الخميس، 1 يونيو 2017

يحكى أن: هل نالت الفتنة منك؟


يحكى أن: هل نالت الفتنة منك؟


أسعد طه
حذروني منه، قالوا لي سوف يضجر بتعليمات التصوير، وقد يفقد أعصابه معك، فتحّمل ثورته. في الموعد وصل الرجل بشوشاً لطيفاً كأنه طيف، أبدى استعداده لفعل أي شيء حتى يدلي بشهادته عن رئيسه المتوفَّى، مَثَله الأعلى، موضوع حكايتنا.

تمعَّنت في هيئته وهو منهمك في الإجابة عن أسئلة الحوار، لقد بدا الرجل بنظارته السميكة ويديه المرتعشتين عجوزاً هرماً خارج إطار الحاضر، طلبنا منه أثراً له من صباه، أخبرتني صوره أنه كان شاباً جميلاً، أنهينا الحوار، خرجنا إلى شوارع المدينة.

كان كل ما حولي خلاباً، الصبايا والشباب والشجر وحتى الحجر، هرج ومرج وفرح، والرجل يمشي بينهم، لا أحد يأبه له، لا أحد يهتم به، لا أحد يعرفه، ولا أحد يدرك أنه لولا هذا الرجل ورفاقه ربما ما بقيت مئذنة، ولا سمع في الأنحاء "حيَّ على الفلاح"، ولا سُمِّي طفل بأسماء المسلمين، ولا بقي قبر منقوش عليه "الفاتحة". هو ليس زعيماً سياسياً، ولا رجل أعمال، ولا فناناً ولا كاتباً، هو ليس سوى "مصطفى"، سار بينهم مبتسماً ورحل.

سرحت في شأنه، لقد أفنى هذا الوسيم شبابه في دعوة الناس إلى ما يؤمن به والدفاع عنه، تحمل السجون وضيق الحال وفقدان الوظائف ونظرات المجتمع له. يا إلهي، سهلٌ أن تتشبث بما تؤمن به عاماً أو عامين أو عشرة، لكن البقاء هكذا طوال عمرك أمر صعب.

ما أجمل هؤلاء الناس! إنهم يمضون في الحياة بلا ضوضاء ولا صخب، مجهولين، يؤدون في هدوء أدوارهم كاملة ثم ينصرفون، لا ينتظرون أجراً ولا شكراً، تمر السنون، تتغير عليهم الدهور، وهم ثابتون على نفس المبدأ، لا يرضخون لأي تهديد ولا يستجيبون لأي إغراء.

ليس سهلاً عليك أن تثبت وأنت تجد نفسك وحدك، كل من حولك مختلف عنك، في الفكر والمعتقد، في الآمال والآلام، إنه الشعور بأنك أقلية، وهو شعور يُضعِف، ويُشكِّك فيما تؤمن به، ويُثخن في عزيمتك.

تُرى لماذا نحترم هؤلاء الثابتين على قيمهم برغم أنهم ربما لا يحملون نفس أفكارنا ولا نفس معتقداتنا؟ أهو السر في الإخلاص، مبدأ العطاء بلا مقابل، منطق الجندية للفكرة وليس للأشخاص أو المنصب؟

كم زعيماً سياسياً، كم قائداً عسكرياً، كم مفكراً، التقيته وشعرت بأنه على استعداد للقفز من الخانة التي يقف عليها ويستمد منها قوته إلى الخانة المقابلة؟ إنه جاهز للتنازل في اللحظة التي يوعد فيها بمغنم أكبر من مغنمه الحالي.

عندما أتابع الإعلام المرئي في بلدي يرد إلى ذهني فوراً مشهد القرود في حديقة الحيوان وهي تقفز من شجرة إلى شجرة، لا مانع لدى بعض هؤلاء من القفز من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يمدحون هؤلاء وهم في السلطة، وفي اليوم التالي يمدحون معارضيهم إذا أسقطوا الأولين وحلّوا مكانهم.

أليس من المضحك أن زعماء جمهوريات الاتحاد السوفييتي كانوا قيادات شيوعية عريقة، فلما سقط هذا الكيان كفروا بشيوعيتهم وأعلنوا إيمانهم بالديمقراطية، وإن ظلوا على عقيدتهم الشمولية يمارسونها سراً، يعتقلون ويسفكون الدماء ويسرقون؟ وفي المقابل كم من البسطاء كانوا يدفعون الثمن، بنفس راضية وبعزيمة لا تهدأ وبثبات يبهرك.

من نكات البلقان المشهورة، التي تنسب أحياناً للبوسنة وأحياناً إلى ألبانيا، أنه بعد سقوط الدولة العثمانية، وبالتالي سقوط المناطق التي كانت تحميها في البلقان، بدأت حملة شرسة لتنصير الأهالي، وفي إحدى القرى اصطفَّت مجموعة من المسلمين للتنازل رسمياً عن هويتهم وتغيير أسمائهم رغبة في النجاة من التهجير أو القتل وطمعاً في الوظائف، ولما كانت الإجراءات تسير بطيئة، والوقت يمر سريعاً في ذلك اليوم من الأسبوع، صاح عجوز ببساطة شديدة، أسرعوا أسرعوا لا نريد لصلاة الجمعة أن تفوتنا!

ويكأن حتى هؤلاء الضعفاء تظاهروا بأنهم تنازلوا، فيما استمر ثبات قلوبهم على ما يؤمنون به، ويكأنه يجب ألا نطلب من كل الناس أن يخوضوا حروبهم كأبطال، البعض يختار أن يحتال ليخفف عن نفسه وطأة الثمن، لا بأس، شرط أن يظل ثابتاً على ما يؤمن به، شرط ألا يبدأ في التنازل خطوة خطوة.

بالمناسبة، فإن أحداً لا يتنازل فجأة عن مبادئه، الكارثة قرينة الخطوة الأولى، تخطوها على السلم هابطاً، وبعد ذلك تُفتَح أمامك وتُبرَّر كل أبواب التنازلات، تماماً كما يصف القتلة فعلهم، أول مرة صعبة للغاية، لكنك بعد ذلك تعتاد القتل وتبرره. الذنب كذلك، والتنازل كذلك، أليس التنازل ذنباً؟

الصمود صعب لكنه ليس مستحيلاً، يغيظني الصالحون، إنهم يثبتون أن ذلك ممكن، لكن هل تعلم أنك إذا ما مررت بفتنة وثبتَّ فيها على ما تؤمن به، فإن ثمة فتنة أخرى تنتظرك، ربما أشد من سابقتها، أو مختلفة عنها، فإذا مررت بها كانت تنتظرك أخرى، وهكذا دواليك، وكأنك في معمل لصهر المعادن، تمر من مرحلة إلى مرحلة، حتى تصبح نقياً تماماً، وفي خضم ذلك فإنك تَعُدُّ الأذى الذي يقع عليك، وتَغفل عما حصدته من نِعم.

مثلاً، تُضطر إلى أن تهجر وطنك تحت ضغوط سياسية أو أمنية محاولاً أن تنجو بما تؤمن به، تعاني كل صنوف المعاناة، تمر سنواتك ثقيلة مجهدة، ثم فجأة تجلس لتحصي حصاد هذه التجربة، فتكتشف أنها قد خلقت فيك شخصاً آخر، ومنحتك قدرات وملكات لم تكن لتتمتع بها لو بقيت حيث وُلدت، أنت الآن شخص جديد، وقد رزقت مفاهيم أخرى للحياة، وطرقاً جديدة لاكتشافها، وتجربة إنسانية ثرية، حتى تكاد تشكر الفتنة على ما فعلته بك.

حين أسافر وأسير في طرقات غير عربية، أنظرُ إلى هؤلاء فأراهم متسكعين غرباء في شوارع وأزقة مدن غير مدنهم، وبين أناس غير أهلهم، يتحدثون بلسان غير لسانهم، إنهم ساخطون، متذمرون، يعتقدون أن الدنيا قد غضبت عليهم وغدرت بهم ولفظتهم، يقضون أوقاتهم في الشكوى من الحال، ومؤامرات الكون عليهم، والتضحيات التي تحمّلوها من جراء تمسكهم بمبادئهم.

وددت لو أعانقهم واحداً واحداً، وأخبرهم أنني إذا منحت الحياة وعدت إليهم بعد سنوات لأجدنَّهم وقد تغير حالهم إلى ما لم يكونوا يحلمون به، لكنني أمسك عن ذلك، فالأمر مشروط بمبدأ مهم، وهو كيف يدير المرء فتنته، كيف يفكر ويخطط ويخوض التجربة تلو التجربة، فهؤلاء وحدهم الذين يتغير بهم الحال إلى الأفضل.

ولكن.. مهلاً ما الفتنة التي تُحدثنا عنها وما تعريفها؟

حسب "لسان العرب" فإن الأزهري قال: "إن معنى الفتنة هو الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتَ الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد"، يا إلهي إنها النار إذاً، تؤلمك جداً، لكنها تنضجك كثيراً.

غير أننا معشر المخلوقين، نعتقد أن الفتنة التي تحاول أن تنزعنا من مبادئنا محصورة في الأذى، والحقيقة أن للنار أشكالاً متعددة، خذ عندك مثلاً هذا الشخص الذي عرفته فقيراً مسكيناً مضطهداً في وظيفته، فإذا بالدنيا تفتح أبوابها عليه، فينال المنصب والثروة، فإذا هو شخص جديد، مختلف تمام الاختلاف وقد ضيع مبادئه وقيمه، بعد أن قدم التنازل تلو التنازل حتى بات شخصاً آخر، شخصاً أسوأ هذه المرة.

والمبادئ ليست بالضرورة أيديولوجيات، وإن كانت تلك من ضمنها، وإنما هي تلك القيم التي يختارها المرء لنفسه، والتي هي بقدر ما تكون واضحة له تصبح قدرته على اتخاذ القرار أكثر سهولة.

يا عزيزي المقاوم.. إذا صمدت فإن الفتنة تزول وتبقى نفسك كريمة عزيزة، تستطيع النظر بفخر في عيني امرأتك وأطفالك، فيما آخرون لن يكون بوسعهم ذلك أبداً.

لكن هل الثبات على ما نؤمن به في مطلقه ممدوح؟
وماذا إذا اكتشفت أنك على خطأ، أو حتى بعض ما تؤمن به خطأ، هل تتغير؟
يا صاحبي.. الثبات لا يعني الجمود، ثم أنت لا تتبع قيمك؛ لأنك تقدسها في حد ذاتها، ولكن لأنك تعتقد أنها دربك إلى الحقيقة، فإذا اكتشفت أنك في حاجة إلى تصحيح دربك أو تغييره كلياً حتى تصل إلى ما تبغي أن تصل إليه، إذا اكتشفت هذا الأمر ولم تفعل، فإن ذلك هو الخيانة الواضحة والصريحة، وهنا تكون الفتنة قد نالت منك بحق.








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق