من عام 1500 متجاهلة العصر الذهبي للمسلمين الذي امتد ما بين 800 الى 1500 ، وقد اطلق احد المؤرخين الغربيين على هذا الطمس لتاريخ المسلمين مصطلح " الثقب الأسود في التاريخ " كناية عن تجاهل هذه المرحلة من قبل الغرب ، وهي المرحلة التي ينبغي على المسلمين  كشفها للعالم ليس من باب التباهي، وانما لحفظ تاريخ المسلمين ، ودحض ادعاءات المستشرقين ، وغرس الثقة في عقول وقلوب جيل الربيع العربي بان ثوابت دينه كانت سببا في قيام اعظم حضارة واطول حضارة عرفتها البشرية [3]. ففي هذه المرحلة استوعب المسلمون النافع من الحضارات التي سبقتهم ونقدوها من منظور رؤيتهم الأسلامية واضافو عليها ثم جعلوها بعد ذلك خميرة نشات منها الحضارة الغربية المعاصرة [4]. 

هذا ما قاله المنصفون من الغربيين عن آثار الحضارة الأسلامية لأن الحكم على نجاح أي حضارة لايتحقق الا بدراسة ثمرتها على حياة البشر ولفترة طويلة وعلى كل الأصعدة ، فانت قد تبني بيتا يبدو من حيث الشكل جميلا ومريحا ولكنك تكتشف مع مرور الوقت وتعرضه للرياح والأمطار وغيرها من المؤثرات ، أنه أوهن من بيت العنكبوت، لأنه قام على اسس ضعيفة .
هذا في ما يتعلق بأرث الحضارة الأسلامية ومتانتها ، فماذا قالوا عن صاحب الرسالة محمد بن عبدالله عليه افضل الصلاة وهو القدوة الثابتة لأن سيرته هي بمثابة  البوصلة التي نسترشد بها جميعا في تصحيح اقوالنا وافعالنا في هذه الحياة ؟  
يقول مايكل هارت ، مؤلف كتاب " المئة الأوائل : " ان اختياري محمدا ليكون الأول في قائمة اهم رجال التاريخ قد يدهش القراء ، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي ( الصفحة 21 في الطبعة المترجمة- دار قتيبة) . 
أما برنارد شو الفيلسوف الغربي فانه يصف الرسول ورسالته بالقول : "لقد كنت دائما اكن احتراما كبيرا لدين محمد بسبب ما يتصف به من حيوية . فهو الدين الوحيد الذي تتصف مبادئه باستيعاب مستجدات الحياة مما يجعله صالحا لكل الأزمان . لقد درست حياة الرجل الرائع – وفي اعتقادي انه يجب ان يعتبر بمثابة منقذ للبشرية ، واعتقد ان لو ان رجلا كمحمد تولى قيادة العالم المعاصر فانه سيتمكن من حل كافة مشاكله بصورة تحقق الأمن والسعادة " ، وينهي برناد شو حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول: " انني اتنبأ بأن اوروبا  ستقبل على دين محمد في المستقبل كما اقبلت عليه في الماضي "[5].
أما نقاء واصالة مرجعية مبادئنا وحفظ قرآننا من التحريف فيؤكدها الغربيون أنفسهم ، فهذا العالم والطبيب الفرنسي المعروف موريس بوكاي يصدر كتابا عنوانه " الأنجيل والعلم والقرآن" يؤكد فيه نتائج مقارنته بين نصوص القرآن والتوراة والأنجيل من جانب ، والحقائق العلمية المؤكدة من جانب آخر ، ويخرج بعدة نتائج أهمها أن القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي لم يتعرض للتحريف لأنه لايتعارض مع حقيقية علمية واحدة الى يومنا هذا ، بينما هناك تضارب كثير بين التوراة والأنجيل وبين العلم ( الصفحات 249-252) . 
لذلك  عندما نسمع اليوم البعض من قليلي الزاد في التاريخ أو ذوي النوايا السيئة يقول ان في العودة الى التاريخ الذهبي لهذه الأمة هو تخلف أو ظلامية العصور الوسطى ، نقول له ان معلوماتك التاريخية خاطئة لأنها تعبر عن تاريخ غيرنا ، وهي كذلك ضارة لأنها تحرمنا من معرفة عوامل القوة التي كانت تحرك حضارتنا عندئذ ولم تعد موجودة اليوم ، فالأنسان قد يسيء فهم المباديء او ينحرف في تطبيقه لها مما يعني ان المباديء قد تكون سليمة ولكن التقيد بها لم يكن كذلك . 

فليست هناك من مقارنة بين الصديق رضي الله عنه وهو يقول: "الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ..." ، وبين حاكم  في زمننا هذا ينهب وأعوانه ثروات الأمة ثم يقوم بقطع يد من يسرق جهلا أو حاجة مدعيا أن هذا هو دين الله . 
وليس هناك كذلك مجال للمقارنة بين أن يشكر عمر الفاروق رضي الله عنه ربه لأن في امته من سيقوم اعوجاجه بحد السيف ، وبين حاكم في زمننا هذا يقتل ويسجن ويصادر حرية شعبه ويتعاون مع اعداء الأمة من اجل ان يستمر في كرسيه ويبقي أمته في حضيض الذل ، فبالله عليكم أي العصرين أحق ان يطلق عليه مصطلح العصر الظلامي ؟ أهو العصر الماضي الذي كان يمثله الصديق والفاروق ، أم العصر الحاضر الذي يمثله حكام نصبهم الأستعمار فأساءوا الى دين الله والى تراث هذه الأمة وجعلوا شعوبها أذلة في أوطانها ؟ " .
والغريب انه عندما تجسس الرئيس نيكسون على خصومه الديمقراطيين في بداية سبعينيات القرن الماضي تم عزله من قبل الكونغرس الأمريكي ولم يتحدث احد عن خلل في الدستور الأميركي وهو دستور وضعه الأنسان نفسه ، فلماذا اذا انحرف الحكام عندنا عن مبادئنا الربانية نتجه الى مهاجمة ديننا وثوابتنا الحضارية بدل ان نوجه أنظارنا الى اهل هذا الأنحراف لأعادتهم الى الطريق السوي ؟ هذا في الوقت الذي تزداد فيه حاجة البشرية الى المباديء الأسلامية يوما بعد يوم وسنذكر هنا فقط مثالين اقتصاديين على ما نقول . 
فمنذ عشرين عاما اعترف الأقتصادي الفرنسي موريس أليس الحائز على جائزة نوبل في الأقتصاد بأن استقرار الأقتصاد العالمي يتطلب تخفيض سعر الفائدة الى الصفر وفرض ضريبة قدرها 2% ، ولاشك ان هذا الأقتراح هو منسجما مع روح الأقتصاد الأسلامي الذي يحرم الربا ، اي يجعل الفائدة صفرا، ويفرض زكاة قدرها 2.5% على الأموال بعد توفر عدد من الشروط ، أما آخر اعتراف بمتانة وصلابة المباديء ألأسلامية فهو ما طرحته جريدة الفاتيكان الرسمية في عددها الصادر في 5 مارس 2009 خلال الأزمة المالية التي عصفت بالعالم منذ عام 2008 ، من أن مباديء التمويل الأسلامي فيها حل للأزمة المالية وقالت: " ان الأسس الأخلاقية التي يقوم عليها التمويل الأسلامي يمكن ان ترمم علاقة المتعاملين مع مصارفهم وان تعيد هذه المصارف الى الروح الحقيقة التي يجب ان تسود في كل المعاملات المالية " .
غير اننا اذا تذكرنا ان الأستشراق بصوره القديمة والحديثه هو ليس أكثر من أداة من أدوات السيطرة على هذه المنطقة وثرواتها ومواقعها ألأستراتيجة وحماية الكيان الصهيوني ، فان الدعوات التي نسمعها من الغرب خاصة بعد الربيع العربي والتي تطالب بتبني النظام الليبرالي الغربي هي في الحقيقة محاولة لأبعاد الأمة عن ثوابتها الحضارية وايقاعها في مصيدة جديدة لتسهل السيطرة عليها ، اكثر منها رغبة في نشر الحرية وتحقيق الوحدة والتنمية في المنطقة العربية ، لأن تحقيق هذه ألأهداف يتصادم مع مصالح الغرب بصورة صارخة كما بينا في كتاب حديث لنا يمكن العودة اليه ( مجلس التعاون الخليجي في مثلث الوراثة والنفط والقوى الأجنبية) ، وبالتالي فان هذه  الأصوات الرسمية الغربية التي نسمعها تطالب بحرية العرب هي منافية للسجل التاريخي للغرب في المنطقة  ولاينبغي ان نهتم بها كثيرا ، بل اننا يجب ان نتوقع بأن تسعى الولايات المتحدة خاصة ، كما يقول الكاتب الأمريكي شوموسكي ، أن تعيق عملية التحول الديمقراطي في المنطقة العربية وان تجعلها مسقوفة وشكلية كما فعلت في كثير من الدول ، لأن التحرر الكامل لأنظمة الحكم في المنطقة العربية يعني تغيير في موازين القوى تجاه الغرب واضرار بمصالح الدول الغربية لصالح شعوب المنطقة [6]
لذلك فاننا نتمنى على جميع أبناء هذه الأمة خاصة أولئك الذين يرغبون في استنساخ تجربة الغرب من غير وعي بدينهم ولا بدراسة كافية لأفرازات وواقع النموذج الغربي الحالي انهم بفعلهم هذا يصادرون حرية الأمة في ممارسة دينها والتمسك بقيمها ، وهذا يعني انهم يفتعلون بموقفهم هذا – بادراك أو بغير أدراك- صدامات وخلافات غير مبررة مع الغالبية العظمى من أبناء هذه الأمة ، وحتى اذا أرادوا جدلا أبعاد الأسلام كليا عن الساحة فعليهم ان يقنعوا الأمة بذلك من خلال صناديق الأقتراع وليس بالأنقلابات أو بالتعاون مع الأجنبي، هذا اذا لم تكن قد وصلتهم رسائل الشعوب العربية عندما كسرت اغلال الأستبداد وصوتت في انتخابات نزيهه في مصر وتونس وغيرها ، والا فانهم سيكونون قد مارسوا نوع من الأرهاب الذي طالما اتهموا به الأسلاميين وتخلوا عن الحرية التي طالما تغنوا بها لأن صناديق الأقتراع النزيهة = حرية +عدالة + استقرار + استقلال + أزدهار ، وغياب هذه الصناديق يعني عكس هذه الأمور . 
نقول ذلك لأن صناديق الأقتراع هي بمثابة الماء الجاري الذي سيؤدي تدريجيا الى تصفية واقع الأمة من آفات الأستبداد وألأستقطاب والتهميش باشكالها ، أما اذا كانوا يؤمنون بحرية وحق الأمة او غالبيتها بالتمسك بأصول دينها مع تخوفهم من سوء استغلال الدين من قبل حزب أو جماعة ، فعندئذ يمكن الأنتقال الى تعريف هذه الثوابت ووضعها في الدستور وترك قضية نشرها والتوعية بها لمؤسسات المجتمع المدني تجنبا لأي سوء أستغلال .

 وفي اعتقادنا ان ادراك كافة أبناء العرب بما فيهم الأخوة المسيحيين لهذه القضية والتعامل معها بعقلانية هو المدخل الطبيعي لحل اشكالية الأصالة والمعاصرة ، بل نكاد أن نجزم أنها السبيل الوحيد لأخراج الأمة من المصيدة التي وقعت فيها والتي نرى بعض صورها في ما بعد الربيع العربي .

 [1] Edward W. Said , Orientalism : 25th  Anniversary Edition With a New Preface by the Author ( New : Vintage Books, 1979) , pp.XV-XXX.
[2] Tariq Ramadan , Islam and the Arab Awakening ( Oxford : Oxford University Press, 2012) , p.17.
[3] H.J. Morowitz, “ History’s Black Hole, Hospital Practice ( May 1992) , pp.25-31.
[4][4] M. Basheer Ahmed et al , Muslim Contributions to Moslem Civilization  ( Herendon(VA): the International Institute of Islamic Thought , 2005) , pp.xviii-xx.
[5] Sir George Bernard Shaw, in ‘The Genuine Islam,’ Vol.1, No.8. 1936.
[6] “Chomsky: Arab Spring’s Threat to Western Colonialism,” May 11, 2011, http://forafreeegypt.blogspot.com/2011/05/chomsky-arab-springs-threat-to-western.html


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق